اللغة الشاعرة هي اللغة العربية.

اللغة الشاعرة هي اللغة العربية. | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

476 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

اللغة الشاعرة هي اللغة العربية.
وليس في اللغات التي نعرفها، أو نعرف شيئًا كافيًا عن أدبها، لغة واحدة توصف بأنها لغة شاعرة غير لغة الضاد، أو لغة الأعراب، أو اللغة العربية.

وتقدم أننا لا نعني باللغة الشاعرة ما يوصف أحيانًا باللغة الشعرية، فإن الكلمة قد تكون شعرية صالحة للنظم في موقعها من السمع، ولكنها لا تكون مع ذلك جارية مجرى الشعر في نشأتها ووزنها واشتقاقها، بل تكون كأنها الطعام الذي يصلح لتركيب البنية، ولكنه هو في ذاته ليس بالبنية الحية، وليس باللحم والدم الذي يتركب منه أجسام الأحياء.

كذلك لا نريد باللغة الشاعرة أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، فإن كثرة الشعراء تتوقف أحيانًا على كثرة عدد المتكلمين باللغة، فلا عجب أن تكون الأمة التي ينتسب لها خمسون مليونًا أكثر شعرًا من أمة ينتسب إليها عشرة ملايين، ولو لم تكن في لغتها مزية شعرية تفوق بها سائر اللغات، وليس من العجب أن يكثر الشعر والشعراء في لغة صالحة للتعبير على اختلاف الموضوعات، التي يتناولها التعبير المنظوم أو المنثور.

لغة بنيت على نسق الشعر

إنما نريد باللغة الشاعرة أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء.

وهذه الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد.

وفي هذا المقال نبدأ من البداءة وهي حروف الهجاء، أو الحروف التي اشتهرت باسم الحروف الأبجدية، واجتمع منها بعد ترتيبها الأخير ثمانية وعشرون.

الأبجدية العربية

ليست الأبجدية العربية أوفر عددًا من الأبجديات في اللغات الهندية الجرمانية، أو اللغات الطورانية أو اللغات السامية، فإن اللغة الروسية - مثلًا - تبلغ عدة حروفها خمسة وثلاثين حرفًا، وقد تزيد ببعض الحروف المستعارة من الأعلام الأجنبية عنها.

ولكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية؛ لأن كثيرًا من هذه الحروف الزائدة إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات، دون أن يستدعي ذلك افتنانًا في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان.

فهناك حرف ينطق «يا» وحرف ينطق «يو» وحرف ينطق «تسي»، وآخر ينطق «تشي»، وحروف أخرى هي في حقيقتها تثقيل لحروف الباء والفاء والجيم، ليس فيها تنويع نطقي يدل على التصرف الحي في استخراج الأصوات الكلامية من مخارجها المتعددة، ولكنها تنويع آلي مادي لدرجة الضغط على المخرج الواحد بغير كسب للأجهزة الناطقة في تصريفاتها المتعددة.

وبمثل هذا الاختلاف في الضغط أو الاختلاف في الحركة يمكن أن تبلغ حروف الأبجدية خمسين وستين، ولا تدل على تنويع مفيد لمخارج النطق الإنساني على حسب الملكة الموسيقية الكامنة في استعداده.

وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددًا في أصوات المخارج التي لا تلتبس، ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد، كما يحدث في الباء الخفيفة والباء الثقيلة التي يميزونها بثلاث نقط من تحتها بدلًا من النقطة الواحدة، أو كما يحدث في الفاء ذات النقطة الواحدة والفاء ذات النقط الثلاث (V)، أو كما يحدث في الجيم المعطشة وغيرها.

حروف العربية

وعلى هذه الصورة تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، أو توجد في غيرها أحيانًا، ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة.

وعلى هذه الصورة أيضًا استغنت اللغة العربية عن تمثيل الحرف الواحد بحرفين مشتبكين أو متلاصقين، كما يكتبون الثاء والذال والشين وغيرها في بعض اللغات.

ذلك ما نعنيه باللغة الشاعرة في تقسيم حروفها، فهي لغة إنسانية ناطقة تستخدم جهاز النطق الحي أحسن استخدام يهدي إليه الافتنان في الإيقاع الموسيقي، وليس هنا أداة صوتية ناقصة تحس بها الأبجدية العربية؛ إذ ليس في حروف الأبجديات الأخرى حرف واحد يحوج العربي إلى افتتاح نطق جديد لم يستخدمه، وكل ما هنالك أنه قد يحوجه إلى الضغط الآلي على بعض الحروف المعهودة، وهو ضغط يدل على العجز عن تنويع الأصوات، واستخدام أجهزة الحياة الناطقة على أحسن الوجوه، وأقربها إلى التنويع والتفصيل.

وقد كانت سليقة اللغة العربية هي الهداية النافعة لعلمائها فيما اختاروه من ترتيب الأبجدية على وضعها الأخير، فإن هناك تناسبًا موسيقيًّا فنيًّا بين الحروف المتقاربة لا مثيل له في الأبجديات الأعجمية، التي تلحق فيها السين بالباء، أو التي يمكن ترتيبها على غير هذا الوضع دون تغيير في دلالات الألفاظ أو دلالات الأشكال.

أما اللغة العربية فخذ منها - مثلًا - حروف الباء والتاء والثاء، فإن الباء قريبة من مخرج التاء، وأن التاء والثاء لتتقاربان حتى ليقع بينهما الإبدال في كثير من الكلمات.

وخذ مثلًا حرفي الحاء والخاء، أو حرفي الدال والذال، أو حرفي السين والشين، أو حرفي الصاد والضاد، أو حرفي الطاء والظاء، أو حرفي العين والغين، أو القاف والكاف، أو حروف اللام والميم والنون، فإن التقارب بينها في النسق يشبه التقارب بينها في اللفظ كما يشبه التقارب بينها في الشكل كلما امتنع اللبس عند تكرار الأشكال.

وهذه هي اللغة الشاعرة في حروفها قبل أن تتألف منها كلمات، وقبل أن تتألف من الكلمات تفاعيل، وقبل أن تتألف من التفاعيل بيوت وبحور.

فإذا كان الشعر روحًا يكمن في سليقة الشاعر حتى يتجلى قصيدًا قائم البناء، فهذا الروح في الشعر العربي يبدأ عمله الأصيل مع لبنات البناء، قبل أن تنتظم منها أركان القصيد.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#اللغة-العربية
اقرأ أيضا
الصحبة قسمان | مرابط
اقتباسات وقطوف

الصحبة قسمان


مقتطف للعلامة ابن القيم من كتاب الفوائد يتحدث فيه عن الاجتماع بالإخوان وكيف أنه ينقسم إلى نوعين نوع فيه مضرة ونوع فيه منفعة والمتأمل لهذا الاقتباس يدرك مدى حرص علماء المسلمين وسلفنا الصالح على الوقت وعلى كل لحظة من لحظات الطاعة ومدى تجنبهم لصغائر الأمور قبل كبائرها

بقلم: ابن القيم
2137
بيج بن الإسلامية | مرابط
اقتباسات وقطوف

بيج بن الإسلامية


يبدو أن التحديثات التي تشهدها مكة على يد السلطة السعودية لا تثمر تطورا وتقدما عمرانيا وحضاريا إلا على الطراز الغربي وهو ما يعني مزاحمة الجانب الروحاني الذي اختصت به مكة منذ قديم الزمان ومزاحمة الروحانيات التي تجتاح الحجاج في تلك البقعة الطاهرة وهذا مقتطف هام من كتاب من مكة إلا لاس فيجاس يعبر فيه المؤلف عن هذا التقدم وما أحدثه

بقلم: د علي عبد الرءوف
2003
في معاني تفضيل عشر ذي الحجة | مرابط
تفريغات

في معاني تفضيل عشر ذي الحجة


من مقتضيات ومعاني التفضيل لهذه العشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها محترزات ومنهيات في بعض الأعمال فالزمن والمكان الذي يقع فيه نهي بفعل من الأفعال آكد من غيره لأن هذا تعظيم له ومكة أعظم من غيرها لأنها حرم فيحرم أن ينفر الصيد وكذلك أن يعضد الشوك ونحو ذلك.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
280
دور محمد علي الجزء الأول | مرابط
تاريخ مقالات

دور محمد علي الجزء الأول


لقد لعب محمد علي دورا بارزا في إحكام السيطرة على الحالة الإسلامية في مصر وفي العالم الإسلامي بشكل عام عندما استطاعت فرنسا أن تحتويه وتوفر له كل الإمدادات اللازمة حتى يحقق أهدافها في بلادنا وكان على رأس هذه الأهداف الانفصال عن الدولة العثمانية والمساهمة في إضعافها بشتى الطرق والهدف الهام الثاني هو بداية التغريب وسحق الروح الإسلامية المتبقية وفي هذا المقال يقف بنا المؤلف على محاور هذا الموضوع كلها وما يتفرع عنها وما نتعلمه منها من دروس الهدف هنا أن ندرك ما حدث في بلادنا حتى نفهم كيف وصلنا إلى...

بقلم: محمد قطب
2120
مقالة مفيدة لسفيان الثوري | مرابط
مقالات

مقالة مفيدة لسفيان الثوري


عليك بالصدق في المواطن كلها وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها فإنها وزر كله وإياك يا أخي والرياء في القول والعمل فإنه شرك بعينه وإياك والعجب فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ولا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفق على دينه فإن مثل الذي هو غير مشفق على دينه كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه وينصح لنفسه كيف يعالج داء الناس وينصح لهم؟

بقلم: أحمد بن عبد الله الأصفهاني أبو نعيم
232
الدنيا تغيرت الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الدنيا تغيرت الجزء الثاني


الدنيا تغيرت توظف هذه المقولة للاعتراض على بعض المقررات الشرعية بذريعة أن النصوص الشرعية ثابتة والواقع متغير ولذا لا يمكن أن نجمد على الثابت وقد يسعى بعضهم إلى مقاربة تظهره بمظهر المعظم للشريعة فهو يتحدث عن حجم استجابة الشريعة لمتغيرات الواقع وتقلباته فهي ليست مجرد نصوص جامدة صلبة لا تقبل الزحزحة أو التطوير بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه والذي يؤول في الحقيقة إلى جعل الواقع حكما على الوحي وفي المقال فحص لهذه الشبهة ورد عليها

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
1179