إياك نعبد وإياك نستعين

إياك نعبد وإياك نستعين | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

683 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وقول الله جل وعلا: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5].

الكلام على هذا المعنى في معنى: "إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5] هو من المعاني العظيمة الجليلة، تكلم عليها أئمة كثر في تفسيرها، وما فيها أيضًا من معاني العبودية لله سبحانه وتعالى في ربوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته، وتعلق العباد ظاهرًا وباطنًا بالله سبحانه وتعالى وتجرده، فنقول: إن هذه الآية شاملة لجميع أنواع العبادة لله سبحانه وتعالى، وقد صنف ابن القيم رحمه الله في عدة مجلدات كتابه مدارج السالكين بين منازل "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5] جمع أحكامًا كثيرة في أمور العبودية وتوحيد الله سبحانه وتعالى، وأعمال القلوب وتعلق الإنسان بربه سبحانه وتعالى، ويحسن أن يرجع إلى مثل هذا الكتاب.

وفي قوله سبحانه وتعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5] يعني: لا نشرك معك غيرك في عبوديتك سبحانك وتعاليت، "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5]، ذكر العبودية هنا وذكر الاستعانة بعد ذلك، مع أن الاستعانة هي نوع من أنواع العبودية، ولكن ذكرها على سبيل التخصيص بعد الإجمال، وذكر الخاص بعد العام لمزية في باب الاستعانة.

معنى العبودية

وهنا العبودية في قوله: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" [الفاتحة:5] العبودية هي التذلل والخضوع؛ ولهذا تقول العرب: طريق معبد، أي: مذلل، إذا ذلل الناس الطريق بشيء من توطينه وتهيئته للسير، يقول: طريق معبد، كذلك العبد يسمى عبدًا إذا كان متذللًا بين يدي سيده.

وهنا قال: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" [الفاتحة:5] لا نتذلل إلا لك سبحانك وتعاليت، في هذا التذلل إلا لله جل وعلا، والعبادة في ذلك مختلفة: ظاهرة وباطنة، فالباطنة هي أعمال القلب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل على الله سبحانه وتعالى والاستعانة والخشية، وغير ذلك من أمور العبادة، فلا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وأصل ضلال البشر هو في الأمور الباطنة، فإذا ضلوا في الأمور الباطنة اختل لديهم ميزان الباطن واختل لديهم ميزان الظاهر، فإذا خشي غير الله فقد عبده من دون الله، وإذا أحب غير الله سبحانه وتعالى فقد عبده من دون الله؛ ولهذا نقول: إن أصل ومنبت الانحراف في دائرة العبودية لغير الله عز وجل أصله من البواطن.

والإنسان لا يعبد أحدًا إلا وقد صرف شيئًا من أعمال القلب له، سواء كان من الأحجار أو الأشجار أو غيرها، فالذين يعبدون الكواكب أو يعبدون الأوهام من الجن أو الغول، أو يخافون الأشباح ونحو ذلك، يوجد في قلوبهم تعظيم هذه المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فصرفوا لها شيئًا من دون الله جل وعلا.

كفار قريش صرفوا شيئًا من العبودية للجن، حيث إنهم كانوا إذا نزلوا واديًا استعاذوا بعظيم ذلك الوادي، فهذه الاستعاذة من شر الجن بعظيم جن ذلك الوادي هي لياذ بذلك العظيم من دون الله؛ وذلك لأنهم عظموه، ورأوا أن له أمرًا ونهيًا على من دونه من أفراد الجن فاستعاذوا به، ولم يستعيذوا بالله سبحانه وتعالى، فصرفوا شيئًا من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى.

لزوم الجماعة من مفهوم الآية

وقوله جل وعلا: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5] هذا إشارة إلى أمر الجماعة، وهنا ذكر أمر الجماعة في قوله: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5] أي: أن الأصل في أعمال الناس لله سبحانه وتعالى أن تكون جماعية، وهذا يظهر كثيرًا في مواضع من القرآن سواء الصلاة أم غيرها، مثل الإتيان بلفظ الجمع في قوله: (واعتصموا) و(سارعوا) وغير ذلك من الألفاظ، فإنه يتوجه الخطاب إلى أمر الجماعة، وهذا ظاهر أيضًا حتى في هذا الموضع؛ باعتبار أن هذه السورة تسمى سورة الصلاة، وقد أمر الله عز وجل بأداء الصلوات الخمس جماعة، كما جاء ذلك في كثير من المواضع في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضًا في ظواهر القرآن في الركوع مع الراكعين، وهذا يكون في الإتيان إليها جماعة: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5].

العبودية على ما تقدم هي: التذلل والخضوع، ونستطيع أن نقول: إن العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، سواء كانت ظاهرة أو باطنة، ومعلوم أن للقلب قولًا وعملًا، وللسان قولًا ظاهرًا، وكذلك أيضًا للجوارح أعمال كأعمال الإنسان من سجوده وطوافه وغير ذلك.

الاستعانة بالخالق والاستعانة بالمخلوق

ولهذا نقول: إن الإنسان إذا علق ظاهره وباطنه بالله سبحانه وتعالى كان من أهل التوحيد، وبقدر نقصان ذلك يكون بعده عن الله سبحانه وتعالى.

وذكر الاستعانة هنا: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5]، أي: أن الإنسان أصل وجوده في الدنيا لعمل، فإذا أراد العمل فلا بد أن يكون معتمدًا على أحد، فإذا كان معتمدًا على أحد فهو يستعين به، فإذا استعان بغير الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، فنقول: إن الاستعانة في ذلك على ضربين: الضرب الأول: هو أن يستعين بأحد فيما لا يقدر عليه، كالذي يستعين بأحد الموتى، ويستعين بالكواكب والنجوم على طلب حاجة أو قضائها من دون الله سبحانه وتعالى، ويعلم أنها لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، فهذا شرك مع الله عز وجل.

وأما النوع الثاني وهو أن يستعين بالناس على شيء يقدرون عليه، فيقول: يا فلان! أعني على حمل هذا المتاع، أو أعني على هذا العدو الذي تسلط عليّ، فهذا طلب إعانة، ومن العلماء من كره استعمال لفظ الاستعانة إلا بالله سبحانه وتعالى، قال: ويجوز أن يستعمل غيرها، ولكن نقول: لا حرج في ذلك، ولكن النهي في هذا هنا هو أن يصرف شيئًا من ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى لغير الله، والقدرة هي في جعل الأسباب سواء كانت الشرعية أو كانت المادية الظاهرة ألا تكون إلا بشيء ثابت.

مسألة الاستعانة بغير الله

إذًا: الأسباب وتعليقها بالذوات نقول: هي مرتبطة بأمرين: بثبوت القدرة شرعًا، إذا دل الدليل على أن هذا شيء مؤثر، فإن الإنسان لا حرج عليه أن يستدفع تأثيره بما يليق به، فنقول حينئذٍ: إنه لا حرج عليه.

الأمر الثاني: ثبوت ذلك ماديًا كأمور الأدوية والعقاقير وغير ذلك التي يتخذها الإنسان، فيكون للإنسان شيء من التعلق المادي بهذا، نقول: إذا ثبت بأحد هذين الأمرين فلا حرج عليه بقدر، ولكن يجب عليه أن يعتقد أن الله عز وجل جعل هذه أسبابًا، فالإنسان جعله الله سببًا لدفع عدو أو صائل، أو سبب إعانةٍ على حمل متاع أو نحو ذلك، لكنه هو في ذاته ليس لديه قدرة ذاتية قائمة بذاته منفصلة عن عون الله عز وجل وتسديده له.

إذًا: فوجب على الإنسان بكل حال أن يعتمد على الله جل في علاه، ثم بعد ذلك يستعين بغيره بما يستطيع.

"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5]، أشار بهذا إلى أمر الاستعانة، فالإنسان إنما وجد في الدنيا لأجل العمل، فيستعين عند إرادته العمل، فالاستعانة تقع عند إرادة الأعمال، وأكثر من التروك، يعني: أكثر ممن يقصد ترك شيء فلا يستعين عليه، لماذا؟ لأن الترك هو العدم، فهو يستعين على عمله، وهذا هو أكثر الضلال، وبهذا ضل كفار قريش حينما كانوا يصرفون شيئًا من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى إذا أرادوا عملًا، فإذا أرادوا سفرًا ذهبوا إلى أزلامهم وإلى أنصابهم، أو ربما ذهبوا إلى شيء من الطيور من الهامة أو غير ذلك، أو أخذوا طيرًا آخر وطيروه، فإذا ذهب يمينًا تفاءلوا، وإذا ذهب شمالًا تشاءموا، وربما امتنعوا عن السفر؛ ولهذا نقول: إن مثل هذه الأشياء هي أسباب مادية، ولم تثبت شرعًا، والتعلق بذلك ضرب من ضروب الشرك الأصغر، وتختلف في ذلك مراتبه بحسب تعلق الإنسان به.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطريفي
اقرأ أيضا
من الأمور التي أحبها الله لنا | مرابط
تفريغات

من الأمور التي أحبها الله لنا


فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى الله لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تنصحوا لولاة أموركم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال

بقلم: عمر الأشقر
1195
الحلال والحرام في الرسم | مرابط
مقالات

الحلال والحرام في الرسم


مقال موجز فيه تفصيل وتوضيح للحلال والحرام فيما يخص الرسم والنحت وما يندرج تحت ذلك مثل التصاوير والدمى وغير ذلك.. فقد كثر اللغط في هذا الموضوع ولم يعد الناس يتحرون فيه ما يحل وما يحرم وبين يديكم هذا التفصيل للشيخ قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
368
ظهور اليهود المسلمين | مرابط
فكر تفريغات

ظهور اليهود المسلمين


مقطع من محاضرة قديمة للدكتور عبد الوهاب المسيري كان يتحدث فيها عن العدو الصهيوني ووقف على ظاهرة وجود المسلمين اليهود بيننا حتى لو كانوا يصلون ويتمسكون بالظاهر الخاص بالمسلمين ولكن كل هذه ادعاءات فارغة من يحاول النظر إلى بنيتهم الداخلية سيجد أنه أمام صهيوني أو يهودي من الطراز الأول كما يحدثنا عن الدعاية الإسرائيلية وآثارها في بث الرعب في قلوبنا

بقلم: عبد الوهاب المسيري
1155
الأمن نعمة من نعم الله | مرابط
تفريغات

الأمن نعمة من نعم الله


إن الأمن نعمة وأي نعمة فقد امتن الله بها على قريش إذ كانت تعيش في الجزيرة العربية حيث السلب والنهب واعتداء القبيلة على القبيلة الأخرى وفي وسط الجزيرة العربية كانت مكة واحة أمن ولذلك قال سبحانه: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف قريش:1-4

بقلم: عمر الأشقر
633
الميزان العقلي ومنطق اليونان | مرابط
اقتباسات وقطوف

الميزان العقلي ومنطق اليونان


مقتطف فيه رد شيخ الإسلام ابن تيمية على كلام الغزالي الذي جانب الشرع في تفسير معنى الميزان الوارد في القرآن الكريم والسماء رفعها ووضع الميزان وذلك في كتابه المسمى القسطاس المستقيم حيث أرجع موازين القرآن إلى ثلاثة أصول: ميزان التعادل وميزان التلازم وميزان التعاند وهذا هو عين المنطق اليوناني

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2239
الزهد المشروع | مرابط
مقالات

الزهد المشروع


سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفا من كسب الحرام والشبهات وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله وساح في أرض الله والبلدان فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا؟

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
293