من أخلاق الكبار: ابن تيمية

من أخلاق الكبار: ابن تيمية | مرابط

الكاتب: خالد السبت

1259 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أوذي، ورمي بالعظائم، وكفره علماء، وأفتوا السلطان بقتله، وضرب بعضهم على صدره، وقال: دمه في عنقي، دمه حلال، وبقي - رحمه الله - يقاد من سجن إلى سجن في دمشق، وفي القاهرة، وبقي مددًا متطاولة في السجن يخرج منه، ثم يعاد إليه مرة ثانية، قام عليه أهل عصره من شيوخ أهل البدع، والضلال، والأهواء، ومن الحسدة الذين امتلأت قلوبهم غيظًا، وحنقًا على هذا الإمام الذي ملأ الدنيا علمًا، ودعوة؛ وكسر أهل الضلال، والبدع بصوارم السنة؛ ولا زالت كتبه شاهدة بذلك، وكان من ألد أعداء شيخ الإسلام الذين يفتون بقتله، وبحل دمه، وبكفره رجل من فقهاء المالكية يقال له “ ابن مخلوف”.

مات ابن مخلوف في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فعلم بذلك تلميذه ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام، فجاء يهرول إلى شيخ الإسلام يبشره بموت أكبر أعدائه، وألد أعدائه، وهو ابن مخلوف، يقول له: أبشر قد مات ابن مخلوف، فماذا صنع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله؟ هل سجد سجدة الشكر، وقال: الحمد الله الذي خلص المسلمين من شره؟ لم يقل ذلك، وما قال كما يقول بعضنا: حصاة ألقيت عن طريق المسلمين، مستريح، ومستراح منه، لم يقل شيئًا من ذلك، بل يقول ابن القيم: فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، وقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به، ودعوا له.

من منا يصنع ذلك أيها الإخوة؟ من منا يذهب إلى أهل خصمه إذا مات، ويعزيهم، ويقول: لا تكون لكم حاجة إلا كنت لكم مكانه، ويواسيهم، من منا يصنع ذلك؟ أصحاب النفوس الكبيرة يصنعون ذلك، يتجاوزون النفس، نعم أفتى بقتلك، وكفرك لكن أنت أكبر من ذلك، تذهب إلى أهله، وتواسيهم، ولو تحلينا بهذه الأخلاق لاستطعنا أن نكسب كثيرًا من القلوب، لكننا قد نلعن هؤلاء الذين نختلف معهم سبعين لعنة، ونتعامل مع هؤلاء على قاعدة "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ" [التوبة: 84].

وهذه الآية قالها الله عز وجل  في المنافقين، فقد نتعامل مع بعض من نختلف معهم من المسلمين بمثل هذا التعامل الصلف الحاد؛ فنكون بهذا أشداء على أهل الإيمان، والله وصف أصحاب نبيه ﷺ بأنهم رحماء بينهم، والله يقول لنبيه ﷺ: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ" [آل عمران: 159].

عبد الله بن أبي رأس المنافقين قال في حق رسول الله ﷺ ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع عند المشلل: ما مثلنا، ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يَأكُلك، يقول هذا في حق رسول الله ﷺ ويقول أيضًا ظانًا أن خزائن السماوات، والأرض بيده: "لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا" [المنافقون: 7] يقول أنتم الذين آويتموهم، وأطعمتموهم فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم عن مدينة رسول الله ﷺ ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم، هذا من أصحاب النفوس الصغيرة، ولكن رسول الله ﷺ صاحب نفس كبيرة، فلما مات ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه ﷺ ليكفن به، وقام على قبره يستغفر له حتى نهاه الله عز وجل  عن ذلك، ولما نهاه الله بقوله: "إِِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ" [التوبة: 80].

يقول رسول الله ﷺ: لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر لهم لفعلت أو كما قال - عليه الصلاة، والسلام - هذا في رجل لطالما آذى رسول الله ﷺ وآذى المؤمنين، فهو الذي أفَك الإفك، وسعى به، وتولى كبره، واتهم عرض رسول الله ﷺ بأبشع تهمة، وقال أقبح القول، ومع ذلك يعفو عنه النبي ﷺ ويصلي عليه، ويدفع قميصه لابنه ليكفن به، ثم يقوم على قبره، يستغفر له، والنبي ﷺ يعلم حاله، وهذا لا يفعله إلا أصحاب القلوب الرحيمة، الكبيرة، الواسعة، وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء، والبراء، فهي أصلٌ ثابت كما ذكرت في أول هذا الكلام، لكن ينبغي أن نفرق بين أمرين بين شأن الولاء، والبراء، وبين حظ النفس، فالولاء، والبراء ثابت في القلب.

وأما النفس فدعها خلف ظهرك، ولا تنتصر لها، ولا تقف عندها؛ فالكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم، حقد مع هذا، ومشكلة نفسية مع هذا، وقضية شخصية مع الثالث، وكما يقال: وقفة نفس مع فلان، وما إلى ذلك من الأمور، فهذا لا يصلح أن يكون داعية، بل هذا يفسد أكثر مما يصلح، يدعو على هذا في ثلث الليل الآخر، ويلعن هذا، ويعلن صراحة بلا مواربة للآخر أنه لا يمكن أن يعفو عنه حتى يقف معه بين يدي حكم عدل، وهو الله - سبحانه، وتعالى - في يوم تشخص فيه الأبصار، هكذا بعضهم يعبر، فمن كان بهذه المثابة فهو لا يصلح للدعوة، بل عليه أن يدعو نفسه، وأن يعالج قلبه، ثم بعد ذلك يسعى في إصلاح الآخرين، لأن هذا إذا اشتغل بدعوتهم لربما أفسد أكثر مما يصلح، يصنع مشكلة مع هذا، وعداوة مع الآخر، فيتفرق المدعوون عنه، وينفضوا، ويبقي وحده.

ولما مرض شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مرض الوفاة، وأين؟ في المستشفى، في القصر، مرض مرض الوفاة في السجن، وقد منع عنه كل شيء حتى الأقلام، والأوراق منعت منه لئلا يؤلف، بتحريض من هؤلاء المبتدعة من شيوخ الضلالة، ومن الحسدة، كأن بعضهم قد تحرك ضميره، فجاء إلى شيخ الإسلام، وأين؟ في السجن الذي لا زال مأسورًا، جاء إليه يعتذر إليه، ويلتمس منه أن يحلله، ما قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - آلآن في الصيف ضيعت اللبن، هلا كان ذلك أولًا؟ هيهات أن أعفو عنك، وأن أصفح، وأن أحللك! ما قال شيئًا من ذلك، بل قال: إني قد أحللتك، وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق، وقال: وإني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي كونه فعل ذلك مقلدًا غيره.

أيها الإخوة: من كان بهذه المثابة فقلبه يتقطع من الغل، ولا ينام الليل؛ لأنه يتقطر على هؤلاء الخصوم، ثم هو يموت، ولم يقتص منهم، ولم يأخذ بثأره، ولم يتشف من هؤلاء الأعداء، إنه يموت في السجن، وهم يشمتون به، ويستريحون للخلاص من شخصه، ما قال: الآن أموت كمدًا "تعلم شفاء النفس قهر عدوها" كما يقول بعضهم، وإنما قال: قد أحللت الجميع.

بل أكثر من هذا لما وقع للملك الناصر انقلاب، فذهب عليه ملكه؛ وكان الذي قام بهذا الانقلاب ملك يقال له المظفر ركن الدين بيبرس؛ وكان هؤلاء العلماء، والفقهاء، والقضاة، والحسدة الذين لم يفتئوا، ولم يألوا جهدًا في الوشاية بشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كانوا قد التفوا حول هذا الملك الجديد، وصاروا حاشية له، وأداروا ظهورهم للأول:

لك العز إن مولاك عز وأن يهن    ***    فأنت إلى بحبوحة الهون صائرُ

فتركوه، وتوجهوا من جديد إلى هذا الملك الجديد، وصاروا حاشيته، وجلسائه، وندمائه، ثم استطاع الملك الناصر أن يسترد ملكه من جديد، فجاء، وجلس على سرير ملكه، وأحضر هؤلاء القضاة، والعلماء، والفقهاء، وأجلسهم بين يديه، وقد طأطؤوا رؤوسهم، لا يدرون ماذا سيصنع بهم؟ ولا يعرفون كيف سيفتك بهم، وينتقم منهم حينما أعرضوا عنه، والتفوا حول عدوه، وخصمه؟ فهؤلاء ليس لهم وفاء في نظر هذا الملك، وبينما هم كذلك، وقد طأطؤوا رؤوسهم يضربون أخماسًا بأسداس، إذ طلع عليهم رجل من بعيد، ولم يميزوه في أول الأمر، فلما اقترب إذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان في السجن، قد أمر الملك بإخراجه من جديد، ودعاه إلى مجلسه، فأسقط في أيديهم، وقالوا: الآن يتم الانتقام بفتوى، ونذبح على الطريقة الإسلامية كما يقال.

فقام الملك يمشي إلى شيخ الإسلام توقيرًا، وتعظيمًا في الظاهر لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ولم يكن من عادته ذلك هو يجرجره من سجن إلى سجن، فقام إليه يمشي مظهرًا لتعظيمه، ثم عانقه، وأخذه إلى شرفة، وناحية في القصر، وسارّره، وجلس يتحدث معه سرًا فماذا قال له؟ قال له: ماذا تقول في هؤلاء؟ يقول شيخ الإسلام: فعلمت أنه قد حنق عليهم، وأنه أراد أن ينتقم لنفسه - فلاحظ فقه شيخ الإسلام - لا ينتقم لشيخ الإسلام، ولا للدين، وإنما لأن هؤلاء قد تركوه، وأعرضوا عنه يقول: فعلمت أنه قد حنق عليهم، وأراد أن ينتقم لنفسه، فشرعت في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، ولا قيام لملكك إلا بهم، فهم قضاة البلد، وفقهائه، فأخرج لي أوراق، وقراطيس من جيبه فيها فتاوى بخطوطهم يقول: انظر ماذا قالوا فيك؟ كفروه، وأفتوا بقتله، وهذه محفوظة بملفات، آن الأوان لإخراجها لفضحهم لينتقم لنفسه.

المظنون لو كان الإنسان صاحب نفس صغيرة أن تأخذه العزة بالإثم، ويستطيع بكل سهولة أن يتدثر بدثار السنة، والدفاع عن العقيدة: أن هؤلاء مبتدعة، فنخلص منهم البلاد، والعباد، فماذا قال شيخ الإسلام: قال أما أنا فهم في حل من جهتي قد عفوت عنهم، يقول: فسكَنت ما عنده - أي هدأه - ثم بدأ شيخ الإسلام بعد ذلك يبث علمه في المساجد، وفي الحلق، والمجالس، وكثر أتباعه، وناصروه، ومؤيدوه، وبدأ أولئك الذين كانوا يتحركون في الكيد له، ويطعمون في النيل منه؛ يتلطفون به ليعتذروا إليه من سابقتهم، فماذا كان يقول؟ ما كان يقف مع كل واحد، ويقول: هيهات، أو يحقق معه لماذا قلت، وما الذي حملك على ذلك؟ لا، كان يقطع ذلك جميعًا، ويقول: قد جعلت الكل في حل مما جرى.

ما قسم الناس إلى فسطاطين: فسطاط الأولياء الذين نصروه، وكانوا معه في وقت الشدة، وفسطاط الأعداء الذين يستحقون كل ذم، وويلة، ما قسم الناس، ولا امتحنهم هذا الامتحان، كان يقول: ليطو هذا البساط، وكتب رسالة إلى أصحابه، وإخوانه في دمشق يذكرهم بهذا المعنى، يقول: أول ما أبدأ به ما يتعلق بي، فتعلمون أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين فضلًا عن أصحابنا بشيء أصلًا، لا باطنًا، ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلًا، بل لهم عندي من الكرامة الإجلال، والمحبة، والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخل الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا، أو مخطئًا مذنبًا، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد، فمعفو عنه مغفورٌ له، والثالث فالله يغفر لنا، وله، ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل.

كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب، والإخوة؛ فإني لا أسامح من آذاهم في هذا الباب، ثم يقول: وتعلمون أيضًا أن ما يجري من نوع تغليظ، أو تخشين على بعض الأصحاب، والإخوة، فليس ذلك غضاضة، ولا نقصًا في حق صاحبه، ولا حصل بسبب ذلك تغير منا، ولا بعض، بل هو بعدما عمل به من التغليظ، والتخشين أرفع قدرًا، وأنبه ذكرًا، وأحب، وأعظم، وإنما هذه الأمور إنما هي من مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم ببعض، فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، ولكن ذلك يوجب من النظافة، والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين - ثم يذكرهم بالتعاون على البر، والتقوى، ويذكرهم أيضًا بأن هؤلاء الذي غابوا عنه، ولم يحضروا، ولم يسلموا عليه، ولم يهنئوه على الخروج من الحبس أن هؤلاء لا يلحقهم لوم، ولا عتب، وأن لهم من المنزلة، والمكانة أضعاف أضعاف ما كان قبل ذلك.

ويقول لهم مثل هذه القضايا يقع فيها من الاجتهاد فمن كان مجتهدًا في طلب الصواب فهو مأجور، والله عز وجل  يغفر له خطأه، ويقول: في مثل هذه المحن يحصل أشياء من نزغات الشيطان، فينبغي أن نترفع عن هذه الأشياء، وهذه أمور قد كثر فيها الكذب، والمقالات المتنوعة، ويوصيهم، ويذكرهم بقصة الإفك "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ" [النــور: 11] وقد أظهر الله الحق، وبيَّنه فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه عليِّ، أو ظلمه، وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا، وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما في حق الله فالله يتولى الجميع؛ إن شاء غفر لهم، وإن شاء عاقبهم، ولو كان أحد يشكر على سوء صنيعه لشكرت هؤلاء على سوء صنيعهم معي.

من منا يفعل هذا، من منا يتعامل مع الخصوم بهذه الطريقة، ولذلك كان ابن مخلوف، وهو عدوه المالكي الذي ذكرته آنفًا يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية ما تركنا شيئًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا، وبهذا نستطيع أن نكسب قلوب الناس، ونكسب قلوب الأعداء فضلًا عن الأصحاب، والأصدقاء، وحينما يكون حول العالم، أو طالب العلم، أو الداعية مجموعة من طلابه، وتلامذته فيتعامل معه بطريقة تـنهبط فيها نفسه، ويتعلق بحظوظه النفسية الخاصة، فإن هؤلاء لا يمكن أن يستطيعوا أن يصبروا على الاستمرار، والدوام معه، ولا يمكن أن ينتجوا عملًا تنتفع به الأمة، لأن هؤلاء سرعان ما ينفرط العقد، ويتفرقون، ويتحولون إلى أعداء يكاشرونه بالعداوة.

ولم يقتصر إيذاء أهل البدع لشيخ الإسلام على ذلك بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - انفرد به بعض أهل البدع في ناحية من نواحي القاهرة، وضربوه، وشتموه، فتسامع الناس بذلك فخرج كثير من الأمراء، والقادة، والجنود، والعامة، والوجهاء يبحثون عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فوجدوه في مسجد على البحر، وتجمعوا عنده، وتتابع آخرون صاروا يتلاحقون، ويتسامعون، فاجتمعوا عنده، وقالوا له: يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا، ما قال لهم: نعم.. أنتم الذين تعرفون قدر علمائكم، ولا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها، هؤلاء أهل بدع، وضلالات، أحرقوهم، وأريحوا الناس منهم، ما قال هذا الكلام لأن القضية تتعلق بشخصه هو، فماذا قال؟

قال لهم: لأي شيء، قالوا: لأجلك، قال لهم: هذا ما يحق، قالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك - يعني لا نخرب الأحياء بكاملها، بل نذهب إلى بيوتهم، فنقتلهم، ونخرب دورهم، فإنهم شوشوا على الناس - ولاحظ الملحظ الآخر الذي جاءوا من أجله - في البداية الانتصار لشيخ الإسلام، فرفض، ثم أعادوا الكرة بثوب آخر، أنهم أثاروا فتنة، وشوشوا على الناس، فقال: هذا ما يحل، فقالوا: فهذا الذي فعلوه لك هل يحل؟ هذا شيء لا نصبر عليه، ولابد أن نذهب إليهم، ونقاتلهم على ما فعلوا، فكان ينهاهم، ويزجرهم عن ذلك، فلما أكثروا عليه.

قال: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني، ولم تستفتوني، فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كيف شاء، فقالوا له: هذا الذي فعلوا بك هل هو حلال؟ قال: هذا الذي فعلوه قد يكونوا مثابين عليه، مأجورين فيه، قالوا: فتكون أنت على الباطل، وهم على الحق، كيف تقول إنهم يأجرون على ذلك؟ فقال: ما الأمر كما تزعمون، فإنهم قد يكونوا مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر، أناس يضربونه، ويشتمونه، ويؤذونه ببدنه، وهم من أهل الضلالات، والأهواء، والبدع.

ويقول: إنهم قد يؤجرون، فأين نحن من مثل هؤلاء؟ بل خرج عليه رجل من هؤلاء المبتدعة، متفقه فانفرد بشيخ الإسلام في محلة، وناحية لم يكن هناك أحد، فأساء الأدب إلى شيخ الإسلام، وأسمعه ما يكره، وشتمه، فعلم الناس بذلك، وبدؤوا يأتون لشيخ الإسلام، يريدون الانتصار له، فسمع ذلك الرجل، فبدأ يتلطف، ويرسل الوسائط، يظن أن شيخ الإسلام سينتصر لنفسه، فكان شيخ الإسلام يرد بعبارة مختصرة يقول: أنا ما أنتصر لنفسي، يعني دعوا هذا الرجل يطمئن، ويرتاح، وينام قرير العين، فإني لا أنتصر لنفسي، وهؤلاء قوم يختلف معهم شيخ الإسلام في مسائل تتعلق بالعقيدة، والمنهج كما يقال.

أما الخلاف في المسائل الفرعية فهذا يكون الحكم فيه كما سبق: سعة الصدر، وهو أحرى بذلك، وأولى لأن الخلاف في المسائل العلمية الاجتهادية الفرعية أمر سائغ، ولا يلحق المخالف فيه تضليل، ولا تبديع، ولا ينسب إلى هوى إذا كان يقصد الحق، والناس طالما اختلفوا في مسائل الاجتهاد، ولكن أصحاب النفوس الصغيرة لربما احتدم النقاش معه، فصار يلقاك بوجه آخر، وابتسامة مائلة، من شق واحد، يضمر لك ضغينة، ويحمل عليك في نفسه؛ لأنه قد اختلف معك في مسألة من مسائل الفروع.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
المؤامرة على المرأة المسلمة ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

المؤامرة على المرأة المسلمة ج1


مرت بالأمة الإسلامية عصور تراجعت فيها عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم وعن العقيدة الصحيحة عقيدة السلف الصالح ودخلتها الضلالات والبدع من كل جهة حتى جاءت الحملة الصليبية الكبرى التي تسمى حملة نابليون وعندما قدم نابليون قدم معه عاهرات الفرنجة مرة أخرى ولكن الأمة اختلفت نظرتها هذه المرة عنها في المرة السابقة فأخذوا يكتبون ويقولون -وإن كتب ذلك بعد نابليون - إن المرأة الفرنسية متحضرة متطورة ناهضة وأن على المرأة المسلمة أن تقلدها وأن تحتذي حذوها

بقلم: سفر الحوالي
642
إن الله هو الرزاق | مرابط
تعزيز اليقين

إن الله هو الرزاق


والله تعالى يبسط الرزق ويضيق الرزق ويقول: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ويقول: يا عبادي: كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.ويضيق الله الرزق ويبتلي الله بالخوف والجوع ونقص المال والثمرات حتى يمتحن توكل العباد عليه وحتى يلجئهم إلى الرجوع عليه فيكسر غرورهم وتكبرهم بالفقر والحاجة يكافحونها.

بقلم: خالد بهاء الدين
383
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
614
محاكم التفتيش | مرابط
تاريخ فكر

محاكم التفتيش


محاكم التفتيش من أبشع الأحداث التي حفظها لنا التاريخ والتي تكشف لنا كم الحقد والضغينة التي يحملها الصليبيون في دواخلهم للمسلمين فقد وصلت الأخبار بطرق التعذيب البشعة والتي لا يتصورها عقل ولا يرقى إليها خيال أما عن الأدوات التي كانوا يستخدمونها فحدث ولا حرج كانوا ينتقون أكثر الطرق إيلاما قبل الموت وفي المقال خلاصات حول هذا الحدث التاريخي المشهور

بقلم: راغب السرجاني
3613
طريقة ابن خلدون في إثبات النبوة | مرابط
تعزيز اليقين

طريقة ابن خلدون في إثبات النبوة


ومن علاماتهم أيضا: أنه يوجد لهم -قبل الوحي- خلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس أجمع. وهذا هو معنى العصمة. وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها. وكأنها منافية لجبلته.

بقلم: البيهقي
225
بناء الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

بناء الإسلام


مقتطف للأستاذ محمود شاكر يعلق فيه سريعا على بناء الإسلام ومهمة المسلمين الأولى ثم يناقش بناء الاجتماع من الناحية الاجتماعية ومن الناحية السياسية ويقف على الشاغل الأول الذي لا يجب أن يفارق رجال الإسلام وهو إنقاذ المجتمعات الإسلامية من أسباب ضعفها

بقلم: محمود شاكر
1757