أصول الليبرالية

أصول الليبرالية | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2197 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الفكر الليبرالي فكر عائم يعتمد على حق الفرد الواحد في اختيار ما يريد؛ ﻷنه هو الخالق لأفعاله، ولهذا فهو لا يُقر بوجود مقدّس مشترك معيّن منضبط، لا رب ولا كتاب ولا نبي ولا غير ذلك، سواء كان مفكرًا أو غيره، ولا دستور لا يحتمل التغيير متى ما احتيج إلى تغييره، ولا يمكن ضبط هذا الفكر ضبطا دقيقًا حتى لدى الفرد الواحد إلا في لحظة واحدة؛ ﻷنه ربما بعد تلك اللحظة يتحول عن كل معتقداته، وله الحق في ذلك، فيتغير معه ضبط الفكر أصولا وفروعًا.

 

أصول الليبرالية ومآلاتها

 

والفكر الليبرالي يقرر أن الإنسان هو الذي يُحدث أفعاله ويختارها ابتداء، من غير أن تكون مقدّرة عليه قبل ذلك؛ أي: سابقة في علم الله، ويرفض الليبراليون تفسير أفعال الأفراد تفسيرًا سببيًا، ويعللون ذلك بأنه لو صح التفسير الحتمي للأفعال لانعدمت مسؤولية الفرد عن أفعاله، والعجب أنهم مع إيمانهم بقانون السببية الذي يضبط الطبيعة إلا أنهم يستثون الإنسان منه والمتأثرون بالفكر الليبرالي من الشرقيين لا يتحدثون عن هذا الأمر كثيرًا مع اقتناعهم به؛ لموافقته اعتقاد القدرية المعتزلة الذين ينفون القدر، وينفون علم الله بالحادثات المستقبلية من الإنسان إلا عند حدوثها.

 

والحق الذي يشهد به القرآن والسنة وتُجمع عليه الأمة أن أفعال العباد من خلق الله وإيجاده، وهي من العباد فعلا وكسبًا، وهم الفاعلون لها، وهذا لا ينفي تقدير الله وعلمه بها، قال تعالى "والله خلقكم وما تعملون" فالله أضاف العمل إليهم، وﻷن العمل حاصل بإرادة الله وتقديره وقدرته كان خالقًا له، ومن قال: إن الإنسان يخلق أفعاله من دون الخالق سبحانه، فقد جعل في الكون خالقين، وهي عقيدة المجوس.

 

وعادة الفكر الليبرالي عدم إثارة أمور الغيب الإلهي والاقتصار على المادة وما دونها، ولهذا لا يرغب أكثرهم في الحديث عن الخالق سبحانه، وأمور الآخرة والدين.

 

وبالرغم من تشعّب الفكر الليبرالي وتشتته إلا أن من مبادئه أن الأصل في السلوك والممارسات إمكان الانضباط، حتى في سلوك الحيوان البهيم، فلجميع أنواع الحيوان غير العاقل سلوك يمكن ضبطه، ويظهر هذا في مواضع كثيرة في القرآن؛ كما في قوله تعالى عن النمل "قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وجنوده وهم لا يشعرون" فثمة آمر ومأمور، وساكن ومسكون، ونطق ومنطوق، وحد للسمع والطاعة.

 

وقد صنف غير واحد من الفلاسفة والكتاب في سلوك الحيوان وانتظام عمله، وهذا يدركه من نظر في كتاب "الحيوان" لأبي عثمان الجاحظ (ت255 هـ)، و"حياة الحيوان الكبرى" لأبي البقاء الدّميري (ت808 هـ) "وسلوك الحيوان" لجون بول سكوت. والإنسان العاقل مهما كان منفلتًا يمكن ضبط سلوكه وتصرفاته، ولو في دائرة عامة عريضة الاتساع، كذلك الفكر الليبرالي لا يخرج عن هذا التأصيل، وبمجموع فلسفات العقل الليبرالي وممارساته فأصوله التي يُحاكم إليها أربع لا يخرج عنها بجميع تطبيقاته كما يأتي بيانها.

 

الليبرالية الشرقية

 

وكثير من الليبراليين الشرقيين لا يُحسن إرجاع شتات أفكاره وفروع أقواله وأفعاله ولوازمها إلى أصول صحيحة ثم يحاكمها إلى العقل الصحيح، والنقل الصريح، فيعرف حدوده التي له والحدود التي عليه، وبعضهم يدرك أصلا أو أصلين ولا يدرك الباقي، وبعضهم يدرك ممارسات قليلة يحتاجها من كل أصل، وعند الاصطلاح يأخذ المفهوم الليبرالي على النحو الغربي الذي يتعامل مع الليبرالية كأصل واحد مبدؤه العقل ومنتهاه العقل.

 

ومن البدهيات العقلية أن من لم يقم بالتحليل فإنه يشق أو يتعذر عليه التركيب، فتحليل الأفكار يُسهّل فهمها، وأعمق الناس معرفة في الماديات والمعارف من عرف الشيء بتحليل أجزائه ثم تركيبها، والفكر الليبرالي فكر فضفاض متحلل إلى جزئيات عريضة في أذهان معتنقيه، يتعاملون مع كل جزئية من تطبيقاته على انفراد، وإن أحسنوا إرجاعها إلى الأصل الليبرالي العام، ولهذا يقعون في تناقضات كبيرة جدا في تقرير الإيمان بالله والعبادة له وحده، وفي العلاقة مع الآخرين ومع أفعال الذات نفسها؛ لأن تلك الجزئيات غير مرتبطة ببعضها تحت أصل.

 

والأصل يوازيه أصول، وتحت الأصول الأخرى جزئيات كبيرة، وقد تجد ليبراليا يجيز الانتحار (قتل النفس) وآخر لا يجيزه، وآخر يقر أنظمة الحكم الملكي، بل يعمل على سنّ أنظمتها، وآخر يحاربها، وآخر يجيز قمع المخالفين بالرأي له وسجنهم؛ ﻷن حريتهم تتقاطع مع حريته، وآخر يراها ديكتاتورية، وآخر يجيز الزنا، وآخر لا يجيزه، وغير ذلك كثير، وهذا من أكبر وجوه الخطأ في الليبرالية التي جعلتها غير منضبطة.

 


 

المصدر:

  1. العقلية الليبرالية في رصف العقل ووصف النقل، عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، ص 143
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية
اقرأ أيضا
لغة أضاعها أهلوها | مرابط
لسانيات

لغة أضاعها أهلوها


صرت تقرأ كتبا ومقالات لقوم من أشباه العوام وهم عند الناس كتاب ومؤلفون يلحنون في الفاعل والمفعول وهم من أئمة الأدب وأعيان الأدباء ما قرؤوا يوما كتابا في نحو ولا صرف ولا تمرسوا بأساليب العرب ولا عرفوا مذاهبها في كلامها وهم أساتذة الأدب الرسميون في الثانويات والجامعات

بقلم: علي الطنطاوي
693
أهمية العلم ولزوم الدليل | مرابط
مقالات

أهمية العلم ولزوم الدليل


ومن أحالك على غير أخبرنا وحدثنا فقد أحالك: إما على خيال صوفي أو قياس فلسفي. أو رأي نفسي. فليس بعد القرآن وأخبرنا وحدثنا إلا شبهات المتكلمين. وآراء المنحرفين وخيالات المتصوفين وقياس المتفلسفين. ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل. ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة. وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم والشيطان الرجيم.

بقلم: ابن القيم
401
الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال


والكيان الصهيوني غرس غرسا في فلسطين ليلعب دورا قتاليا ضد المنطقة العربية وعلى مستوى من المستويات يمكن القول إن المشروع الصهيوني كان يهدف إلى نقل الفائض البشرى اليهودي من أوروبا إلى فلسطين وتحويله إلى مادة قتالية تخدم المصالح الغربية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
572
أثر نظرية التطور على الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

أثر نظرية التطور على الدين


مقتطف من كتاب ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث للدكتور سلطان العميري يتحدث فيها عن أثر نظرية دارون على الدين حيث كان لهذه النظرية أثر بليغ وخطير على العقل الغربي بأجمعه ونتيجة لذلك التأثير جعل روبرت داونز كتاب أصل الأنواع لدارون مندرجا ضمن قائمة الكتب التي غيرت وجه العالم

بقلم: سلطان العميري
531
النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات الجندرية

النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول


النسبوية وإن كانت فلسفة قائمة بذاتها إلا أنها أيضا عماد نظريات ما بعد الحداثة وأثرها عارم في مئات الأفكار الغربية والعالمية وفي اليسار الليبرالي خاصة وسنتخير الحديث عما يوضحها لنا كموثر على المسار الفلسفي اللوطي موضحين كيف كانت تلك الفلسفة أحد أسس التكوين

بقلم: عمرو عبد العزيز
2257
لا يدري ولا يدري | مرابط
مقالات

لا يدري ولا يدري


من الناس من لا يدري ويدري أنه لا يدري وهذا جاهل ويعلم أنه جاهل ويسمى جهله بالجهل البسيط. أما قسيمه فهو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فيكون جاهلا بجهله ويسمى جهله بالجهل المركب.

بقلم: د. جمال الباشا
321