وقد كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه التمييز بين الرجال والنساء، والمتأهلين والعزاب، فكان المندوب في الصلاة أن يكون الرجال في مقدم المسجد والنساء في مؤخره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها”.
وقال: "يا معشر النساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال رؤوسهم" من ضيق الأزر، "وكان إذا سلم لبث هنيهة هو والرجال لينصرف النساء أولا؛ لئلا يختلط الرجال والنساء" وكذلك يوم العيد كان النساء يصلين في ناحية فكان إذا قضى الصلاة خطب الرجال ثم ذهب فخطب النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة كما ثبت ذلك في الصحيح.
وقد كان عمر بن الخطاب وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن أحد أبواب المسجد أظنه الباب الشرقي: "لو تركنا هذا الباب للنساء فما دخله عبد الله بن عمر حتى مات".
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: "لا تحققن الطريق وامشين في حافته" أي لا تمشين في حق الطريق وهو وسطه وقال علي رضي الله عنه:"ما يغار أحدكم أن يزاحم امرأته العلوج بمنكبها؟! " يعني في السوق.
وكذلك لما قدم المهاجرون المدينة كان العزاب ينزلون دارا معروفة لهم متميزة عن دور المتأهلين، فلا ينزل العزب بين المتأهلين.
وهذا كله لأن اختلاط أحد المصنفين بالآخر = سبب الفتنة، فالرجال إذا اختلطوا بالنساء؛ كان بمنزلة اختلاط النار والحطب.
وكذلك العزب بين الآهلين فيه فتنة لعدم ما يمنعه، فإن الفتنة تكون: لوجود المقتضى، وعدم المانع.
فالمخنث الذي ليس رجلا محضا ولا هو امرأة محضة لا يمكن خلطه بواحد من الفريقين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه من بين الناس.
وعلى هذا المخنث من الصبيان وغيرهم لا يمكن من معاشرة الرجال ولا ينبغي أن تعاشر المرأة المتشبهة بالرجال النساء بل يفرق بين بعض الذكران وبين بعض النساء إذا خيفت الفتنة.
كما قال صلى الله عليه وسلم: “مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع”.
وقد نهى عن مباشرة الرجل في ثوب واحد وعن مباشرة المرأة المرأة في ثوب واحد مع أن القوم لم يكونوا يعرفون التلوط ولا السحاق وإنما هو من تمام حفظ حدود الله كما أمر الله بذلك في كتابه وقد روى أن عمر بلغه أن رجلا يجتمع إليه نفر من الصبيان فنهى عن ذلك.
وأبلغ من ذلك أنه نفى من شبب به النساء وهو نصر بن حجاج لما سمع امرأة شببت به وتشتهيه ورأى هذا سبب الفتنة فجز شعره لعل سبب الفتنة يزول بذلك فرآه أحسن الناس وجنتين فأرسل به إلى البصرة ثم إنه بعث يطلب القدوم إلى وطنه ويذكر ألا ذنب له فأبى عليه وقال أما وأنا حي فلا.
وذلك أن المرأة إذا أمرت بالاحتجاب وترك التبرج وغير ذلك مما هو من أسباب الفتنة بها ولها فإذا كان في الرجال من قد صار فتنة للنساء أمر أيضا بمباعدة سبب الفتنة إما بتغيير هيئته وإما بالانتقال عن المكان الذي تحصل به الفتنة فيه لأنه بهذا يحصن دينه ويحصن النساء دينهن وبدون ذلك مع وجود المقتضى منه ومنهن لا يؤمن ذلك وهكذا يؤمر من يفتن النساء من الصبيان أيضا
وذلك أنه إذا احتج إلى المباعدة التي تزيل الفتنة كان تبعيد الواحد أيسر من تبعيد الجماعة الرجال أو النساء إذ ذاك غير ممكن فتحفظ حدود الله ويجانب ما يوجب تعدي الحدود بحسب الإمكان وإذا كان هذا فيمن لا ريبة فيه ولا ذنب فكيف بمن يعرف بالريبة والذنب
وهكذا المرأة التي تعرف بريبة تفتن بها الرجال تبعد عن مواضع الريب بحسب الإمكان فإن دفع الضرر عن الدين بحسب الإمكان واجب فإذا كان هذا هو السنة فكيف بمن يكون في جمعه من أسباب الفتنة ما الله به عليم والرجل الذي يتشبه بالنساء في زيهن
المصدر:
ابن تيمية، الاستقامة