
من المفارقات العجيبة أن أصحاب الفكر العلماني مع دعواهم الاستقلال الفكري، ودعوتهم إلى التحرر من سلطة أي مرجعية إلا أنهم في حقيقة حالهم إنما يبنون مقولاتهم ومشاريعهم على مسلمات ليس لهم فيها جهد مستقل، بل هم فيها مقلدون ومجرد صدى لما يطرح من مقولات وتحولات واتجاهات في الفكر الغربي، فهم في حقيقة الأمر إنما تركوا مرجعية إلى مرجعية، وانتقلوا من القطيعة مع التراث الإسلامي إلى الاستمداد من الفكر الغربي.
ومع وجود دراسات مهمة ورائدة في نقد ظاهرة التحريف العلماني للدين إلا أن هذه الظاهرة ما زالت تحتاج إلى دراسات موسعة، تحقق ما ينبغي القيام به مما هو من واجبات هذا العصر على أهل العلم، وتبين مدى تأثر أصحاب الفكر العلماني بالفكر الغربي، وكيف حصل هذا التأثر، والطريقة التي تعاملوا بها مع التراث الإسلامي، سواء قامت طريقتهم في ذلك على القطيعة مع الدين والتراث الإسلامي والاكتفاء باستجلاب النظريات المصادمة للدين في الفكر الغربي، أو كانت طريقتهم قائمة على ما هو أشد خطرا من مجرد القطيعة مع الدين والتراث، وهي التفسير العلماني لأصول الاعتقاد وشرائع الدين الإسلامي وشعائره بما يصادم حقيقته ويتناقض مع أصوله ومسلماته.
وكانت نتيجة التفسير العلماني للدين تحريفات في غاية البعد عن دلالة اللغة، وعن فهم علماء الأمة وما تواتر عنهم جيلا بعد جيل، وهذا طرف مما وقعوا فيه من التحريفات المنكرة للثوابت والمحكمات، وإشارات تدل على الكثير مما وراءها من الزيف والتحريف.
فحسن حنفي يذهب إلى القول بأن الله مفهوم ليس له ما صدق، أي أن الله تعالى ليس له وجود حقيقي، وإنما هو مجرد تصور في الذهن، فكيف سيكون موقفه بعد ذلك من سائر أصول الدين ومحكماته ؟.
نموذج أركون
وأما أركون فيزعم من ضمن مزاعم كثيرة أن القرآن حين كتب فلابد أن يكون قد فقد منه شيء، بدعوى أن الانتقال من مرحلة الخطاب الشفهي إلى المدونة المكتوبة لم يتم إلا بعد حصول الكثير من عمليات الحذف.

نموذج عبد المجيد الشرفي
ويأتي عبدالمجيد الشرفي فيطبق ما قرره أركون، ويسعى في آخر جهوده إلى التشويش على القرآن وعصمة حفظه وتدوينه وتداوله في الأمة، حيث أشرف على إعداد ما سمي بالمصحف وقراءاته، وقد صدر في خمسة مجلدات، وتضمن كل ما قيل إنه قراءة بصرف النظر عن الثبوت من عدمه، وعنده أن هذا المشروع يتجاوز المصحف المتداول الذي تم فرضه حسب زعمه لأسباب سياسية معينة إلى اكتشاف ما أهمل وهمش نتيجة تلك الأسباب.
نموذج الجابري
وأما محمد عابد الجابري فيقرر إمكان النقص في القرآن، بدعوى أن ما كان متوفرا عند آحاد الصحابة من القرآن قبل أن يجمع كان متفاوتا كمًا وترتيبا، وأن من الجائز حسب زعمه أن تحدث أخطاء من الصحابة في جمع القرآن، لأنهم غير معصومين.
نموذج أبو زيد
وأما نصر أبو زيد فيجنح إلى التركيز على تأويل الوحي وفق نظريات التأويلات المعاصرة بما يخرج النصوص عن دلالاتها وينتهي بها إلى أنها لا نهائية المعنى، وكما يستند في تبرير المنهج التأويلي إلى نظريات التأويل في الفكر الغربي فهو يستند أيضا إلى الانحرافات التأويلية في الفكر الإسلامي إبتداء بالمعتزلة وانتهاء بابن عربي، وأما العلماء الذين قرروا الأصول التي تفهم بها النصوص فعنده كما عند سائر الحداثيين أنهم قد سجنوا العقل الإسلامي وحجروه في نطاق ضيق.
نموذج شحرور
وأما شحرور فبالغ في تحريف أصول الدين وأحكامه بما لا يتصور عاقل أن يقول ما قال، فعنده أن علم الله هو مجرد علم بكافة الاحتمالات ولكنه ليس حتميا، وأن النبي مجتهد في مقام النبوة معصوم في مقام الرسالة، وحرف بناء على هذا التقسيم الكثير من العقائد والأحكام، بدعوى أن ما تعلق بالنبوة فهو تاريخي يتجدد في كل عصر بحسب ما يتم التواضع عليه، وحاصل منهجه أن فهم النصوص لابد أن يكون خاضعا لتطورات الفكر البشري، وأنه كلما تجددت نظم المعرفة وآلياتها، وما يتعلق بها من النظريات العلمية والتشريعات البشرية فلابد أن يتبعها تجدد في فهم الدين يتوافق معها، ولا تستغرب حينئذ إذا وجدت من الشناعات في مسائل الحدود والأحكام ما يتناقض مع المعلوم من الدين بالضرورة.
وهكذا تجد عند كل من هؤلاء وعند غيرهم ممن لم يذكروا هنا من نحو هذه التشكيكات الشنيعة ما يتناقض مع محكمات الدين وثوابته، مما يحتم بيان الموقف الشرعي من طرحهم، وضرورة الكشف عن أساليب التدليس الذي يمارسونه في نشر انحرافاتهم