بين الأصل والاستثناء

بين الأصل والاستثناء | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

1933 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

تأمّلوا معي – إخوتي وأخواتي- في النماذج التالية وهي نماذج شائعة في أوساطنا الثقافية:


1- إذا دخلت الزوجة في الإسلام، وما يزال زوجها باقٍ على كفره،  فلا يجب عليها مفارقته لأن المحرّم هو ابتداء النكاح مع الكافر وليس استمراره، لأنّ سيؤدّي إلى ترك المرأة للإسلام.
2- حرية الرأي مكفولة في النظام السياسي فمن حقّ أي أحد أن يعبّر عن أي رأي مهما كان ما دام أنه لم يعتدِ فيه على أحد لأننا لا نستطيع أن نمنع الآراء،  ولو أردنا المنع فالخاسر هو الإسلاميون.
3- الحجاب ليس واجبًا على المرأة لأنّه يسبّب لها عددًا من المضايقات والاعتداءات المختلفة.

 

ستلاحظون معي وجود فجوة منهجية ظاهرة في سياقات هذه النماذج.

 

هي أن الشخص يخلط بين الحكم الشرعي في حال (الاختيار والسعة والقدرة) والحكم الشرعي في حال (الضرورة والحرج أو عدم الاستطاعة) فيتحدث عن الحكم الشرعي في حال الاختيار، ويستدل لذلك بأحوال الضرورة، فيتعامل معها على أنّها درجة واحدة بينما هما في الحقيقة درجتان متباينتان (وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه).
 
إنها ظاهرة الخلط بين "الأصل" و "الاستثناء"، تتشابك معها القضايا في ذهن المتحدث فيدخل في أحكام الشريعة أمورًا ويبرهن عليها ويكون دليله على ذلك النظر في حالات الضرورة، والمنهجية الصحيحة أن يقرر أولًا الحكم الشرعي الأصلي الذي يريده  الله ويريده النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتحدث بعدها عن ما يطرأ في الواقع من حالات ضرورة أو حاجة معيّنة تعطي نوعًا من الاستثناء للحكم، لا أن تتداخل فلا يعلم القارئ هل هو أمام حكم (استثنائي خاصّ) أم حكم (شرعي دائم)؟
 
فحين يتكلم الشخص أو يؤلف عن "الحريات في الدولة الإسلامية" فيجب عليه أولًا أن يوضّح حدود الحريات في الشريعة بحسب دلائل الشريعة وأحكامها، ثم يقرر كيفية تطبيق ذلك في الواقع لا أن يكون الواقع هو الذي يفرض عليه الحكم، ويكون دوره بعدها في تتبع الشواهد والنصوص المساندة.

 

هل معنى هذا أن لا يكون للواقع أي تأثير على الحكم؟

 

لا قطعًا، فحين يجد الباحث أن هذا القول لا يمكن تطبيقه في الواقع فيجب الاجتهاد وبذل الوسع في اختيار الموقف المناسب، فيكون ثم درجتان في النظر، نظر في الحكم الشرعي ابتداءً، ونظر في حالات استثنائية طارئة للحكم.
 
إن حال من يخلط بينهما كحال من يُسأل عن حكم السجود للأصنام؟ فيقول: جائز لأن عدم سجودك سيؤدي بك إلى الهلاك! أو يقول عن شرب الخمر: إنه مباح لأن من لم يتداوَ به سيموت؟ أو يكتب: إن سرقة الماء جائزة لئلا تموت عطشًا؟ فعلى منوال هذه الأمثلة الظريفة تتّضح إشكالية دمج الأصل والاستثناء في حالة واحدة.
 
وأكثر ما تكون هذه الظاهرة حضورًا  هو في موضوعات (النظام السياسي) حيث  يقف بصرك متحيّرًا أمام بعض التقريرات الفقهية فلا تدري هل الحكم فيها متعلق ببيان الحكم الشرعي ابتداءً أم هو حالة ضرورة؟ لأن الباحث يبدأ فيها بذكر الحكم، ثم يسوق الدلائل والبراهين المتعلقة بالضرورات!
 
ومن الأمثلة الواضحة هنا: أن من ينظر في فلسفة الحريات في الإسلام سيجد أن حرية نشر الكفر والضلال لا يمكن أن تكون مكفولة في النظام السياسي وهو قول خارج عن التفكير الفقهي بتاتًا بل قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه:

 

"وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم. أعني مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا. وهذا مما أجمع المسلمون عليه. ولهذا بعضهم يعاقِبون على فعله بالتعزير. وأكثرهم يعاقِبون عليه بالقتل. وهو مما لا يشك فيه مسلم. ومن شك فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" [1]

 

فالقول بترك أهل الذمة يطعنون في الدين يعتبر ردّة عن الإسلام في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية، وما علم – رحمه الله- أنّ هذا القول  سيصبح في زماننا من الأقوال المعروضة كرأي فقهي يستدلّ له بنصوص الكتاب والسنة، والحجّة الثابتة هي عدم الاستطاعة! [2]

ما المشكلة في هذا؟

 

الخلط بين الأصل والضرورة

 

هب أنهم خلطوا بين "الأصل" و"الضرورة" في بيان الأحكام الشرعية فكان ماذا؟

في هذا إشكالات عدة:

الأول: تحريف المفاهيم الشرعية، فالضرورة حالة استثنائية في واقعة معينة وليست هي الحكم الشرعي ابتداء، وحين يخلط الشخص بينهما فإنه يمارس تحريفًا للشريعة فيقرر من الشريعة ما ليس منها، ويتقوّل على الله بلا علم.

الثاني: تغيير مسار الإصلاح، فبدلًا من قيام المصلح الإسلامي بمهمة تحريك الناس ودفعهم نحو سيادة الشريعة التي يصلح بها شأن دينهم ودنياهم، ينقلب الحال ليكون الدور قائمًا على محاولة تخريج الشريعة وإدراجها ضمن الواقع المتاح، فيكون الحاكم في قضايانا هو (الممكن والمتاح)  وليس (مرجعية الشريعة).

فحين تسود مفاهيم "الضرورة" و"الاستثناء" حتى تكون لدى الناس هي المفاهيم الشرعية الثابتة ويبحث لها عما يجعلها هي الأصل فإن هذه عملية انقلاب كاملة للمنهج الإسلامي.

الثالث: مخالفة فقه الضرورات، القائم على التأكد أولًا من وجود الضرورة والاستثناء، وبعدها يكون حالها على منهجية (الضرورات تقدّر بقدرها)، فتكون خاصة في المكان أو الزمان  المعين، وبالتالي فلن تعمم على جميع المجتمعات، ولن تبقى دائمًا، بل لا بدّ من إصلاح الوضع لإزالة هذا الحكم الاستثنائي.

الرابع: إضافة مفاهيم ومعانٍ جديدة إلى الشريعة، لأن الشخص يعامل الضرورات كالأحكام الثابتة فيدرج مفاهيم الضرورة لتكون جزءًا من أحكام الشريعة ومقاصدها، فيدخل في نسيج الفقه الإسلامي أحكامًا لم تكن معروفة من قبل لأنها روعيت في حالة الضرورة حتى أصبحت أصلًا، ومن آثار هذا أن أصبح بعض المفكرين الإسلاميين حين يفسّر بعض الآيات القرآنية يعرض معناها على قولين، قول المتقدمين وقول بعض المعاصرين!

فأصبح ثمّ تغيرًا وتحوّلًا في المفاهيم الشرعية،  حتى أصبحت الشريعة مفرّغة من أي  إلزام أو منع أو إكراه لا ترضى عنه الحريات المعاصرة، ولو رجعت بالقراءة قليلًا قرنًا أو قرنين فإنك ستلحظ مثل هذه التفسيرات معدومة تمامًا في أي مواقع فقهية سابقة، لأنها باختصار مفاهيم دخلت من بوابة الضرورة فصارت جزءًا من نسيج الفقه الإسلامي.

 

المتغيرات المعاصرة


هل هذا يعني أن يتمسّك الشخص بالأصل دائمًا ولا يلتفت للمتغيرات المعاصرة؟

كلا، فالمتغيرات الهائلة والنوازل المتلاحقة تتطلّب اجتهادًا وبحثًا ودراسة متتابعة، تراعي الأحوال وتضع لكلّ حالة حكمها المناسب، وإذا كان من يخلط بين الأصل والاستثناء مخطئًا لكونه سحب أحكام الضرورة حتى صارت هي الأصل، فإن من يترك واجب الاجتهاد في الوقائع المتجددة مخطئ أيضًا  لأنّه لم يحكم في القضية بحكمها الشرعي الصحيح.
 
إن الأحكام الشرعية  أمانة في عنق كل من ينطق بها، والهمّ الأول الذي يجب أن يكون نصب عينيه هو في الوصول إلى الاحكام الشرعية التي يريدها الله،  وأن يجتهد غاية الاجتهاد في تحديد حكم الشريعة  ليعرف كيف يجيب الله عنها يوم لقاه، وكلّ صعوبات الواقع وإحباطاته وإحراجات المخالفين وضغوط القوى المختلفة وكافة هذه الإشكالات لا يجوز أن تكون سببًا للتهاون أو التخفّف من المعايير العلمية والمنهجية لتحرير الأحكام الشرعية، فالواجب بيان الحكم الشرعي تحديدًا، وأما مجريات الواقع وتوقّعاته فهي بيد الله يقلّبها كيف يشاء.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الصارم المسلول 220
  2. ذهب جمع من المعاصرين إلى أن الحرية في النظام السياسي الإسلامي تتّسع لكافة الآراء مهما كانت مصادمة للشريعة أو قادحة فيها، انظر على سبيل المثال:  الحريات العامة في الدولة الإسلامية للدكتور راشد الغنوشي 1/78

 

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، معركة النص المجموعة الأولى، ص95

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص #الأصل-الاستثناء
اقرأ أيضا
بين مقام الشك ومقام اليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مقام الشك ومقام اليقين


ما أكثر ما نجد في الكتب الفكرية من يفخم شأن الشك وعدم الحسم ويقزم اليقين واليقينيات بل ويطالبون أن يتخلص الخطاب الديني من اليقين ولذلك تجدهم يكثرون من ترداد مقولة إلى المزيد من طرح الأسئلة فيفرحون بالأسئلة ولا يكترثون كثيرا بحسم الإجابات

بقلم: إبراهيم السكران
353
البحث عن السعادة | مرابط
تفريغات

البحث عن السعادة


ألا تريد الراحة في الدنيا! لعلك بحثت عنها فلم تجدها إنك لن تجدها في الملايين ولن تحصل عليها في القصور أو في السيارات الفاخرة ولا عند النساء ولا بالأرصدة ولا في بلاد الإباحية والخنا والفجور لن تجدها إلا بين دفتي المصحف لن تحصل عليها إلا في آخر الليل في السحر إذا قمت وصليت بها ركعتين لن تراها إلا وأنت تطوف حول البيت

بقلم: نبيل العوضي
296
خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج2 | مرابط
تفريغات

خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج2


الرسول صلى الله عليه وسلم يا إخواني كان يعلم أنه يصعب علينا صلاة الصبح في موعدها لأجل هذا كان له أسلوب تربوي رائع في تحفيز المسلمين لهذه الصلاة المحورية الخطيرة التي تميز الصادقين من المنافقين فقد أعطى صلى الله عليه وسلم خصائص هامة فريدة لصلاة الصبح لترغيب المسلمين في هذه الصلاة العظيمة الهامة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة الدكتور راغب السرجاني يتحدث فيها عن هذه الخصائص

بقلم: د راغب السرجاني
509
يا حبذا نوم الأكياس | مرابط
اقتباسات وقطوف

يا حبذا نوم الأكياس


فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته ولا ببدنه والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح قال تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وقال لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقال النبي التقوى ههنا وأشار إلى صدره

بقلم: ابن القيم
274
علمنة الأحكام الشرعية | مرابط
فكر مقالات العالمانية

علمنة الأحكام الشرعية


يناقش هذا المقال ظاهرة خطيرة يشهدها واقعنا المعاصر ألا وهي علمنة الأحكام الشرعية حيث يبقى المسمى الشرعي كما هو ولكن يتم تفريغه من مضمونه وتبديله بمضامين أخرى لا تخالف الذائقة العلمانية وقد ضرب الكاتب العديد من الأمثلة بأحكام شرعية مل الردة والربا والجهاد وموضوعات الاختلاط والولاء والبراء وبين كيف تغير معناها الإسلامي إلى معنى علماني مخالف

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2071
الغناء بريد الشيطان | مرابط
تفريغات

الغناء بريد الشيطان


هذا كان يقوله ابن مسعود لما كان الغناء يقع من الجواري والإماء المملوكات يوم أن كان الغناء بالدف والشعر الفصيح يقول: هو رقية الزنا فماذا يقول ابن مسعود لو رأى زماننا هذا وقد تنوعت الألحان وكثر أعوان الشيطان؟! لقد أصبحت الأغاني تسمع -والعياذ بالله- في كل مكان والأغاني طريق لنشر الفاحشة فما يكاد يذكر فيها إلا الحب والغرام بالله عليك هل سمعت مغنيا غنى يوما في التحذير من الزنا أو أكل الربا أو حتى عن صوم النهار وبكاء الأسحار وتعظيم الواحد القهار؟!

بقلم: محمد العريفي
323