
الحمد لله وحده.
كان بعضُ النَّاس ينام كلَّ يومٍ على أرضٍ قاسية، فأثَّرت في جنبه.
لقد تأثَّر جنبُه بقسوة الحصير، إلى درجة أن يلاحظ أصحابه أنَّه تأثَّر بقسوة الأرض على جسده.
قال له بعض أصحابه يومًا شفقة عليه وحبًّا: لماذا لا تتَّخذ شيئًا ألينَ من هذا؟
كان أصحابه يعرفون أنَّه قادرٌ على اتِّخاذ فراشٍ ليِّنٍ، وكانوا يرحِّبون أن يُهدوا إليه فراشًا ليِّنًا.
فقال الرَّجل مجيبًا أصحابَه: إنّني أتديَّن لله بتركِ متاع الدُّنيا..
هذا الفراش الليِّن متاعٌ أنا زاهدٌ فيه.
قال: إنِّي ضَيفٌ في هذه الدُّنيا، لا أريد أن آخذُ منها شيئًا.
ترى ما هي حقيقة رأينا في هذا؟
ما هو رأينا في تفكير الرجل بدون تزويقٍ، وبعيدًا عن خديعة النَّفس.
إنَّني أعلم أن كثيرين قد تفطَّنوا إلى المقصود، لم تكن الأسطر السابقة بقصد الخدعة على كلِّ حال.
كانت محاولة يائسة للكشف عن الذي حصل في أنفسنا من التَّباين بين ما نؤمن به وما نعيشه.
محاولة لفضح القوالب التي نحاول أن نقارب بها بين حقيقة الدنيا وحقارتها، كما جاء في الوحيِ واضحًا لا لبس فيه.
وبين حرصنا على اقتناصها، والاستمتاع بها.. وكنزِها!
هل تريد أن نستمتع بالدُّنيا بدرجة من الرَّفاه والعلوّ؟
هل تريد أن تمتلك الدُّنيا بيديك وفي جيبك، وتزهو يمنة ويسرة؟
قد لا يكون هذا حراما إذا أخذت حيطتك من الحرام والعلوّ في الأرض.
لكن عليك أن تقرَّ بمنزلة أخرى، هي خير من منزلتك، فأنت تنكرها.
أنت تنكر أن يكون بعض الزُّهدِ هو هجر متاع الدُّنيا، وعدم تملُّكه من الأساس.
وبناء عليه، تقول لتصرُّفات بعض الزُّهَّاد: إنَّهم متنطِّعون.. متشدِّدون.. يحرِّمون زينة الله التي أخرج لعباده..
هناك منزلة أخرى.
قد اختارها لنفسه سيِّد عقلاء بني آدم، وأتقاهم لله، وأخشاهم لله، وأملكهم لنفسه، وأملكهم لشهوته، وأشدُّهم حبًّا لله، وطاعة لله، وأحرصهم على إنفاق في سبيل الله.
وهو أيضًا: أحرصهم على ما ينفعُ من الدُّنيا ليقيم به حدود الله، ويحكمَ باسم الله.
وأبعَد النّاس أن تدخُل الدُّنيا في قلبه لو كان اختار أن يمتلكها..
ومع ذلك، لم يختر أن يمتلكها..
فالقضيّة إذن ليست كما تروِّج لها.
ستختار أنت أن تمتلك الدُّنيا في يدك، وتتمتَّع بها.
وسوف تحكي لنا كلَّ يوم عن عدم التنافي بين الزُّهد في الدُّنيا، الذي هو طبقات بعضها فوق بعض، لم يجبرك أحد على نوعِ الزُّهدِ المستحبِّ.. وبين امتلاك المال الوفير، والسيارة الفاخرة، والمنزل الفاره..
هذه خدعة.
تخفي بها تغلغل الدُّنيا إلى سويداء قلبك.
ولو لم تكُن خدعة، فهناك منزلة أعلى من ذلك، لا بدَّ أن تعي هذا..
■ قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه:
نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءً.
فقال صلى الله عليه وسلّم: (ما لي وللدُّنيا؟!! ما أنا في الدُّنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ ثمَّ راح وتركها).
وفي رواية: (ما لي وللدنيا، وما للدنيا ومالي)!
صلوات الله على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلَّم!
أي فراش ليِّن هو الدُّنيا؟
وأي دنيا هي التي نمتلكها إذن، ولا نرضى بها أبدًا؟