مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1 | مرابط

الكاتب: الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي

1140 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقًا إسلاميًا شرعيًا، وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى، وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية، والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم.
 
وبناء على ذلك فإن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير هي قضايا داخلة ضمن الأحكام الشرعية، والتسميات ( المصطلحات ) الشرعية لها هي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والجهاد ونحوها، والكلام فيها يجب أن يكون بمنهج علماء الشريعة، وأدواتهم، وآلياتهم في التلقي والاستدلال، والكلام فيها بالآراء الشخصية، والتحسينات الذوقية هو من القول على الله بغير علم؛ إلا ما كان في الإطار العام الذي ليس فيه تحليل للحرام، وتحريم للحلال.
 
وعليه فإن الباحث الشرعي عند دراسته للأولويات والبدايات في الدعوة إلى الله تعالى يجد أن أول ما يجب البدء به هو الدعوة إلى التوحيد والعقيدة (أركان الإيمان)، ويدل على هذه الحقيقة الشرعية كثير من النصوص منها قوله تعالى " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك" ، وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الشهير لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مصلحًا وداعيًا إلى الله تعالى قال له: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ... )) والحديث رواه البخاري ومسلم.
 
والمتتبع لأولويات الأنبياء عليهم السلام في الدعوة والإصلاح والتغيير يجد أنهم يبدءون بالدعوة إلى التوحيد والعقيدة، ومن ذلك قوله تعالى" ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"، وفي قصص الأنبياء في سورة الأعراف نجد أن كل رسول يبدأ قومه بقوله " اعبدوا الله مالكم من إله غيره"، وهذا متكرر مع كافة الأنبياء، وهو من الدين المشترك بين الأنبياء فبهذا تكون أولوية العقيدة والتوحيد من المحكمات الشرعية في مجال الدعوة والإصلاح.
 
وأولوية العقيدة في الإصلاح من موارد الإجماع التي لم يخالف فيها أحد من علماء الإسلام في القديم أو الحديث، وهي تعود إلى قضية منهجية هي التفاوت في مراتب الأحكام والأعمال، فالواجبات أولى من المستحبات، والإيمان بالله تعالى أعظم من الصلاة ... وهكذا.
 
ولهذا أجمع علماء أهل السنة والجماعة على أن أول واجب على المكلف : " توحيد الإلوهية "، وردوا على أهل الكلام الذين قالوا أن أول واجب المعرفة، أو النظر، أو القصد إلى النظر، واعتبروا مقالتهم من المقالات البدعية، وقد ترتب عليها كثير من الأفكار والمواقف التي لا يزال يعاني منها المسلمون إلى اليوم، ومن أبرزها التبرير لشركيات التصوف والتشيع التي أعادت الوثنية، وعبادة الأوثان إلى الأمة الإسلامية. (أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية الجزء السابع والثامن والتاسع من درء التعارض لمسألة أولوية العقيدة وتوحيد الإلوهية فليراجع)
 
ومما يوضح أولوية العقيدة ما يترتب على حقيقتها أو مناقضتها، فهي أصل الدين وأساس الملة، ولا يكون للعبد إسلام بدونها، وهذا المقام من أوضح ما يدل على أولويتها وتقديمها على كل شيء.
 
وأولوية العقيدة تشمل الإصلاح في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، كما أنها تشمل كافة الأحوال والظروف، وهي أصل محكم لا يعارض بغيره، فمتى ما وجدت قضية عقدية وأخرى غيرها فإن التقديم يكون للعقيدة، وهذا ما يمكن الوصول إليه بقراءة يسيرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

 

أولويات الخطاب المدني الديمقراطي:

مصطلح " المدني والديمقراطي" كان إلى وقت قريب مستعمل في الأدبيات الفكرية العلمانية، وقد استعمله تقرير راند الشهير الذي عنوانه " نحو إسلام مدني ديمقراطي"، فالمدني يقابل الديني التعبدي في الاصطلاح التداولي العام، ولم يتم تداوله في الخطاب الإسلامي إلاّ مؤخرًا عند فئة معينة ترى الأولوية للحرية المدنية من خلال الديمقراطية، وأخذت بربط هذا المفهوم بالشريعة الإسلامية مع أن الممارسات الواقعية تدل على أن المنطلق الذي تنطلق منه هو منطلق مدني محض.
 
وقبل الدخول في مناقشة هذا الاتجاه أود تحديد محل الإشكال، واستبعاد القضايا المتفق عليها؛ ففي أحيان كثيرة يكثر الكلام في أمور متفق عليها وليست هي محل المناقشة والمراجعة.
 
فأهمية الحرية، ومخاطر الاستبداد، وأهمية وجود حاكم مختار من الأمة، والحاجة إلى بناء مدنية وتنمية حضارية شاملة ليست هي محل الإشكال، ولا أظن منصفًا يزايد على الخطاب الشرعي السلفي في بيان هذه القضايا، فقد اهتم بالفكر السياسي في غاياته الكبرى وهي تحكيم الشريعة بمعناها الشامل، وهو معنى يزيد على مجرد القضاء في الخصومات ليدخل فيه تربية الأمة على قيم الإسلام وأحكامه وتطبيقها داخليًا، وخارجيًا، وكذلك في وسائل الفكر السياسي فقد كان موقف المنهج السلفي واضحًا من التغلب والاستبداد وسرقة المال العام ونحو ذلك، بل إن أتباع الخطاب السلفي هم ضحايا الاستبداد السياسي، وفقدان الحريات.
 
 وأنا شخصيًا تحدثت في كتابي ( حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها ) عن الحرية في سياقاتها المختلفة التي تشمل التحرر من رق المخلوقين، وقدرة العبد على فعله، والحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومخاطر الاستبداد، ورجحت أن تكون الشورى ملزمة، مع أنني أعتبر القول بأنها معلمة قول فقهي معتبر لا يسخر منه إلا من فقد الفقه في الدين، ولم يعرف حقوق المسلمين، فلا يزايد أحد علينا في الكلام حول أهمية الحرية.
 
ولكن القضية التي محل الإشكال هي قضية الأولوية للحرية في الإصلاح، والأولوية للاستبداد في المقاومة، وما يتبع ذلك من تهوين الدعوة إلى العقيدة واحتقار منجزاتها، واتهام الداعين إليها بترسيخ التخلف والاستبداد وغيرها من التهم الظالمة، وتصوير المجتمع النبوي على أنه مجتمع ديمقراطي يسعى للمدنية كهدف أصلي له، وجمع النصوص المتعلقة بالاهتمام بالأحوال الدنيوية ووضعها في الصدارة كأنها غاية هذا المجتمع، وإهمال آلاف النصوص الشرعية المخالفة لذلك، وهذه الطريقة هي مسلك من مسالك أهل البدع نبه عليه الشاطبي في الاعتصام، فالخوارج يحتجون بنصوص الوعيد، والمرجئة بنصوص الوعد، والمعطلة بنصوص التنزيه، والمشبهة بنصوص الإثبات للصفات، والقدرية بنصوص الشرع، والجبرية بنصوص القدر، ويضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويتذرعون بذلك إلى إنكار شيء من الدين.
 
إذن الخلاف ليس في أهمية الحرية، ولا في مخاطر الاستبداد ولكنه في الأولوية: أهي للعقيدة والتوحيد أم للحرية؟، وهل الأولوية في الإنكار للشرك أم للاستبداد؟
 
من خلال النصوص المتقدمة، وترتيب الأولويات في الشريعة نجد أن الأولوية بالإجماع للبدء بالدعوة إلى العقيدة والتوحيد، والتحذير من الشرك والبدع.
 
وإذا جئت إلى مراتب الدين فإن أركان الإيمان هي الأهم والأعظم في دين الله تعالى، من تحقيق الحرية السياسية والاختيار الحر للحاكم، وكذلك نجد أن مصيبة الشرك وخطره أكبر بكثير من الاستبداد، لان التوصيف الشرعي للاستبداد هو (الظلم)، وهذا هو اسمه الشرعي، والظلم الواقع على العباد أقل من الظلم الواقع في عبادة غير الله تعالى.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الديمقراطية
اقرأ أيضا
اهتمام السلف بالعربية | مرابط
تفريغات لسانيات

اهتمام السلف بالعربية


لقد كانت تربية السلف لأولادهم على النطق باللغة العربية وإتقانها أمرا عجيبا وذلك لأنهم كانوا يعرفون تمام المعرفة أن الولد لن يفهم كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا إذا أجاد اللغة العربية وكانوا يحاربون اللحن والخطأ في اللغة جدا وكان أمرهم شديدا في هذه المسألة فقد قرأ بعضهم يوما قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء فاطر:28 العلماء فاعل فهم الذين يخشون الله فقرأها: إنما يخشى الله من عباده العلماء فقال له قائل: كفرت أتنطق بالكفر؟ جعلت الله يخشى العلماء!

بقلم: محمد صالح المنجد
360
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
887
الكذب يفسد تصور المعلومات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الكذب يفسد تصور المعلومات


كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد

بقلم: ابن القيم
622
الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج1 | مرابط
توثيقات

الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج1


دولة التركستان الشرقية من الدول الإسلامية المحتلة التي ابتلعتها الصين الشيوعية في سنة 1949م في ظل غفلة المسلمين عن قضاياهم الماسة ونتيجة لفرقة المسلمين وتشتتهم وهي أرض إسلامية خالصة ولقد فصلنا في تاريخها في مقال سابق بعنوان قصة الإسلام في الصين كما ذكرنا الثروات الهائلة التي تمتلكها هذه الدولة الإسلامية الكبرى والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والدينية التي تتمتع بها وهذا في مقال آخر بعنوان كنوز التركستان الشرقية وفي مقالنا هذا نرى ماذا فعلت الصين الشيوعية في العقود الثلاثة الأ...

بقلم: راغب السرجاني
723
ماذا لو | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

ماذا لو


عندما نسمع الآيات التي تتكلم عن القدر والأحاديث مثل واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك فلنعلم أنها تذكرنا بحقيقة أن هذه الأقدار إنما قدرها الله الذي نعلم عن علمه وحكمته ولطفه ورحمته وعدله فلنسلم له أنفسنا بطمأنينة

بقلم: إياد قنيبي
2295
الفائدة في خلق ما يؤذي | مرابط
اقتباسات وقطوف

الفائدة في خلق ما يؤذي


إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي؟! فالجواب: أنه قد ثبتت حكمة الخالق فإذا خفيت في بعض الأمور وجب التسليم ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب والمؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب وما خلق شيء يضر إلا وفيه منفعة.

بقلم: ابن الجوزي
233