الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1504 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نظرة عامة على التيار الليبرالي

يلحظ المراقب للحالة الفكرية في الداخل السعودي نشاطا مكثفا للتيار الليبرالي، فقد أخد بكل ما أوتيه من قوة يعرض نفسه للناس في محافل كثيرة، ويبدو بأصوات متعددة، ويظهر في أشكال مختلفة، باحثا بكل ذلك عن موطئ قدم يبني عليه مشروعه الفكري والاجتماعي.
 
وقد تناول عدد من المثقفين مخرجات التيار الليبرالي بالتوصيف والتمحيص والنقد، وجاء هذا المقال ليتناوله من جهة معرفية بحتة، وليحاكمه إلى الشروط التي يجب توفرها في كل مشروع ناضج منتِج، وليقارنه بالمشاريع التي استطاعت أن تقدم للمجتمعات حلولا حقيقية تخرجها مما تعانيه من أزمات، وتعيشه من إشكاليات.
 
وإذا حاول المراقب أن يتعاطى مع التيار اللبيرالي السعودي بهدوء وأن يتعامل مع منتجه الفكري والثقافي بمهنية في التحليل وإتقان في التوصيف.. ليتعرف على مقدار ما يمتلكه من مؤهلات معرفية وفكرية وسلوكية تؤهله للعيش والنمو في الحالة السعودية.. سيخلص منذ المرحلة الأولى من التحليل إلى نتيجة مفادها: أن التيار الليبرالي يعاني من أعراض مرضية حادة تحول بينه وبين أن يكون مشروعا رائدا أو مخلصا أو ملبيا لحاجيات العقل الواعي الذي يميل إلى الانضباط في الاستدلال والعمق في التحليل والاتساق مع المبادئ واحترام القيم وتعظيم التمسك بها.
 
فالمراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي وسار في جنباته ووقف على أبرز محطاته التي برز فيها للعيان، وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية، تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي، وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية.
 
وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة، أزمة في المصطلح، وأزمة في الخلفيات الفلسفية، وأزمة في السلوكيات اليومية، وأزمة في الالتزام بالقيم، وأزمة في الاتساق مع المبادئ، وأزمة في الاطراد، وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطعيات الشريعة الإسلامية.
 
وقد استفحلت تلك الأعراض حتى وصلت إلى حالة مهلكة خرجت عن السيطرة، وتسببت في إنهاك جسده ووصوله إلى حالة مرضية خطيرة، وأضحت تلك الأعراض معوقات حقيقية للحيلولة دون نموه بشكل صحي.
وحتى لا تكون هذه النتيجة مخالفة للواقع، أو متصفة بالاستعجال والتهور، أوالتسرع في استخلاص النتائج، فإنا سنبرز أعقد تلك الأزمات التي اتصف بها التيار الليبرالي، وتسببت في تشوه صورته وتعرقل مسيرته، وسنمارس معها التحليل المنبسط والتفكيك المسترسل والهادئ حتى نتحقق من صدق تلك النتيجة.

 

الأزمة الأولى: إشكالية التأسيس:

تبدى التيار الليبرالي وهو يحمل اسما نشأ في بيئة مختلفة وتربى في محاضن فكرية مغايرة، ومع هذا فهو يعاني في أصله من اضطراب وقلق في انضباط مفهومه، ومصاب بغموض شديد في تحديد مقصوده، ومشبع بمضامين فكرية وفلسفية تتقاطع مع الإسلام تقاطعا ظاهرا.
 
فليس خافيا على أحد من المثقفين أن الليبرالية نشأت أول ما نشأت في الفكر الغربي تحت ظروف فكرية واجتماعية محددة وفي أحوال دينية خاصة، وقد تضمنت في حالتها الغربية مبادئ أساسية لا تنفصل عنها، كمبدأ الحرية المطلقة ومبدأ الفردية ومبدأ العقلانية، حتى غدت من المتلازمات في ذهنية القارئ.
 
وهي بهذه المبادئ تتضمن القول بنسبية الحقيقة وتدعو إلى العلمانية وفصل الدين عن الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها، وتقرر المساواة بين الأديان وحرية التنقل بينها، وتسمح بحرية مزاولة المحرمات القطعية في الشريعة، وتقطع الأخلاق والمبادئ عن الأساسات المرجعية لها سواء الدينية أو غيرها، وتعتقد أن الحرية المطلقة هي المبدأ والمنتهى والباعث والهدف والأصل والنتيجة في حياة الإنسان.
 
ولما كانت الليبرالية الغربية بهذه الصورة حدث انفصام نكد في التيار الليبرالي السعودي، فقد انقسم في موقفه من حالة الليبرالية الغربية إلى قسمين ظاهرين:
 
القسم الأول: من لم يبد الإنكار لتلك المضامين، وقرر ما تقوله الليبرالية الغربية من أنها الانفلات المطلق والحرية الكاملة،والتحرر من كل قيد، وكرر بعض منتجاتها، كالقول بنسبية الحقيقة وتاريخية الأحكام الشرعية، والانفتاح الكلي لدلالات النصوص وقابليتها لكل التأويلات.
وفي ضمن هذا القسم ظهرت لنا الليبرالية في مظاهر شاذة جدا، ومقالات شنيعة، وصلت إلى درجة إنكار وجود الإله، والاستخفاف بالنبي والاستهزاء الفاضح بالإسلام ووصفه بكل ذميمه، كل هذا ظهر تحت مسمى "شبكة الليبرالية السعودية".
 
القسم الثاني: من ادعى الخصوصية السعودية في مفهوم الليبرالية، وأخذ يقول بأن الليبرالية السعودية تتميز عن غيرها في كل شيء، حتى في المفهوم نفسه، ورفعوا شعار "الليبرالية السعودية ليس كمثلها ليبرالية".
 
فقد أدرك هذا القسم فضاعة ما تؤدي إليه الليبرالية في نسختها الغربية الأصلية من مناقضة للإسلام وأصوله، فاضطر إلى أن يمارس نوعا من التهذيب ويجري عمليات تجميلية عديدة؛ حتى يتخلص من الموروث الغربي لها، ويتوصل إلى نسخة مخففة جدا، فأبقى على المبادئ الأساسية لليبرالية، وأخذ يبحث عما يمكن أن يوافقها في النصوص الشرعية، وغدونا نسمع بأن الليبرالية تعد من صميم الإسلام؛ لأن الإسلام يحفظ للفرد حريته ويحترم له علقه.
 
وهذه العمليات التجميلية للمنتجات الغربية ليست جديدة على الساحة العربية، فقد مورست من قبل في الدعوة إلى الحداثة والدعوة إلى البنيوية وغيرها من المناهج النقدية الغربية، وقوبلت بإنكار شديد من قبَل عدد من كبار المفكرين العرب، وعدوا ذلك تشويها وتحريفا مغلفا.
 
وها هو الحال يتكرر في الليبرالية السعودية، فيبدوا أن عمليات التجميل لم ترض كثيرا من كبار المثقفين، فأنكروا دعوى الخصوص السعودية ووصفوها بالخدعة والأكذوبة، ووصفوا من مارسها بأنهم أدعياء ومتسولون.
 
وقد أبدى بعض المراقبين تحفظا من جهة أخرى، وهي أن الليبرالية السعودية ادعت الخصوصية، ولم تبين لنا معالم تلك الخصوصية ولا الحواجز الفاصلة بينها وبين النسخة الأصلية، ولا القيم التي تقوم عليها ولا الأسس الفكرية التي تستند إليها، وإنما غاية ما ذكروه ممارسات يومية مشتتة يجمعها وصف واحد وهو المضادة للتوجه الشرعي في السعودية.
فغدت الليبرالية السعودية بدون أسوار ولا أبواب يدخل فيها كل من يريد.
 
وبهذا كله ازدادت الليبرالية غموضا إلى غموضها وقلقا إلى قلقها واضطرابا إلى اضطرابها، مما يؤكد مدى الأزمة التي تعاني منها في بناء مشروعها وعمق الإشكالية التأسيسية التي أصيبت بها منذ اللحظة الأولى من ولادتها، وهذا كله كانت له أبعاد كثيرة في كيفية توصيفها وفي منهجية تصنيفها.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
شبهة حول تحريم المعازف | مرابط
فكر مقالات

شبهة حول تحريم المعازف


هل القول بتحريم المعازف وعدم الاعتداد بخلاف من خالف فيها هو من الغلو في التحريم عند بعض العلماء المعاصرين نظرا لما في هذه الطريقة من إنكار اعتبار الخلاف كما يقرر بعض الناس في هذا المقال يرد الدكتور فهد بن صالح العجلان على هذا السؤال ويناقش مسألة المعازف بشكل مختصر

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2284
لكم دينكم ولي دين | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

لكم دينكم ولي دين


يزعم البعض أن سورة الكافرون جاءت تقر الكافرين على دينهم وتقر المسلمين على دينهم أي أنها بمثابة الرضى بما عليه أهل الأديان الأخرى ولهذا قال البعض في تفسيرها أنها منسوخة وحاول آخرون أن يجدوا مخارج أخرى ولكن هنا ستعرف حقيقة هذه السورة وكيف أنها جاءت بالمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر

بقلم: محمد سعيد القحطاني
4271
ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية | مرابط
فكر مقالات

ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية


ما هذه إذن تلك القوة الغلابة التي لا تزيدها المقاومة إلا عنفا واشتعالا والتي تقهر في النهاية أنصارها وأعداءها على السواء أليست هي قوة الفطرة التي إن تورق وتثمر كلما عاودها الربيع فبلل ثراها وسقى أصولها بلى وإن هذا الربيع قد تكفي منه قطرة وربما تبلور في نظرة فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر أو لحظة من يقظة الوجدان أو أزمة من صدمات العزم فإذا أنت تسبح بخيالك في عالم الغيب الذي منه خرجت أو في عالم الغيب الذي إليه تصير

بقلم: محمد عبد الله دراز
2169
أمور لا مدخل للعقل فيها | مرابط
فكر تفريغات

أمور لا مدخل للعقل فيها


نؤمن أن العقل له حدود لا يستطيع تجاوزها وهناك الكثير من الأبواب التي لا يسمح لدخول العقل فيها مثل الغيبيات التي لا يعلمها البشر وإنما يعلمها الله جل في علاه كما أن إدراك العقل للقضايا يأتي إدراكا مجملا لا تفصيل فيه وبين يديكم جزء من محاضرة للشيخ محمد صالح المنجد يتحدث فيه عن الأمور التي لا دخل للعقل بها

بقلم: محمد صالح المنجد
2414
رد الإمام أحمد على الحلولية | مرابط
اقتباسات وقطوف

رد الإمام أحمد على الحلولية


مقتطف من كلام الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أثناء رده على الحلولية حينما زعموا أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان ونتعلم هنا كيف يلزمهم بلوازم تفضي كلها إلى نتائج محددة ونستقي من كلامه أسلوب المناظرة والمحاورة لأهل الفرق الضالة الأخرى

بقلم: أحمد بن حنبل
2058
أصلان ثابتان في الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصلان ثابتان في الإسلام


ودين الإسلام مبنى على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب فيعبد فى كل زمان بما أمر به فى ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين وكذلك شريعة الإنجيل.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
367