هل اتجه عمر رضي الله عنه إلى تقليل رواية الحديث

هل اتجه عمر رضي الله عنه إلى تقليل رواية الحديث | مرابط

الكاتب: محمد أبو شهبة

3039 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

شبهة اتجاه عمر إلى تقليل الرواية

قال صاحب " نظرة عامة في الفقه الإسلامي ": ص 71 ط الأولى، ص 76 ط الثالثة: «ومن الحقائق ذات البال ما عهد عن عمر من الاتجاه إلى تقليل رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده، روى عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب، قال: فمنعني القاسم يومئذ أن أكتب حديثا (الطبقات الكبرى لابن سعد) ج 5 ص 140» (1). كما روي عنه أنه حبس ثلاثة من الصحابة لأنهم أكثروا من الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" الحفاظ للذهبي: ج 1 ص 7 ") (2).

 

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كثيرًا ما رد أحاديث لم تتفق ورأيه - روى أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب أنها كانت مطلقة الثلاث، فلم يجعل لها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفقة ولا سكنى، وقال: «لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرْي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ»، لها النفقة والسكنى.ومثله ما روي من مذهب عمر أن التيمم لا يجزئ الجنب الذي لا يجد الماء فروى عنده عمار بن ياسر أنه كان مع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأصابته جنابة، ولم يجد ماء، فتمعك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَفْعَلَ هَكَذَا» وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه ويديه، فلم يقبل ذلك عمر ولم ينهض عنده حجة ولم يكن يقبل حديثا إلا ببينة " (" حجة الله البالغة ": ج 1 ص 141) (3).

 

وإليكم الجواب:

 

الاكتفاء بالقرآن

[1] قول المؤلف: «ما عهد عن عمر من الاتجاه إلى تقليل رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده» غير مُسَلَّمٍ، وما كان عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يمنع الناس من رواية الحديث ولكنه كان يدعو إلى التثبت في الرواية، وقد أخذ الخلفاء الراشدون أنفسهم بهذا التثبت ودعوا الناس إليه، وليس أدل على أن الفاروق عمر ما أراد هذا، وإنما أراد زيادة الاطمئنان ما روي أنه قال لأبي موسى الأشعري بعد أن طلب منه أن يأتيه بمن يشهد معه أنه يسمع الحديث الذي رواه في الاستئذان، فجاء بمن شهد معه وهو الصحابي الجليل أبي بن كعب «سُبْحَانَ اللهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ» وفي رواية أخرى أنه قال «خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ» (4) يعني الاشتغال بالتجارة والمعاملة في الأسواق عن التفرغ لسماع الحديث.

 

وكذلك جاء في بعض الروايات في غير " الصحيحين " أنه قال لأبي موسى الأشعري «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه مالك في " الموطأ "، وفي رواية عبيد بن حنين عند البخاري في كتابه " الأدب المفرد " فقال عمر لأبي موسى: «وَاَللَّه إِنْ كُنْت لأَمِينًا عَلَى حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَحْبَبْت أَنْ أَسْتَثْبِ» (5).

 

فكل هذه الأحاديث تدل على أن الفاروق عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ما كان يدعو إلى تقليل رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده، ومعاذ الله أن يريد الاكتفاء بالقرآن عن السنن والأحاديث، وكيف يدعو عمر إلى الاكتفاء بالقرآن وحده وقد ثبت عنه في أقضيته أنه كان يلجأ إلى السنن والأحاديث إذا لم يجد في القرآن كما فعل في إملاص المرأة، وفي الوباء لما وقع ببلاد الشام، وقد وصل إلى سرغ، ورجوعه عن الإقدام عليه لما أخبره عبد الرحمن بن عوف بخبر رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «[إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ] بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» رواه البخاري في " صحيحه "
 
وروى مسلم في " صحيحه " عن المسور بن مخرمة قال: «اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فِي ملاص الْمَرْأَةِ (6)، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ» (7). بل ثبت عنه أنه كان يسأل عن سُنَّةِ أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إذا لم يجد الحكم في القرآن ولا في السنة النبوية.

 

حبس ثلاثة من الصحابة

[2] أما رواية حبس الفاروق عمر لثلاثة من الصحابة فهي مكذوبة، وكان على المؤلف الفاضل أن لا يأخذ الروايات من غير تمحيص ولا تدقيق، والكتب فيها الغث وفيها السمين، وفيها المقبول، وفيها المردود، وهي رواية مكذوبة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.وإليكم ما قاله إمام من أئمة الحديث والسنن، والحفظ للأحاديث والفقه فيها وهو أبو محمد بن حزم الظاهري مؤسس المذهب بعد المؤسس الأول له وهو الإمام داود: قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَثَابَهُ - في أثناء ذكره لفضل الإكثار من الرواية للسنن: «وروي عن عمر أنه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حبس ابن مسعود، من أجل الحديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا الدرداء، وأبا ذر»

 

وطعن في الرواية [بالانقطاع] لأن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف راويه عن عمر لم يسمع منه، وقد وافقه على هذا البيهقي، وأثبت سماعه من عمر يعقوب بن شيبة، والطبري وغيرهما، والذي يظهر أنه لم يسمع منه، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أنه مات سنة 95 أو 96 وعمره 75 سَنَةً (8) فتكون ولادته سنة عشرين للهجرة، وعلى هذا يكون له حين توفي الفاروق ثلاث سنوات، وهي سن دون سن التحمل وعلى هذا فلا تكون الرواية حُجَّةً للانقطاع، ولعل البلاء جاء من هذا الراوي المحذوف.
 
بل قال ابن حزم: «إنه - أي الخبر - في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ السنن، وألزمهم كتمانها وجحدها، وهذا خروج من الإسلام وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلًا.ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات المطعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء» (9).

 

ومن دواعي الشك في هذه الرواية وعدم الثقة بها أن ابن مسعود كان يتبع مذهب عمر، وطريقته، وكان يقول: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، وَسَلَكَ عُمَرُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ عُمَرَ وَشِعْبَهُ " وقد أرسله عمر إلى الكوفة ليعلم أهلها وقال لهم: «لَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ اللهِ عَلَى نَفْسِي» وقال فيه وفي عمار بن ياسر «هُمَا مِنَ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».

 

فكيف يعقل أن يخالف عمر في منهجه في الرواية؟ وكيف يعقل من عمر أن يحبسه؟ وما ذكر في رواية فاطمة من الزيادة الباطلة وهي: «لاَ نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرْي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ» (*) والحديث كما في " صحيح مسلم " (10) قال عمر: «لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ [اللهِ] وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لاَ نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ، أَوْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ». الحديث وإنما جاء الغلط من اعتماده وسلفه صاحب " الضحى " على ما قاله المستشرقون وأخذ كلامهم قضية مُسَلَّمَةً، وقد اعتمد هؤلاء وأولئك على ما جاء في كتاب " مسلم الثبوت "، وهو كتاب في أصول الفقه، لا كتاب حديث وهذه الكتب لا يعول عليها في معرفة الصحيح من الحسن من الضعيف.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. هي مراجع المؤلف التي ذكرها.
  2. هي مراجع المؤلف التي ذكرها.
  3. هي مراجع المؤلف التي ذكرها.
  4. " صحيح البخاري ": - كتاب الآداب - باب الاستئذان.
  5. " فتح الباري بشرح صحيح البخاري ": جـ 11 ص 30، طبعة السلفية.
  6. هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم «ملاص» وهو جنين المرأة إذا وضعته قبل أوانه وهو السقط والمعروف في اللغة «الإِمْلاَصُ»، وقد صحح القاضي «ملاص» من ناحية اللغة.
  7. " صحيح مسلم ":- كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب دية الجنين ...
  8. " تهذيب التهذيب ": جـ 1 ص 139.
  9. " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: جـ 2 ص 139.
  10. " صحيح مسلم ": - كتاب الطلاق - باب المطلقة ثلاثا لا نفقه لها.
  11. قال المؤلف: هذا الرأي الذي ننقله هو رأي جولدتسيهر في كتابه " دراسات إسلامية "، وقد حرصنا على ترجمة هذا النص، حتى يتسنى للذين أَلَمُّوا بشيء منه أن يعرفوه بالتفصيل، ويعرفوا الرد عليه.

المصدر:

  1. محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، ص278
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السنة-النبوية
اقرأ أيضا
العلاج بالطاقة وقانون الجذب | مرابط
مقالات

العلاج بالطاقة وقانون الجذب


المعالجون بالطاقة الكونية وقانون الجذب والتأمل واليوجا وقوانين الاستحقاق هؤلاء لصوص آخرة يسرقون آخرتك ويدعونك لعبادة العجل الذهبي.. فهم يغرونك ببريق الدنيا ولذة الدنيا وتضخيم هوى نفسك ويسلبون في المقابل آخرتك يجعلون منك إلها صغيرا تغير الأقدار وتصنع الاستحقاق.

بقلم: د. هيثم طلعت
734
تشديد الشارع في الكذب | مرابط
اقتباسات وقطوف

تشديد الشارع في الكذب


وحسبك أن الإنسان المعروف بالكذب قد سلخ نفسه من الإنسانية فإن من يعرفه لم يعد يثق بخبره فلا يستفيد الناس منه شيئا ومن لم يعرفه يقع بظنه صدقه في المفاسد والمضار فأنت ترى أن موت هذا الرجل خير للناس من حياته وهبه يتحرى من الكذب ما لا يضر فإنه لا يستطيع ذلك ولو استطاعه لكان إضراره بنفسه إذ أفقدها ثقة الناس به على أن الكذبة الواحدة كافية لتزلزل ثقة الناس به

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
1299
مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج2 | مرابط
مناقشات

مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج2


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الخطأ أو ربما الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها وبين يديكم أحد أهم مقالاته في الرد على كتاب طه حسين حول موضوع الحياة الجاهلية وهل نلتمس ملامحها من القرآن أم من الشعر

بقلم: محمد الخضر حسين
620
الانكسار أمام الثقافة الغربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الانكسار أمام الثقافة الغربية


شهدت بلادنا ظهور العديد من التيارات الإصلاحية التي زعمت أنها تحاول الوصول إلى سبل التقدم والنهضة وطريق النجاة لبلادنا ولكن سعيها في النهاية أوصلها إلى الشواطئ الغربية فبدأت محاولات التوفيق بين الإسلام وبين الثقافة الغربية بكل شكل ممكن وبدأت محاولات الإصلاح تحت ضغط هذه الثقافة فأدت في النهاية إلى صورة مشوهة مزعومة للإسلام

بقلم: فتحي عبد الكريم ومالك بن نبي
2068
قاعدة الجزاء والحساب ج1 | مرابط
تفريغات

قاعدة الجزاء والحساب ج1


إن الله تبارك وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما لما له من نتائج وخيمة وعواقب أليمة وكان ينبغي لأولئك الذين يظلمون العباد ويسعون في الأرض الفساد أن يتعظوا ويعتبروا بمن سبقهم من الظلمة وهنيئا لذلك الرجل الذي امتلأ قلبه بحب الله فهو يعلم أن هدايته بيد الله وأن رزقه سيأتي إليه رضي الطواغيت أم سخطوا لأن الله هو الذي كتبه

بقلم: عمر الأشقر
792
من أكثر ما يعينك على الشكر | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أكثر ما يعينك على الشكر


من أكثر ما يعينك على الشكر تذكر سابق حالك.. يمكن أن تسمي ذلك بذكريات النعمة. هذا الشارع الذي تمشي فيه الآن بسيارتك كنت تمشي فيه في الحر الشديد أو البرد الشديد على رجليك ربما لا تجد أجرة الحافلة أو تجدها ولكن المشي أرفق بك من ركوبها.

بقلم: محمد سالم بحيري
293