الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1532 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأزمة الرابعة: القطيعة المتصلبة:

تحتاج المناهج الإصلاحية في مسيرتها إلى أساسات متينة تبنى عليها، وإلى ركائز قوية تستند إليها، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو تاريخية أو فكرية، ومتى ما فقدت شيئا من هذه الركائز فإنها منتهية على السقوط والفشل.
 
والمتابع للخطاب الليبرالي السعودي بهدوء والمتلمس للأبعاد النفسية والفكرية التي تكمن في مظاهره، يجد أنه فاقد لكل تلك الأساسات، فهو يعاني من قطيعة شعورية متصلبة مع المجتمع، لأنه يعيش حالة انعزال مع بعض أصوله الدينية، وحالة انعزال مع تاريخه وتراثه، وانعزال مع بعض رموزه وقيادته الفكرية، وقطيعة مع كثير من قيمه.
 
وهناك مؤشرات عديدة تؤكد هذه الحالة الانعزالية:
 
ومن تلك المؤشرات: أن الخطاب الليبرالي ظهر للمتابعين بالقدح في الرموز الدينية في المجتمع، ومارس معها حالة نقدية واعتراضية عارمة، وزاول عمليات اعتراضية على الحالة الدينية بشكل مكثف، وأظهر الاستخفاف بالعلماء وبموافقهم ووصفهم بأوصاف قاسية، وبذل جهودا في محاولة إسقاط منزلة العلماء واخفاء دورهم.
 
وقد قامت الأقلام الليبرالية بتوجيه حملات نقدية وإسقاطية متتالية على عدد كبير من علماء الاتجاه الشرعي لما أبدى ما يخالف قولهم، كل ذلك مع فقر شديد في المستندات الشرعية وضعف بـيـِّن في اللغة الشرعية.
وهذه الحملات أدت إلى حدوث القطيعة بين التيار الليبرالي وبين المجتمع ؛ لأن كل مجتمع في الوجود لا بد أن يكون لديه رموز يتعلق بهم ويصغي إليهم.
 
ونوعية تلك الرموز تختلف باختلاف طبيعة المجتمعات، فالمجتمعات التي تغلب عليها الحالة المادية تتخذ رموزا تمثل هذه الحالة, يعد المساس بها قدحا في مشاعر المجتمع واستخفافا بعقله وذوقه, والمجتمعات التي تغلب عليها الحالة الدينية تتخذ رموزا تمثل هذه الحالة،يعد المساس بها قدحا في مشاعر المجتمع واستخفافا بعقله وذوقه.
 
ومن المؤشرات الدالة على القطيعة الشعورية لدى التيار الليبرالي مع المجتمع: غياب الاهتمام بأعقد المشكلات التي يعشها المجتمع، وتهم قطاع عريض منه، فالمتابع للصحافة الليبرالية يجد فيها خفوتا كبيرا في التحدث عن ظواهر تعد من أكبر الهموم التي يتحدث فيها الناس، ويمثل وجودها خللا دينا ومجمعيا كبيرا، كمشكلة الفقر وارتفاع معدلات البطالة في الشباب، وارتفاع معدلات الجريمة والسرقة والسطو وجرائم الزنا، وزيادة معدلات الطلاق، والتلاعب بالمال العام والحقوق المشتركة، واستشراء الفاسد الإداري والرشوة وغيرها من الإشكاليات التي تفاجئنا الصحافة اليومية بمعدلاتها المرتفعة.
 
والمتابع للخطاب الليبرالي لا يجد حضورا يتناسب مع ضخامة هذه الإشكاليات، وإنما يجده يتمحور غالبًا حول إشكاليات عمل المرأة ومواجهة الإرهاب، إلى درجة الإملال، وهذا التمحور يشعر المتابع المدرك للوضع الاجتماعي أن التيار الليبرالي يعاني من الانتقائية الشديدة فيما يطرح ويناقش، وأنه ليس مهموما بالارتقاء بمجتمعه وحل ما يعانيه من أمراض وأزمات حقيقية.
 
ومن مؤشرات القطيعة الشعورية لدى التيار الليبرالي مع المجتمع: أن الخطاب الليبرالي معرض إعراضا تاما عن التعايش مع الأحداث المؤلمة التي تمر بالأمة الإسلامية، فقد عاشت المجتمعات الإسلامية حالات محزنة، ومواقف مبكية، جراء الأحداث الأليمة التي مرت بإخوانهم المسلمين في فلسطين والعراق وفي غزة وغيرها، وتألموا على ذلك غاية التألم، بينما نجد بعض الخطاب الليبرالي يتغافل عما يحدث وكأنه يعيش في كوكب آخر، ولا يجده الناس إلا في التعليق على فتوى بعض العلماء، أو في التحريض على مظهر من مظاهر التدين في المجتمع، أو في النقد لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في التطبيل لقرار سياسي ولو كان استبداديا، أو في التلميع لمفكر علماني ناقد للفكر الإسلامي.
 
وحين حزن المسلمون لنبيهم صلى الله عليه وسلم لما تطاول عليه الرسامون، وصوروه بصور لا تليق به، وأظهروا تألمهم وحزنهم عليه، ظهرت من بعض التيار لليبرالي مواقف تقلل من شناعة هذا الحدث الذي هز كيان الأمة، وتنكر على الأمة بأنها أعطت الأمر أكبر مما يستحق، بل حمل بعضهم المسلمين مسؤولية تلك الشناعة، وظهر لدى البعض الآخر ركودا كتابيا كبيرا في التعامل مع هذه الحادثة الأليمة، فهل تحمس الخطاب الليبرالي لنقد تلك الممارسات كما تحمس لنقد بعض الدعاة والعلماء لما أظهورا بعض أقوالهم؟!
 
إن المراقب الذي يمتلك قدرًا بسيطًا من الوعي لا يكاد يجد في مثل هذه الممارسة إلا أنها دليل على مقدار القطيعة التي يعيشها التيار الليبرالي مع مجتمعه.
 
كان المجتمع يتمنى أن يجد تلك الحماس في التصدي لمن أساء إلى وحي ربهم، وقدح في نبيهم صلى الله عليه وسلم، كان المجتمع يتمنى أن يجد حرفا واحدا في نقد من دعا إلى ضرب الكعبة بقنبلة نووية، ولكنه تفاجأ بأن حماسة التيار الليبرالي ليست موجهة إلا إلى الداخل والشأن الديني فقط!
 
ومن آخر الأحداث المؤلمة التي زاد فيها بعض الخطاب الليبرالي من القطيعة بينه وبين المجتمع: ما حصل من إغلاق حلقات تحفيظ القرآن في مكة وجدة، فقد مثّل هذا الفعل جرحا عميقا تألم منه المجتمع، وثارت أحزانهم على كتاب ربهم، ومع هذا بادر بعض الخطاب الليبرالي إلى مباركته وتأييده، ودافع عنه ولمعه وكأنه فتح لم يقع للأمة مثله في التاريخ!.
 
ويزيد من الهوة الانعزالية التي يعيشها الخطاب الليبرالي مع المجتمع: ما يلحظه المراقبون من طغيان روح التبعية للثقافة الغربية، وما يشهده المتابعون من الاستلاب المعرفي للفكر الغربي ولمن تأثر به، فإنا نشهد إطراء عاليا للحالة الغربية وحضورا مكثفا لرموزها، كمثل فوكو وهيجل وكانت وريكور ورسل وجاك دريدا، ونجد في المقابل حالة نقدية للتوجه الشرعي وتقليلا من رموزه من الدعاة والعلماء وتحقيرا بالغا للتراث.
 
واجتماع هذه الأنواع من القطيعة في الخطاب الليبرالي يدل أنه يعاني من فقدان الأساسات المركزية التي يقوم عليها أي مشروع فكري ناضج مثمر، لأن المشروع الذي اجتمعت فيه تلك الانعزالات يكون فاقدا للبعد الاجتماعي، وفاقدا للبعد التاريخي، خاليا من البعد الديني، وخاويا من البعد الفكري، فهو بنيان لم يقم على أساس ولم يرتكز على قواعد حقيقية.

 

الأزمة الخامسة: التفتت الأخلاقي:

يجد المتابع للمنتج الليبرالي حضورا طاغيا للنماذج المتنافية مع أخلاقيات الفكر الراقي، ويقف على إزهاقات للمبادئ الأخلاقية التي تمثل العمود الفقري لأي منتج ثقافي ناضج.
 
فقد وجدت الألفاظ الشوارعية التي يستعملها عادة المراهقون، كلفظ" اللقافة، والصفاقة والخبالة والسذاجة والنذالة" محاضن مريحة في الصحافة الليبرالية، فترعرعت هذه الألفاظ ونمت بشكل ظاهر بسبب استدعاء التيار الليبرالي لها واعتماده إياها في تداوله الصحفي والفكري.
 
وكم مرت على المتابع مشاهد محزنة انتهكت فيها الصحافة الليبرالية الذوق الثقافي العام وتجاوزت فيه حدود الاحترام للآخرين، ونزلت به إلى مستوى متدني جدا، فإن بعض التيار الليبرالي لا يتردد في وصف من يخالفه، ولو كان شيخا كبيرا أو عالما مشهورا أو مثقفا مرموقا، بأنه مصاب باللقافة أو الصفاقة، أو بأنه" تسيل من وجهه حماقات الدينا" أو أنه" يحمل فكرا متعفنا" أو أنه" ليس لديه إلا ثقافة الصديد والضحالة" أو بأن عقله منتن.
 
كل هذه الألفاظ وغيرها يقف عليها المتابع في الصحافة الليبرالية وتمر عليه بشكل مستمر.
 
ولو قمنا باستقراء مبسط للمنتج الليبرالي لنتحقق من الطريقة التي يفكر بها والنفسية التي يتعامل بها مع المخالفين لأطروحاته، والألفاظ التي يستعملها في التعبير عن مشاعره ومواقفه، فإنا سنصل إلى أنه يعاني من التشنج والتوتر وفقدان التوازن، وأنه يسعى غالبا إلى"شيطنة المخالف له".
 
ويؤكد هذه النتيجة ما قام به بعض المتابعين من عملية استقرائية، درس من خلالها الحالة النقدية التي مارسها الخطاب الليبرالي ضد د/ سعد الشثري، حين أبدى رأيه في جامعة كاوست، وقد ظهر من خلال الدارسة بأنه أبدى في ذلك المشهد حالة انفعالية شديدة، انتهكت من خلالها كل المقومات الأخلاقية وتجاوزت فيها كل الحدود والمبادئ التي يقوم عليها الفكر الناضج.
 
فقد وصف د/سعد الشثري بأنه المعطل لمشروع التقدم، وأنه يسعى ضد الحياة، وأنه العاشق للركود والتخلف، والمناقض لأوامر الملك والمبدد لأحلامه! وأنه لا يعرف من الحياة إلا ذيل البعير، وأنه يسير ضمن الأفكار الضلامية، وأنه خرج ضمن سياق التطرف الذي خرجت منه الحركات الإرهابية، وأن موقفه أخطر من إنفلونزا الخنازير، وأنه بموقفه ذلك داخل ضمن دائرة شيوخ المسيار والمسفار، وأنه لا يروق له إلا نموذج الإمارة الطالبانية.
 
كل هذه الحالة الانفعالية حدثت في مشهد واحد فقط، وقد تكررت هذه الحالة بنفس الصورة في مشاهد فكرية أخرى.
 
وهذا كله يؤكد مدى الفقر الأخلاقي الذي يعيشه الخطاب الليبرالي، ويصور مقدار التفتت الذي ينخر في بنية ذلك الخطاب وفي مبادئه، ويصور للقارئ حجم الانحطاط السلوكي الذي يمارسه مع المخالفين له.
 
وما زال الباحثون والمثقفون يرصدون الأزمات الفكرية والسلوكية التي يعيشها التيار الليبرالي السعودي.
 
ومن آخر العمليات النقدية التي أحدثت حراكا فكريا كبيرا: العملية التي قام بها د/عبدالله الغذامي، فقد تناول المنتج الليبرالي بالتفكيك والنقد، وأبرز ما فيه من التناقضات مع أصول الليبرالية نفسها، وأبدى ما وقع فيه الليبراليون من خلط بينها وبين الإصلاح، وبين بأنهم ادعوا إنجازات ومبادئ قيمية ليست خاصة بهم.
 
وما قدمه الغذامي يمثل بلا شك حدثا كبيرا، وضربة قوية أبرزت إشكالية عميقة متجذرة في الخطاب الليبرالي، حيث إنه صادر من مفكر يتبوأ منزلة عالية في الساحة, ولديه أصول فكرية واضحة، ويمتلك إيمانا كبيرا بمبادئه.
 
ولكن يلحظ المراقب أن الغذامي كان متوجها في نقده لليبراليين وليس لليبرالية نفسها، فهو لم يكن ناقدا لليبرالية كفكرة ومنهج، ولم يتعرض لأصول الليبرالية ومبادئها، ولم يفكك ما تتضمنه من أفكار ومضامين معرفية، ولم يبين للقراء مدى اتساقها وصحتها في نفسها ولا مدى معارضتها لأصول الشريعة الإسلامية.
 
فالغذامي حين نقد الليبراليين نقدهم لأجل أنهم لم يلتزموا بأصول الليبرالية كما هي، ولم ينقدهم لأجل أنهم تبنوا أصولا خاطئة أو تمسكوا بمبادئ تخالف الشريعة، وحين غضب من الشبكة الليبرالية، لم يبن غضبه على ما فيها من شذوذ فكري وديني, إنما لأنهم حاربوا الحرية في الفكر.
 
ومع أن ما ذكره الغذامي عن الليبرالية صحيح، إلا أنه ليس هو كل ما عند الليبرالية، بل ليس هو أخطر وأفضع ما ظهر في منتجها الفكري.
 
وحين يستمع المراقب لنقد الغذامي لليبرالية يدور في ذهنه سؤال مشروع، وهو: إذا وجدت الفكرة الليبرالية الحقيقية كما هي في الفكر الغربي، ووجد من يتمثلها بشكل حقيقي وتام، فهل سيوجه الغذامي سهام نقده على هذه الحالة؟!! وهل سيكتب مقالات نقدية فيها ؟!! وهل سيسعى إلى تقويضها وتحجيمها ؟!!
 
إن المراقب الواعي لن يخرج بجواب واضح من خلال ما قدمه الغذامي في محاضراته ومقالاته عن هذه الأسئلة.

 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
إشكالات حول الحدود الشرعية | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

إشكالات حول الحدود الشرعية


باب الحدود الشرعية من أكثر الأبواب التي تتعرض لهجوم العلمانيين وأعداء الملة والدين على مدار التاريخ ولا تجد حدا من حدود الله إلا وقد أثاروا فيها الخلاف وحاولوا النبش في كل التراث الإسلامي أملا في الوصول إلى رأي يدعم موقفهم وفي هذا المقال نقف أمام حد الرجم والردة وهما من أكثر الحدود تعرضا للنقد

بقلم: أحمد يوسف السيد
2113
معالم في طريق تمكين الأسرة | مرابط
فكر المرأة

معالم في طريق تمكين الأسرة


هناك حملة عالمية لتمكين المرأة تحركها جهات معلومة وأدواتها لم تعد خافية على أحد لا يريدون خيرا بالمرأة ولا يسعون لتحريرها بل لتحرير الوصول إليها. ولقد بات معروفا حتى لدى بسطاء الناس أن هدف هذه الجهات ليس الرقي بالمرأة ولا رعاية مصالحها بل تحطيم الأسرة التي هي نواة المجتمع والتي تمثل المرأة فيها محورها وقطب رحاها.

بقلم: د. جمال الباشا
351
الرد على عدنان إبراهيم: فرية نبش بني العباس لقبر معاوية | مرابط
أباطيل وشبهات

الرد على عدنان إبراهيم: فرية نبش بني العباس لقبر معاوية


ادعى عدنان إبراهيم أن بني العباس نبشوا قبر سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ووجدوا خيطا أسود كالهباء واستدل في مقولته هذه بما رواه العماري وليست هذه هي الشبهة الأولى التي يروجها عدنان إبراهيم ضد سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وفي هذا المقال رد على تلك الشبهة وتوضيح للخطأ فيها

بقلم: أبو عمر الباحث
1706
شروط الإفتاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

شروط الإفتاء


وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه فقال: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة وذكر الكلام المتقدم

بقلم: ابن القيم
589
مفهوم الهداية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم الهداية


مقتطف ماتع للدكتور سلطان العميري حول مفهوم الهداية والذي يفهمه كثير من المسلمون بشكل خاطئ ويحصرونه في الأمور الدينية فقط بينما يحتاج الإنسان إلى أنواع كثيرة من الهدايات في حياته يوضحها لنا ويسردها بشكل موجز

بقلم: سلطان العميري
591
المدارس العالمية وتعلم اللغات | مرابط
فكر لسانيات

المدارس العالمية وتعلم اللغات


لي تجربة مع ولدي كان العمل يعطيني بدلا للتعليم يدخله أغلى مدرسة دولية لكنني فضلت لغة دينه وأمته ثم لما اطمأننت عليها دفعته قبل الجامعة بعام أو عامين لتعلم الإنجليزية فأتقنها وها هو الآن يدرس بها فلا هو ضيع لغته ودينه ولا هو تأخر عن غيره من أهل اللغة التي يدرسونها منذ نعومة أظفارهم على حساب لغة قرآنهم وأمتهم.

بقلم: د.خالد حمدي
413