تعلمت من أوقات الفراغ

تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

5031 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

أوقات العمل تملكنا ..... 

 

 

ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد ، فهي من أجل هذا  ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله ، وليست قيمة الوقت إلا  قيمة الحياة.

 

 

فالذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته، ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة  التي لا تساويها ثروة الذهب، لأن مالك وقته يملك كل شيء، ويصبح في حياته سيد  الأحرار. 

 

 

إن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه وعندنا في الشرق كثيرون بل  كثيرون جدا من هؤلاء الفراغين.   على القهوات وعلى أفاريز الطرقات ، في الصباح
وفي المساء ، خلال أيام الصيف وخلال أيام الشتاء ....

 

 

في كل وقت وكل موسم وكل مكان ألوف من الشباب الأقوياء والرجال الناضجين يقضون ساعات الفراغ في لعب النرد  والورق أو في تعاطي الراح والدخان ، أو في مراقبة الغادين والغاديات والرائحين والرائحات      ليس هذا وقتا فارغا لأنهم مشغولون فيه ، وليس هذا زقتا مملوءا لأنهم يملئونه بما هو أفرغ من الفراغ.

 

 

هذا ليس بوقت على الاطلاق...

 

 

وليس معنى " وقت  الفراغ" أنه الوقت الذي نستغني عنه ونبدده ونرمي به مع الهبا ،ولكن وقت  الفراغ هو الوقت الذي بقي لنا لنملكه ونملك أنفسنا فيه ، بعد أن قضينا وقت العمل
مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة.

 

 

قرأت مرة في تاريخ  امريكا الشمالية ان انجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار "كندا" فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون ..لماذا؟

 

 

زعموا في تعليل ذلك – وأصابوا- أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة  عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض لأنهم يستطيعون أن  يقضوا أوقات الفراغ منعزلين منفردين ، وأن الفرنسي لا يطيق العزله ولا يحتمل أن يفرغ    لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل  بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه...

 

 

ويصدق علينا في الشرق ما  يصدق على الفرنسيين ، فإن الانسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات ، ولا يهتدي بعد البحث  الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ.

 

 

إن كان قصارى ما أصاب  الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار "كندا" .. فالأمر معنا   أخطر وأعظم ، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون ، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه.

 

 

قيل عن أهل إسبرطة ..

 

 

قيل عن أهل اسبرطة أنهم كانوا ينبذون الطفل الضعيف في الغراء ، وأنهم كانوا يمتحنون قوة الأطفال بوضعهم في  إناء مملوء بالنبيذ، فمن بقي منهم مفيقاً بعد هذه التجربة أبقوه واستحق عندهم عناء التربية ، ومن ظهر عليه التخدُّر والسبات أهملوه ونبذوه ..

 

 

ولو أنني أردت امتحان  الأقوياء من الرجال لما تركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم ، فمن صبر عى هذه الساعات فهو  رجل ملآن بقوة  الفكر وقوة الخلق وقوة الاحتمال ، ومن لم يصبر عليها فهو الفارغ الذي لا خير  فيه...   

 

 

ماذا نتعلم من ساعات الفراغ

 

 

نتعلم منها كل شئ ولا نتعلم  شيئا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال، إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت  فراغ .. فالمعارف التي نجمعها من التجارب  والكتب محصول نفيس ، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من  خزائن العقل والضمير ..  ولن تتيسر لنا هذه  الغربلة وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ ..

 

 

إن معارف التجربة والإطلاع  زرع في حقله ينتظر الحصاد والجمع والتخزين ، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأت بعد ذلك ساعة التخزين...

 

 

وهي ســـاعة الفراغ

 

 

ساعة هي أَلْزم لنا من  ساعات العمل، لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير  فراغ الحياة. ولولا أننا نخشى أن يُقدّس الناس الفراغ لقلنا  أن تاريخ الانسانية من أوله إلى عهده الحاضر مَدينٌ لساعات الفراغ. 
لقد عرف التاريخ  الإنساني أقواما فارغين جَنَوا عليه بفراغهم أشنع الجنايات ودفعوا به إلى الحرب  تارة وإلى الفتنة تارة أخرى لأنهم وجدوا أمامهم متسعا من الفراغ يعيشون فيه. ولكننا – حتى مع هذا – لا  نستغني عن ثمرات ذلك الفراغ جميعا دون أن نجازف بالجانب الصالح النافع من تاريخ  الإنسان .

ماذا يبقى من تاريخ الانسانية لولا الفارغون الذين اتسعت أوقاتهم للبذخ والترف بين الحلي والحلل في ظلال القصور؟ 
من كان يجوب الأرض ويمخر  عباب البحر ليجلب الحرير والبهار والحجر النفيس والحجر الذي تبنى به الصروح؟

 

 

من كان يتعلم الملاحة؟

 

 

من كان يتعلم صناعة السفن؟ من كان يتعلم النسيج؟ من كان يستخرج اللآليء أو يبحث عن  شذور الذهب والفضة؟ من كان يرسل القوافل ويحذق فنون التجارة ؟ من كان يرصد النجوم ويدرس حركة الأفلاك في السماء؟

 

 

من كان يعرق هذه الأعمال

 

 

التي يعيش عليها الملايين لولا ذلك الفراغ الذي تقدم به الزمن في تواريخ الأمم؟

 


لقد  كان فراغا ذميما في  أكثر نواحيه ، ولكنه على مذمته قد أفادنا درسا خالدا لا يصح أن ننساه . ذلك الدرس  الخالد هو حاجة الناس جميعا إلى أوقات الفراغ، فهي شيء لا غنى عنه في حياة أمة ولا  في حياة أحد .. وحبذا قضاء الفراغ كله  فيما هو خير. ولكننا إذا خيرنا بين الفراغ بين الفراغ بخيره وشره  وبين ضياع الفراغ كله لاخترنا أهون الشرَّيْن.


إن العقلاء من أصحاب الأعمال يطلبون اليوم  متسعا من الفراغ لعمالهم بعد أن كان طلب الفراغ مقصورا على العمال.

 

فالعامل الذي يتسع وقته  للرياضة ينشط في عمله بعد عودته إليه..

 

 

والعامل الذي ينفق بعض  الوقت ينفق بعض المال فتدور الحركة – حركة البيع والشراء في الأســـواق.

 

 

حسبة من حساب الحرص لا من  حساب الإسراف , وحسبة يرضى عنها علم الاقتصاد ولا يرضى عليها علم الأخلاق .

 

 

لا بد من فـــراغ ...

 

ولا بد من فراغ نحفظه... والفراغ الذي نحفظه هو الذي  يحفظنا , لأننا نستخلص فيه خير ما ندخره من غربلة التجارب والمعارف والعِضات.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أوقات-الفراغ #عباس-العقاد
اقرأ أيضا
الانغماس في حياة الغرب | مرابط
فكر

الانغماس في حياة الغرب


فبقدر ما تنغمس فيهم بقدر ما تصيبك لعنتهم دون أن تشعر فإما تتنازل عن قيمك وتتخلى عنها فتغوص في الرذائل.. أو تداهن وتوارب في قيمهم فتتورط في كوارث.. أو تنبهر بالتعليم واحترام الخصوصيات و و.. فتصير حاكمية الذوق الغربي أهم من حاكمية الدين ويصير فهم الدين بمعايير الإنسانية أهم من فهمه بمعايير أهل العلم!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
432
استقبال رمضان | مرابط
مقالات

استقبال رمضان


منا من يرى تقصيره وغفلته وقسوة قلبه ويتساءل ماذا سيحصد في رمضان إن كان قد ضيع البذر والسقاية كما يقولون منا من يخاف من أن تحاصره أصوات المآذن وزحامات المساجد وهمهمات المرتلين ومناجاة الساجدين فتدفعه دفعا للعبادة أو تأنيب الهروب منها مع شعوره بالكسل والملل والفتور وعدم الرغبة

بقلم: كريم حلمي
450
الحجاب.. والفتاة المؤمنة | مرابط
المرأة

الحجاب.. والفتاة المؤمنة


وإن الفتاة المؤمنة هي التي لا تتحايل على ربها بلباسها فتظهر زينتها من حيث هي تزعم التدين والانتماء لأهل الصلاح بل الفتاة المؤمنة هي التي تلبس جلبابها الشرعي ثوبا هادئا ساكنا خاشعا على بدنها يسترها ولا يفضحها ويرفعها ولا يضعها ويكرمها ولا يمسخها ثم يقربها من ربها ولا يبعدها ويرفعها في الجنة إلى منازل الصالحين والصالحات والصديقين والصديقات.

بقلم: فريد الأنصاري
305
الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الرابع


فتى بريطاني يرفع دعوة على أمه ليتلقى منها وقتا كافيا توجه إلى المحكمة يرفع قضية على أمه لأنها لا تجلس معه وقتا كافيا تذهب خارج البيت وتتركه وأقر القاضي فعلا أن الحق معه وألزم الأم بالبقاء مع الطفل حتى الأساسيات غير موجودة عندهم فليس هناك حضانة ولا حق في الرضاعة يعطى للطفل ولا حنان يرتضعه يترك ويرمى ويهمل

بقلم: محمد المنجد
670
بدايات حركة السفور وتحرير المرأة | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

بدايات حركة السفور وتحرير المرأة


فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات وصرت مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر

بقلم: محمد جلال كشك
623
عبقرية محمد الإدارية | مرابط
فكر مقالات

عبقرية محمد الإدارية


الناظر إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يستشف الكثير من المحاور التي تنم عن عبقرية غير مسبوقة في التاريخ وعن عقلية فذة ومن الظلم أن نختزل سيرة الرسول في بعض المراحل المتعاقبة دون النظر إلى تفاصيل هذه المراحل التي تكشف لنا عن عبقرية النبي وفي هذا المقال يحدثنا عباس محمود العقاد عن عبقرية النبي في الجانب الإداري للمجتمع الإسلامي

بقلم: عباس محمود العقاد
1939