
إياك والأوهام فإن تأثيرها على النفوس في إقدامها وإحجامها عظيم، والحكيم هو من ينظر فيما قد يقع في نفسه من الأوهام فيلزم نفسه بعدم اعتبارها حتى تصبح تلك عادته معها فلا تعود تهمه ولا تشغل باله.
وأما من ضعف عن مقاومتها واستجاب لها فقد تستولي عليه حتى تفسد عليه حياته، ويصبح وقد غلب عليه القلق والاضطراب وتشتت الهمة وضعف الإرادة وكثرة التوجس مما قد يكون، وهكذا يكون حاله على الدوام، فلا ينتهي من وهم إلا انتقل إلى غيره، لأن نفسه قد تعودت على تصديق الأوهام والعمل بها، بل قد يصل الأمر إلى تأثير الأوهام على ميول الشخص من حيث لا يشعر عند النظر في المسائل العلمية.
وما أحسن ما وصف به أبو حامد الغزالي رحمه الله حال تأثير الأوهام على النفوس حيث قال:
(خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة، حتى إن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود، إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم؛ ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه.
وليس هذا طبع العامي خاصة، بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه. وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها، وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس؛ ولذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك، ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه).
ومن طريف ما يذكر من تأثير الوهم ما حكاه الصفدي في الوافي بالوفيات حيث قال: (أخبرني من لفظه الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس اليَعمري قال: ترافق القرطبي المفسر والشيخ شهاب الدين القرافي في السفر إلى الفيوم، وكل منهما شيخ فنه فِي عصره، القرطبي في التفسير والحديث، والقرافي فِي المعقولات، فلما دخلاها ارتادا مكانا ينزلان فيه، فدلا على مكان، فلما أتياه قال لهما إنسان: يا مولانا بالله لا تدخلاه فإنه معمور بالجان، فقال الشيخ شهاب الدين للغلمان: أدخلوا ودعونا من هَذا الهذيان.
ثم إنهما توجها إلى جامع البلد إلى أن يفرش الغلمان المكان ثم عادا، فلما استقرا بِالمكان سمعا صوت تيس من المعز يصيح من داخل الخرستان، وكرر ذلك الصياح، فأمتقع لون القرافي وخارت قواه وبهت.
ثم إن الباب فتح وخرج منه رأس تيس وجعل يصيح فذاب القرافي خوفا، وأما القرطبِي فإنه قام إلى الرأْس وأمسك بقرنيه، وجعل يتعوذ ويبسمل ويقرأ آالله أذن لكم أم على الله تفترون، ولم يزل كذلك حتى دخل الغلام ومعه حبل وسكين، وقال يا سيِّدي تنح عنه، وجاء إليه وأخرجه وانكاه وذبحه، فقالا له ما هَذا ؟!، فقال: لما توجهتما رأيته مع واحد فاسترخصته واشتريته لنذبحه ونأكله، وأودعته في هذا الخرستان، فأفاق القرافي من حاله وقال: يا أخي لا جزاك الله خيرا، ما كنت قلت لنا وإلا طارت عقولنا).