التأثر بالأصول الكلامية

التأثر بالأصول الكلامية | مرابط

الكاتب: شيخ الإسلام ابن تيمية

403 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول، ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته، ليس له معرفة بذلك، ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة، لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة.

فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول، وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك.

قيل: هؤلاء أنواع:

نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل، ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال السلف أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقًا لهم، وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه.

وهذه حال مثل أبي حاتم البستي، وأبي سعد السمان المعتزلي، ومثل أبي ذر الهروي، وأبي بكر البيهقي، والقاضي عياض، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي الحسن علي ابن المفضل المقدسي، وأمثالهم.

والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها، كما غلط غيره، فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما.

وهذه حال أبي محمد بن حزم، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وأمثالهم. ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي، وأمثالهما.

ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض.

وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم.

ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار، وتارة يفوضون معانيها، ويقولون تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك، وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة، كحال ابن عقيل وأمثاله. وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع، ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الإشكال، مثل أن يكون رؤيا منام، فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج.

أهل الكلام

ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم، وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية، فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية، التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه، والحديث وأقوال الصحابة، ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهبًا مركبًا من هذا وهذا، وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض.

وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه، كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأمثالهما. ولهذا تجد أفضل هؤلاء، كالأشعري، يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال، ويحكيه بحسب ما يظنه لازمًا، ويقول إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام، من المعتزلة وغيرهم، حكاها حكاية خبير بها، عالم بتفصيلها.

وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم، ومعرفة فساد أقولهم. وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون، فمعرفتهم بذلك قاصرة.

وإلا فمن كان عالمًا بالآثار، وما جاء عن الرسول، وعن الصحابة والتابعين، من غير حسن ظن بما يناقض ذلك، لم يدخل مع هؤلاء، إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعًا، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها، كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم...


المصدر:
شيخ الإسلام ابن تيمية، درء التعارض (٧/ ٣٢ - ٣٦)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#علم-الكلام #ابن-تيمية
اقرأ أيضا
الرقية الشرعية.. بين الطب والوحي | مرابط
أباطيل وشبهات

الرقية الشرعية.. بين الطب والوحي


نسمع بين الفينة والأخرى سؤالا يتردد حول الرقية الشرعية ما رأيك في الرقية الشرعية؟ وإذا كان الطب يؤيدها فلم التداوي بالعلاج إذن؟ لم لا يلجأ الناس للرقية الشرعية فقط دون الأدوية؟ وهل تؤتي أكلها أم أن العلاج المادي أنجع؟ وغير ذلك من الإشكالات والشبهات التي يرد عليها د. مهاب سعيد في هذا المقال الموجز.

بقلم: د. مهاب
418
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات | مرابط
فكر مقالات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات


نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض أجل وهذه الشعوب نفسها هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية يتقنها ويستجيدها ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على...

بقلم: محمود شاكر
1320
ثبات أم موسى أمام الابتلاءات | مرابط
تفريغات المرأة

ثبات أم موسى أمام الابتلاءات


ننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم: ألا وهي قصة أم موسى صلى الله عليه وسلم.. هذه المرأة التي ربط الله على قلبها.. هذه المرأة التي أوتيت خيرا كثيرا.. هذه المرأة بلغ بها الخير أن الله أوحى إليها وحيا من نوع خاص ليس من وحي الأنبياء لما ولدت يوسف وأرضعته أوحى إليها إذا خافت عليه من جند فرعون الذين كانوا يذبحون أولاد بني إسرائيل أن تلقيه في اليم.

بقلم: محمد المنجد
350
ابن تيمية والعقل | مرابط
اقتباسات وقطوف

ابن تيمية والعقل


ينظر كثير من الناس إلى كتاب درء تعارض العقل والنقل على أنه كتاب عقيدة للرد على الرازي والأشاعرة فقط والصحيح أنه -بالإضافة إلى ذلك- كتاب في المنهج منهج تلقي النصوص وتفسيرها وفهمها ومنهج للفهم العقلي بشكل عام فأساس الخلل الذي لحق بكثير من علماء الإسلام هو تخليهم عن المنهج الذي كان يسير عليه علماء الإسلام منذ الصحابة في فهم النصوص وقصدت فيه الرد على أهل الكلام بعامة والرازي بخاصة في قانونهم الذي أسموه القانون الكلي في التأويل

بقلم: د راشد العبد الكريم
463
المجتمع المشهدي والاستهلاك | مرابط
فكر

المجتمع المشهدي والاستهلاك


وبتحويل العلاقات الإنسانية إلى أشياء فأصبح من الممكن للمنظومة عرض هذه الأشياء كسلع وهذا ما أدى بدوره إلى زيادة معدل الاستهلاك لهذه السلع لا من أجل ما تحويه هذه السلع من منافع بل من أجل الاستعراض بغية إثبات الوجود والحصول على الاهتمام المرجو من المجتمع.

بقلم: محمد علي فرح
791
خرافة تحديد النسل | مرابط
فكر مقالات

خرافة تحديد النسل


الفقر الواقع أو المتوقع لا يعود إذن إلى علل طبيعية بل إلى سوء تصرف واضطراب إدارة أو كما يقول الاقتصادى الأمريكى المشهور بول باران : إننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لا لأن القوانين الأبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام سكان الأرض بل لأن النظام الاقتصادى الاستعمارى يحكم على جموع كثيفة من الناس لم يسمع بضخامتها من قبل أن تعيش فى كنف الفاقة والتدهور والموت قبل الأوان

بقلم: محمد الغزالي
700