وربما أيضًا السبب في ذلك هو الضعف والقصور العلمي, ويظهر هذا لدى العجم, ونحن إذا أردنا أن ننظر في البدع التي ظهرت في الإسلام نجد أن جلها وراءها عجم, إما أن يكونوا بحسن قصد، أو بسوء قصد, ومرد ذلك هو إما إلى الجهل، وإما إلى إرادة الفتنة، والتأويل لكلام الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنزل الله عز وجل عليه الوحي في معاقل الإيمان والوحي؛ وهي مكة والمدينة، وشيء فيما بينها، وقليل فيما خرج عن ذلك, وأنه ينبغي للإنسان أن يستكثر مما كان عليه العرب الفصحاء من خير القرون, من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وكذلك أيضًا من التابعين, وأما مجرد الإمامة في باب من الأبواب ونحو ذلك فهذا لا يعني معرفة للحق.
ولهذا نقول: إن البدع التي ظهرت في الإسلام سواء كانت بدعة القدر, أو فيما يتعلق بالبدع التي وقعت في حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغير ذلك من البدع المتنوعة في الجهمية وغيرهم, بل حتى ما يتعلق في الصوفية الخرافية, هذا إنما نشأ عند العجم من جهة أول منبته, وتشبثوا في تفصيل ذلك وتقعيده لما رد عليهم كثير من الناس, فتشبثوا ببعض الأدلة من كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصلوا في ذلك تلك المذاهب, وكان دافعها في ابتداء ذلك الجهل, ولهذا تجد أن أكثر أهل العربية وقعوا في البدع؛ لأنهم ليسوا عربًا, إنما أخذوا العربية تعلمًا, وما أخذوها سليقة.
يعني: لم يكونوا أخذوها وراثة، واستقامت على ألسنتهم كما استقامت لدى كثير من العرب الذين ورثوها من آبائهم وأمهاتهم، وكذلك ممن حولهم, فوقعوا في كثير من البدع, لهذا ينبغي ألا يلتفت الإنسان مثلًا إلى إمامة فلان في العربية ونحو ذلك؛ لكثرة مصنفاته ونحو ذلك؛ بل نقول: إنه ينبغي أن نعلم أن الصحابي الذي لم يرد عنه شيء من العربية -يعني: لاستدلاله بأشعار العرب ونحو ذلك- أنه أبصر من جميع ممن يأتي بعده بالعربية؛ لأن عربيته سليقية, ولهذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله عن الإمام مالك: إن الإمام مالك يتكلم العربية سليقية, يعني: أنه لا يتكلم بقواعد وضوابط ونحو ذلك, وإنما يقيم اللسان سليقة.
ولهذا الأعراب الذين يرد إليهم النص من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول من الصحابة, وكذلك من التابعين من أهل المدينة ومن حولها, الذين لم تدخلهم العجمة, يفهمون كلام الله عز وجل أكثر من سيبويه و الخليل بن أحمد، وغيرهم من أئمة العربية؛ لأنهم أصحاب سليقة, وليسوا بأصحاب عجمة, وهؤلاء إنما توغلوا في هذا الباب، وأكثروا من الكلام في العربية ومعرفة الأدلة والشواهد ونحو ذلك, وإنما أخذوا ذلك بالقواعد, والقواعد في ذلك لا تسلم للإنسان في كل حين وفي كل موضع.
فالإنسان لا يفهم ذلك النص حتى يفهم الوضع الذي نزل عليه الدليل, فما كل من رجع إلى القواميس العربية يفهم الدليل, ولهذا ينبغي أن نفهم الوضع الذي جاء فيه النص في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد جاء في الصحيح وغيره من حديث عدي بن حاتم عليه رضوان الله تعالى (أن الله عز وجل لما أنزل قوله جل وعلا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187], قال عدي بن حاتم عليه رضوان الله: عمدت إلى عقالين فوضعتهما تحت وسادتي.. إلى آخر الخبر, فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ليلك لطويل, إنما هو سواد الليل وبياض النهار), فـعدي بن حاتم عربي, ولكنه ليس من أهل المدينة.
فالوضع الذي نزل عليه النص ينبغي للإنسان أن يعرف السياق المعروف في المدينة, وأما من جهة اللغة العربية فحجة عدي صحيحة؛ لأنك حتى لو رجعت مثلًا إلى القاموس تجد أن البياض المراد بذلك هو اللون المعين, وتجد أيضًا أن السواد هو اللون المعين, وتجد أيضًا أن الحبل هي الحبال المفتولة، وكذلك الخيط, فيجد الإنسان هذا التعريف, ولكن نقول: إن العربية في ذلك أعم, وتنزل على أجزاء متعددة, ويغلب النص نزولًا على أحدها, فيأتي في ذلك شيء من الفهم المخالف لظاهر الدليل, وهذا وقع يسيرًا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف في التابعين, فكيف في العجم من الكوفيين والبصريين وغيرهم, بل أيضًا ممن أبعد من ذلك من أهل فارس, وغيرهم ممن دخل في الإسلام من الروم وغيرها.
لهذا نقول: ينبغي للإنسان إذا أراد أن يفهم مسائل الدين أصولًا وفروعًا أن يرجع إلى أقوال أهل العربية من أهل العلم والفضل, وصدر ذلك هم الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في المدينة ومكة, وكذلك أيضًا الأجلة من فقهاء التابعين في المدينة ومكة, فينبغي له أن يعرف أقوالهم، وأن يتبصر بها, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم إنما فضل أصحابه لهذا الباب, وكذلك أيضًا إنما جاء تفضيل المدينة وأهلها وفضل سكناها؛ باعتبار أن البدع فيها أقل من غيرها.
وما ذكره المصنف رحمه الله أنه سئل ذلك وهو في طريقه؛ في هذا إشارة إلى أن العالم والداعي إلى الله عز وجل سواء كان في حله وترحاله ينبغي أن يعرف أحوال الناس, ويتفقد حاجتهم أيضًا, ويعرف مواضع الجهل والخلل فيهم, وألا يكون منكفئًا على نفسه, بل يتبصر بأحوالهم، ويعرف ما يحتاجونه وما يجهلونه, فيسأل عن حاجتهم, وعن قصورهم في باب من الأبواب, فالمؤلف رحمه الله لما عمد إلى بعض البلدان قاصدًا المدينة النبوية سألوه التصنيف في هذا الباب, فعمد إلى تصنيف هذه الرسالة في مسائل العقائد.
المصدر:
محاضرة شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث، ج2