الليبرالية الجنسية

الليبرالية الجنسية | مرابط

الكاتب: د. البشير عصام المراكشي

646 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن ترويج القيم المتعية والذي تعزز بعد بحركات التحرير الجنسي، قلب الأخلاق الجنسية التقليدية رأسًا على عقب. خلال نصف القرن، لم يعد الجنس مرتبطًا بالشر والخطأ، ولم تعد للثقافة التي تقمع الحواس أية قيمة، وصار "إيروس"(1) من أهم التعبيرات في عالم ما بعد الواجب. خلال بضعة عقود، تحطمت المبادئ المتزمتة للأخلاق الجنسية، وما كان يعد عملًا شائنًا اكتسب مشروعيته بشكل أو بآخر، وتحولت الإلزامات الصارمة إلى خيارات حرة، وعُوِّض الجنس -الإثم بالجنس- المتعة. من الذي لا يزال يعد العفة والعذرية ضمن الواجبات الأخلاقية؟ من يستنكر الجنس الحر عند النساء والشباب؟ ومن ينبذ العادة السرية؟ حتى الانحرافات الجنسية لم تعد ملعونة منبوذة: صارت هذه الانحرافات تعرض نفسها في الصحافة والإعلانات الصغيرة، وصار السادو-مازوشيون يُدعَون للحديث في الاستديوهات التلفزية، وفي الدنمارك يعترف القانون بزواج المثليين، وفي فرنسا ثلاثة أربعا الشبان ما بين 15 و34 سنة لا يرون المثلية تستحق الشجب والإنكار.

 

في الوقت نفسه، صار الجنس موضوعًا للاستهلاك الجماهيري: يعلن المينيتل(2) عن وعود وردية في إطاراته الإشهارية، وتؤجَّر الأشرطة الإباحية بحرية تامة في محلات الفديو. تحولت العروض الإباحية من الدناءة الأخلاقية إلى الشيوع دون عواقب كبيرة: لم تعد تُتهم بأنها خطر على النظام الاجتماعي، فاليوم صارت بعض الممثلات الإباحيات يُنتخبن في البرلمان الإيطالي. لقد حررت الثقافة المتعية الفردانية الإيروس من فكرة الإثم، وأعطت المشروعية لاستراق النظر الجماعي، وعُوِّضت الأجنحة المغلقة الخاصة بالكتب الفاحشة في المكتبات الوطنية بالعلامات المضيئة للمحلات الإباحية، وفي كل مكان يتقدم الحق في المتعة على القواعد القمعية ويسعى إلى إعطاء المشروعية للتصرفات التي كانت تُعد قديمًا شائنة. نزع القيمة اجتماعيا عن الوصفات المحتشمة، والترويج المتلازم للقيم الليبرالية في الحياة الشهوانية، هكذا يكون الفعل ما بعد التخليقي.

 

إن حركة التحرر تؤثر في جميع دوائر الحياة الجنسية، ولكنها أعمق في مجال التغاير الجنسي الراشد. هنا: كل أحد -رجلا كان أو امرأة- يمكنه أن يفعل ما يحلو له دون حظر مجتمعي، ولا توجد واجبات متحتمة تتحكم في الممارسات الجنسية، لا شيء في مجال الجنس يعد شرًا ما دام ذلك بالتراضي بين الطرفين. في صورته المتطرفة، ينعت المسار ما بعد التخليقي هذا العمل باستقلالية الجنس عن الأخلاق، لم يعد الإيروس يجد مشروعيته في احترام القواعد المثالية أو العاطفية أو التقليدية، ولكن في ذاته، بما أنه أداة للسعادة والتوازن الفردي. إن الجنس ما بعد التخليقي يعرّف بالاعتبار الوظيفي والشهواني والنفسي، ولم يعد مما يراقب ويُقمع ويهذّب، ولكنه يعبر عن نفسه دون قيد ولا منع بشرط واحد هو عدم إيذاء الآخرين. في المسار التاريخي للتمييز بين الجنس والأخلاق، قطع الإيروس الروابط التي كانت تجمعه بالرذيلة، ولكتسب في الجوهر قيمة أخلاقية بسبب دوره في التوازن والازدهار الشخصي للأفراد

 

إن هذا الترويج للمتعة الشهوانية مظهر نموذجي لحركية أزمنة المساواة الديمقراطية. نحن نعلم أن الحداثيين -منذ عصر الأنوار- رفعوا من درجة احترام السعادة الدنيوية إضافة إلى مختلف متع الحياة. لكن المتعة، ما إن تحررت من مبدأ الإثم، حتى وجدت نفسها مؤطّرة في فكر أخلاقي أعاد إدخال مجموعة من المراتب وأنواع الفصل والقيم غير المتشابهة. في القرن الثامن عشر، حاشا بعض الاستثناءات (لامتري)، (ساد)، كانت المتع مرتّبة بشكل هرمي، ومتع العقل والقلب في أعلى الهرم: إذا كانت الأولى تمنح السكينة واللطف، فوحدها الأخرى تجعل الإنسان سعيدًا وتمكّنه من تحقيق ذاته، وهما معا يتجاوزان ويكمّلان المتع الأخرى جميعها.

 

استمر القرن التاسع عشر في عملية تخليق المتع وترتيبها: توجد المتع الجنسية في أسفل سلّم الكرامة، هي متع فقيرة وسريعة، وتسبب الانحطاط للذي يتعاطاها بحماس وإفراط، كما أنها خطيرة بالنسبة إلى العقل والصحة البدنية. لم يصمد هذا التمييز وعدم المساواة أمام المسار ما بعد التخليقي: في عصرنا، تقريبًا جميع المتع -ومنها الجنسية- لها قيمة متساوية، ولم نعد ننظر إلى مسألة المتع بألفاظ الأعلى والأسفل. لم يتبق سوى الاختلافات الراجعة إلى الأذواق والتفضيلات الذاتية التي لا تدخ في مرتبة معينة ضمن أي نظام ترتيبي مغلق. ولكن إذا كانت المتع المختلفة لا تزال تحتفظ بداهة بخصوصيتها، فإنها حصلت على مشروعية متساوية، وحق متساو في التعبير والخبر والاعتبار. استطاع الإيروس -متأخرًا، ولكن بشكل جذري- أن يسجل تآكل المفارقات الهرمية والذي يشكل عصر المساواة الديمقراطية.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. إله الحب والرغبة الجنسية في الميثولوجيا اليونانية
  2. أداة اتصال مشهورة في فرنسا، بدأت منذ أوائل الثمانينات، وتعد سلفا للشبكة العنكبوتية

 

المصدر:

د. البشير عصام المراكشي، أفول الواجب، ص66

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية
اقرأ أيضا
دعوى مظلومية المرأة | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات المرأة

دعوى مظلومية المرأة


اطلعت على بعض المقاطع المعدة بأسلوب درامي مؤثر يرسم صورة الأنثى كمظلومة تحت مظلة الإسلام وقد نجحت مثل هذه الرسائل في استمالة ضعيفات الإيمان إلى ظلمات الشك ثم الإلحاد وكثيرا ما يدخل المشككون في الإسلام من باب المرأة يستثيرون بذلك عواطف المسلمات اللاتي لم يعرفن دينهن حق المعرفة وفي الحقيقة فإن خطابهم التشكيكي هذا لا يعدو أن يكون غشا و تدليسا

بقلم: أحمد يوسف السيد
2785
النهي أشد من الأمر | مرابط
اقتباسات وقطوف

النهي أشد من الأمر


اختلف أهل العلم في مسألة الأمر والنهي أيهما أشد وأعسر على المسلم هل هو فعل الطاعات أم اجتناب النواهي يميل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى القول بأن النهي أشد من الأمر وهذا مقتطف يؤيد هذا الرأي من كتاب جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي رحمه الله

بقلم: ابن رجب الحنبلي
2081
الأهواء المتدينة | مرابط
فكر مقالات

الأهواء المتدينة


نتعامل في واقعنا المعاصر مع إشكال جديد يمكن تسميته بالأهواء المتدينة هذا الإشكال يظهر في أن ترك الالتزام بالأحكام الذي هو من جنس التقصير والهوى أصبح محسنا مزينا في نفس المسلم متوافقا مع الدين مقربا إلى الحق فلم تعد تلك المخالفات متضمنة مفسدة المخالفة فقط بل أضيف لها مفسدة التحسين والتزيين للهوى والباطل

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1050
هل الحجاب يتعارض مع أناقتي في المناسبات؟ | مرابط
المرأة

هل الحجاب يتعارض مع أناقتي في المناسبات؟


التأنق والأناقة التي أفهمها تعني التزين ومواكبة الموضة والألوان والاتجاهات المنتشرة في الملبس فتلبس في الصيف كذا وتلبس في الشتاء كذا وتضع اكسسوارا بالصورة الفلانية وتلف الطرحة بالطريفة كذا وكذا .. كل هذه الأمور لا تلزم المسلمة في شيء ما دامت تخالف الركن الركين في زي المرأة المسلمة وهو: الستر.

بقلم: محمد حشمت
422
ليلة في بيت النبي الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الثالث


إن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الضرب إلا للإصلاح والرسول عليه الصلاة والسلام قيد الضرب الذي جاء مطلقا في كتاب الله في قوله تعالى: واضربوهن النساء:34 فالضرب هذا يحتمل أن يكون ضربا شديدا وأن يكون ضربا خفيفا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اضربوهن ضربا غير مبرح أي: غير شديد فهذا الضرب مطلق في كتاب الله وقيد بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فعلى الزوج أن يضرب ضرب المحب لا ضرب المنتقم إذ المقصود بالضرب هو الإصلاح

بقلم: أبو إسحق الحويني
858
شبهة الأخطاء اللغوية في القرآن: نصب الفاعل | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة الأخطاء اللغوية في القرآن: نصب الفاعل


يعلق بعض المشككين حول الآية وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال: ومن ذريتى قال لا ينال عهدى الظالمين حيث ووقع بصرهم على كلمة الظالمين وصورت أوهامهم أن فيها خطأ نحويا لأنها عندهم فاعل والفاعل حكمه الرفع لا النصب فكان حقه أن يكون هكذا: لا ينال عهدى الظالمون لأنه جمع مذكر سالم وعلامة رفعه الواو وبهذا تخيلوا بل توهموا أن القرآن لا سمح الله قد أخطأ فنصب الفاعل الظالمين ولم يرفعه الظالمون هذا هو منشأ هذه الشبهة وبين يديكم الرد عليها

بقلم: مجموعة كتاب
910