من حياة عمر بن عبد العزيز ج3

من حياة عمر بن عبد العزيز ج3 | مرابط

الكاتب: خالد الراشد

642 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

وفاة عمر بن عبد العزيز

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله! فلكل أجل كتاب، ولكل بداية نهاية، "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ" [الرحمن:26-27].

"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ" [آل عمران:185] يموت كل صغير وكبير، وذكر وأنثى، ومقر وجاحد، وزاهد وعابد "فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" [آل عمران:185]، تنتهي حياة الأخيار بنهاية حميدة، فكأن الأخيار ما بئسوا مع من بئس، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم غمسوا غمسة في الجنة فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب، وتنتهي في المقابل حياة الفجار في حفرة من حفر النار، ما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا فعند أول غمسة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار.

وتأتي وفاة عمر الذي كان أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت، اشتد عليه المرض وأدخل عليه الأطباء ووضعوا له العلاج المناسب، والشفاء بيد رب العالمين، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمني إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، ولكني أسأل الله أن يُسلِّم.

استدعى خادمًا ثم قال: أسألك بمن سيجمع الناس ليوم لا ريب فيه، أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار، قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين.

دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال: اعف عني عفا الله عنك.

قام وخطب بالناس، فكان مما قال في آخر كلامه: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم، إني لأقول هذا وما أعلم أحدًا عنده من الذنوب أكثر مما عندي، ثم خنقته عبرته، فأخذ طرف ردائه، فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.

في ضحى يوم عيد الفطر حلت بـعمر سكرات الموت التي لا بد من حلولها في كل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن لنا الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما ترى، وإنك تركت صبيتك صغارًا لا مال لهم، فأوص بهم إلي، فجلس عمر وقال: والله! ما منعتهم حقًا هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بني هؤلاء أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، وإما مكب على المعصية فلم أكن لأعينه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعًا، فدعوهم وكانوا بضعة عشر صبيًا كأنهم فراخ، نظر إليهم بحنان الوالد، نظر إلى ضعف طفولتهم، وبراءة أعينهم، فذرفت عيناه الدموع، ثم قال: أفديكم بنفسي أيها الفتية الصغار الذين تركتكم ولا مال لكم، أي بني! إن أباكم كان بين أمرين، إما أن يغنيكم فيدخل النار، أو يفقركم فيدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن وليي الله فيكم الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، انصرفوا عصمكم الله.

فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، رباه! ما عندي ما أعددته للقائك إلا خوفي منك، وحسن ظني بك، وأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا، فكانوا يسمعونه يردد: "تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [القصص:83].

أسلم عمر الروح إلى باريها، فرحمة الله عليه:

جسد لفف في أكفانه رحمة الله على ذلك الجسد

كان يقول قبل وفاته: إذا غسلتموني وكفنتموني ووضعتموني في لحدي، فاكشفوا عن وجهي، فإن ابيض فاهنئوا، وإن اسود فويل لي ثم ويل لي.

يقول رجاء: فكنت فيمن غسله وكفنه، وأدخله في لحده، وحللت العقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو كالقراطيس بياضًا.

بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

أسلم الروح عمر فأُسكت فم لطالما تلجلج بذكر الله، وأغمضت عينان لطالما ذرفتا من خشية الله، واستراحت يدان لطالما مدتا إلى ما يرضي الله، ودع الأمة والجياع قد شبعوا، والخائفون قد أمنوا، والمستضعفون قد نصروا بإذن الله، وجد اليتامى فيه أبًا لهم، والأيامى كافلًا لهم، والتائهون دليلًا لهم، والمظلومون نصيرًا لهم.

وحلت المصيبة بالمسلمين وأغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.

فاليوم تنعم يا عمر بجوار من أهدى البشر

فسقي رفاتك وابل من ماء غيث منهمر

يقول مسلمة: يرحمك الله يا عمر ! لقد لينت قلوبًا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرًا.

ذهب عمر بعد أن حقق العدل والطمأنينة والسكينة والأمن والإيمان في سنتين وبضعة أشهر وخمسة أيام، فما حققنا نحن على مدى سنوات طوال؟

كان كثيرًا ما يقول ويردد: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما، إن الأعمار لا تقاس بالأعمار، لكن بالهمم والمقاصد والأهداف.

مات عمر وما مات ذكره، ولا يموت ذكر الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، فها هو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحيي الموتى بعد عيسى لكان عمر، والله لا أعجب من راهب جلس في صومعته وقال: إني زاهد، لكني أعجب من عمر يوم أتته الدنيا حتى أناخت تحت قدميه، فركلها بقدميه وأعرض عنها وهو يقول: "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [الأنعام:15].

هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك، إن أعجبتك فاقتدِ بها، اقتد بـعمر وبالصالحين لعلك تكون منهم، فإن لم تستطع وجاهدت نفسك فأحبهم، فإن المرء مع من أحب.

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا أرحم الراحمين.

اللهم اجز عمر عن المسلمين خير الجزاء يا رب العالمين!

اللهم اجز كل العادلين عن رعيتهم خير الجزاء يا حي يا قيوم!

اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا حي يا قيوم!

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

اللهم قيض لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.

اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، يا حي يا قيوم!

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.

اللهم انصر المستضعفين في العراق وفي الشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان، اللهم انصرهم في كل مكان يا حي يا قيوم، اللهم كن لهم عونًا وظهيرًا، ومؤيدًا ونصيرًا، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم.

اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم تقبل شهداءنا وشهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين!

اللهم اجمع كلمتنا على الحق يا حي يا قيوم!

اللهم قيض لهذه الأمة ولاة أمر صالحين، وعلماء ربانيين ودعاة مخلصين يردونها إليك ردًا جميلًا يا حي يا قيوم!

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن، يا رب العالمين!

اللهم من أرادنا وبيوت المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين!

اللهم من حاربنا عبر الشاشات والقنوات، اللهم فلا تبارك لهم يا حي يا قيوم! اللهم اجعل كيدهم تدبيرًا ومكرًا عليهم يا قوي يا عزيز!

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا، يا عليم يا خبير!

عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عمر-بن-عبد-العزيز
اقرأ أيضا
لماذا كره السلف علم الكلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

لماذا كره السلف علم الكلام


مقتطف من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية يوضح فيه أن السلف لم يكرهوا علم الكلام بسبب الألفاظ المستحدثة أو المولدة والجديدة فيه وإنما لما تشتمله هذه الألفاظ من المعاني المبطنة والتي تحوي خيرا وشرا وتحوي صوابا موافقا للشريعة وخطأ مضادا للكتاب والسنة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1954
تبريرات عدنانية | مرابط
فكر مقالات مناقشات

تبريرات عدنانية


ويدفع عدنان كل نص يعارض كلامه الذي يرى أنه يعلو فوق كل اجتهاد تارة بالتضعيف وأخرى بالتأويل وفي هذا المقال سنقف على بعض محاولاته التبريرية والتي يلجأ فيها إلى الأسلوبين ويظهر فيها تناقضه الكبير وعدم اتساقه مع ما يقوله في مواضع مختلفة من رسالة الدكتوراه الخاصة به

بقلم: يوسف سمرين
1197
من أشراط الساعة: التباهي بالمساجد | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أشراط الساعة: التباهي بالمساجد


ومن أشراط الساعة ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من التباهي بالمساجد والمراد بالتباهي بالمساجد بتشييدها وعمرانها على مبان مختلفة حتى يتباهى الأغنياء كما يتباهون في بيوتهم: ذاك مسجد فلان وذاك مسجد فلان وشيد فلان مسجدا على هيئة كذا وشيد فلان مسجدا على هيئة كذا أو ما يقال أن مسجد فلان أكبر من مسجد فلان أو مسجد فلان أجمل وأفضل أو أكثر تحسينا من مسجد فلان

بقلم: عبد العزيز الطريفي
683
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
490
لماذا نحب الرسول الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الثاني


في هذه المحاضرة يدور الحديث حول محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطريق إليها معناها وأهميتها واجباتها ومستلزماتها وما ينبغي أن يكون موقف المسلم تجاه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا الموضوع على درجة عظيمة من الحساسية لما وقع الناس فيه من أهل الإسلام أهل القبلة بين الإفراط والتفريط هذا الموضوع ينبغي أن يفتح كل مسلم قلبه وسمعه لتفاصيله ويتذكر حتى ولو لم يتعلم شيئا جديدا ويستعيد إلى نفسه وقلبه ذكريات هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويتذكر حقوق رسول الله وواجباته

بقلم: محمد المنجد
643
الملحد: ينكر وجود الله أم يرفض وجود الله؟ | مرابط
الإلحاد

الملحد: ينكر وجود الله أم يرفض وجود الله؟


كثير من الملاحدة والليبراليين لا ينكرون وجود الله بل يرفضون وجود الله. هم لا يريدون لأي قوة أن تفرض عليهم حدودا لشهواتهم بل يريدون الاستمتاع بالدنيا كما تتمتع البهائم فاللذة هي إلههم المعبود الذي لا يستحق أحد العبادة سواه.

بقلم: إسماعيل عرفة
468