الربوبية والوعي المبتور

الربوبية والوعي المبتور | مرابط

الكاتب: د. سامي عامري

276 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

يقوم المذهب الربوبي على عدد من الأصول التي باجتماعها تتجلى الرؤية الكونية الكبرى لأنصاره، وأهمها:

  • الإله واحد ليس له شريك، وهو ذات مفارقة للطبيعة، فاعلة ومريدة.
  • الكون محدد، ويعمل ضمن ناموس ميكانيكي داخلي مستغن عن العناية الإلهية للبقاء والسيرورة.
  • الكون هو المظهر الوحيد لمعرفة الله، فهو كتابه المقدّس. ومعرفة الإنسان إلهه -بذلك- أشبه بمعرفتنا بالرسّام وذوقه بعد النظر في اللوحة.
  • العقل هو المصدر الوحيد لمعرفة الله، ومبدأ الوجود والغاية منه، والأخلاق التي يرضاها الخالق.
  • المعجزات لا تحدث؛ لأن الإله غير قادر على إحداثها إذ إن قوانين الكون لا تتغير أو لأنه لا يريد ذلك.
  • يؤمن جل الربوبيين بحياة بعد الموت للجزاء، إثابة أو عقابا.

الخلل الأكبر في اللاهوت الربوبي كامن في زعمه أن الله -سبحانه- قد خلق، فأتقن ما بدع -وإن أنكر بعضهم عليه أمور الألم في الكون- ثم أدبر عن هذا الوجود وأهمله، منشغلا بحديث أمره عمّا يجده لخلقه. وهو تصور طفولي للإله، ومن مظاهر طفوليّته مشابهته أو قل مطابقته للتصورات الوثنية للآلهة القديمة في مصر وبابل واليونان. فهذا التصور ليس ببعيد عن صورة الإنسان إذ يصنع كرسيًا أو مشبك ملابس، فيتقن صورته، ثم هو يواريه أحد الأدراج أو يضعه في المخزن ليلفّه النسيان بلحاف الإهمال.. هو تصور بليد، ميت، بلا روح؛ إذ يعدم كل ما اهتدى إليه العقل من معرفة شائقة بكمال قدرة الربوبية.

إن الألوهي الذي يتشوف إلى رسالة السماء من بوابة النبوة هو وحده الذي يسير على سكة سهلة غير متعرجة ولا متدحرجة إلى أسفل؛ إذ يترقى من العلم بوجود الرب إلى طلب العلم بحقيقته ومراداته؛ فالقاعدة عنده أن الحكمة الكاملة لا تنتحر، وإنما هي حبلى بالمعنى والأمل، وكمال الصفات عنده وجه لكمال الذات.

والربوبي الذي يرى قداسة العقل، وأنه مصدر العلم بالرب والخلق والمآل، أسير سكرة الإعجاب بما فتح له من زوايا المعرفة؛ إذ العقل لا يملك من آفاق المعرفة بالرب غير بعضها؛ كالخلق، والقدرة، ثم تنيخ ركائبه؛ ولذلك فالتصور الربوبي يقضي عليه بالأسر في قفص الجهل بالخالق، كما يقضى على الخالق أن يتسربل بصفة الشحّ على الخلق بالمعرفة، ويرميه بنقيصة الاستمتاع بحيرة الإنسان وتيهه

والربوبي -في حقيقة الأمر- شر حالا من الملحد؛ إذ الملحد لا يرى في الوجود غير ركام من الأشياء بلا غاية، وآكام من النظم مبعثرة؛ فيبني على ذلك أن الكون عبث بلا هدف، بلا حكمة، وأما الربوبي فيرى الحكمة في خلق الذرة والمجرة، ويدرك مظاهر العظمة فيها، ثم هو ينتكس بعد ذلك إلى مذهب الملحد نفسه؛ فلا يرى في الوجود غير أشياء تسير إلى حتفها رغم أنفها.

والربوبية -على الصواب- مظهر من مظاهر الكسل المعرفي؛ ﻷنها وقوف على تخوم الإيمان والإلحاد؛ فلا الباحث أكمل المسير إلى نهاية الغاية من الخلق، ولا هو أدبر إلى نقطة الإنكار لقيمة الأشياء المتراكمة في حيّز الوجود.

وهي -الربوبية- في تاريخها الحديث، أثر عن الكفر بالنصرانية وعقائدها ومؤسساتها الدينية المفسدة في الأرض. فقد أدى الكفر بالنصرانية في عصر الأنوار في أوروبا إلى الكفر بكل دين؛ ﻷن فساد النصرانية يلزم منه فساد كل الأديان، فلن تكون أديان الشرق، وخاصة دين الترك (اسم الإسلام في تلك الفترة) أفضل حالا من النصرانية.. وهذا احتكام من فلاسفة الأنوار إلى الجهل، وفرغ عن آفة التعالي الذي هيمن على العقل الغربي بظنه أن الشرق أدنى من الغرب في كل شيء.

أنا لا أصدق أن نفسًا ترى هذا الكون وعظيم صنعه، والعطايا ولذيذ طعمها، والجمال ودقيق ملحمة؛ ثم تكتفي بالإيمان "بمهندس عظيم" وراء ذلك، خلق وصوّر، ثم أدبر.. سيظل الإبهار والإمتاع في الكون مصدر قلق للربوبي الصاحي يجذبه إلى مصدر النور الخفيّ، ويستحث عقله المتقلب نظره في الآفاق البعيدة ليستعجل فك شفرة المبدأ والغاية.


المصدر:
د. سامي عامري، براهين النبوة، ص31

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الربوبية
اقرأ أيضا
شخصية القدوة | مرابط
فكر

شخصية القدوة


وأعلى الناس مقاما من حيث المطالب والوسائل والصبر والسعي هم أولو العزم من الرسل ومن بعدهم سائر الأنبياء وأتباعهم وهم درجات عند الله. وأحسن الناس اتباعا لهم ذلك الذي يطلب الطريق الذي سلوكها كلها فيعرف واقع كل منهم وحال قومه وإلى ماذا دعاهم وكيف ومن أين بدأ وكيف تلقوا دعوته وماذا لاقاه من المحن والابتلاءات وكيف تصرف فيها وبماذا كان يتصبر وبماذا كان يدعو الله ويسأله إياه وحاله في السراء والضراء..

بقلم: حسين عبد الرازق
311
البشر والبشاشة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم | مرابط
مقالات

البشر والبشاشة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم


لقد كان حبيبنا صلوات الله وسلامه عليه يسمي أشياءه كل أشيائه.. تقريبا ما كان يترك شيئا له إلا ويجعل له اسما أو لقبا سواء في ذلك ما كان مخلوقا ينبض بالحياة أو جمادا باردا لكل دابة كان يمتلكها أو يركبها اسم أو لقب تخيل هذه النفسية التي رغم انشغالها والهموم التي تحملها والبلاءات التي تتوالى على صاحبها ومع ذلك تصر على تسمية مرآة أو كوب ماء أو درع!! بعضنا لو فعل مثل ذلك لربما تلقاه الناس بالاستهجان واللوم والاتهام بالتشاغل عن الهموم الجسيمة والمهمات الجليلة ولرمي باللامبالاة أو كما يقال بالعامية...

بقلم: محمد علي يوسف
295
بطون الفقراء أولى | مرابط
أباطيل وشبهات

بطون الفقراء أولى


والشبهة قد تأتيك تارة مكسوة بعبارات إسلامية ظاهرها الخوف على الإسلام والحفاظ على الشريعة واستمداد النور من الوحي وما أبعدها عنه وقد تأتيك مرة لتلعب على أوتار المشاعر فتقص عليك من أنباء الفقراء وأحوالهم لتشعل حماسك وحميتك ثم تزج بك في الاتجاه الخاطئ وقد تأتيك مرة أخرى زاعمة أنها تخاطب العقل وتحترمه وهي بعيدة عنه بعد السماء عن الأرض وفي هذا المقال نقاش لشبهة علمانية متكررة في كل موسم للحج: إذ يقولون بطون الفقراء أولى وطوفوا حول الفقراء ولا تطوفوا حول الكعبة

بقلم: محمود خطاب
994
كيف بدأت قصة الإسراء والمعراج | مرابط
مقالات

كيف بدأت قصة الإسراء والمعراج


رحلة الإسراء والمعراج هي أعجب رحلة في التاريخ حيث نقل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجسده من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلا ثم عاد به إلى بيت المقدس ثم أخيرا إلى مكة كل ذلك في جزء يسير من الليل

بقلم: د راغب السرجاني
578
نابليون والمهمة الحضارية: سأستعمر مصر الجزء الثاني | مرابط
تاريخ مقالات

نابليون والمهمة الحضارية: سأستعمر مصر الجزء الثاني


الحملة الفرنسية التي حملت الكثير من التناقضات وكشفت الوجه الحقيقي والقبيح لفرنسا كحركة استعمارية تقوم على السلب والنهب والعداء الصريح للإسلام رغم ذلك أحاطها المؤرخون وغلفها الكتاب بكتلة من مساحيق التجميل حتى تبدو خلاف ما هي عليه وكما يقول المؤلف: رغم كل البيانات والمنشورات والتحليلات التي صاحبت وأعقبت الحملة الفرنسية إلى يومنا هذا فإن نابليون كان صريحا وواضحا في تحديد مهمته في مصر عندما قال: سأستعمر مصر

بقلم: محمد جلال كشك
2140
الأطفال وأحكام الإسلام | مرابط
مقالات

الأطفال وأحكام الإسلام


ينبغي أن يعود الأبناء على أحكام الإسلام منذ الصغر وذا بأن يعلموها ويعمل بها على مرأى منهم أيضا ويشرح لهم لماذا الصلاة والصوم والحجاب ونحو ذلك..

بقلم: قيس الخياري
426