حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الأول

حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الأول | مرابط

الكاتب: د منقذ بن محمود السقار

2791 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

عن الإنسان والهموم..

1- لكل منا همّ، بل هموم يحملها في صدره، إذ الدنيا هي دار الهموم كما قال الشاعر:
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأكدار
 
2- الهموم بعضها دنيوي، وبعضها أخروي، فمن الهموم الدنيوية وما أكثرها: همّ الدراسة، الرزق والوظيفة، حاجات الأسرة، أعطال السيارة، مشاكل الأبناء، أخبار الفريق الكروي...
ومن الهموم الأخروية: أحوال المسلمين، عذاب القبر، أهوال القيامة، المصير إلى الجنة أو إلى النار، تربية الأبناء، كيفية القيام بحقوق الوالدين، هم الدَين وسداده للخلوص من حقوق العباد...
 
3- الإنسان يعيش في وسط هذه الهموم، إذ الدنيا معاشنا، والآخرة معادنا، فكل منها مصلحة للإنسان يود لو كفيها، لكن ينبغي على المسلم أن يعطي كلًا من الدنيا والآخرة قدرها، فيتخفف من شواغل الدنيا وهمومها، ويجعل همّه وشغله في مسائل الآخرة، وهذا ما أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من جعل الهموم همًّا واحدًا هم المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك)) [ابن ماجه ح4106].

وفي رواية: ((من كان همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرّق الله عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) [أحمد ح21080]. وفي رواية: ((من جعل الهموم همًا واحدًا هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)) [ابن ماجه ح257].

عن الحسن قال: (فمن تكن الآخرة همه وبثه وسدمه يكفي الله ضيعته ويجعل غناه في قلبه، ومن تكن الدنيا همه وبثه وسدمه يفشي الله عليه ضيعته ويجعل فقره بين عينيه، ثم لا يصبح إلا فقيرًا ولا يمسي إلا فقيرًا) [الدارمي ح331].
 
4- السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو الهم الأول الذي يسيطر على حياتنا، وهو الهم الذي يسميه النبي صلى الله عليه وسلم الهم الأكبر، وذلك في قوله: ((ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب. [الترمذي ح3502].

هل هذا الهم من هموم الدنيا أم من هموم الآخرة؟ حاول أن تكتب الهموم التي تهمك في ورقة، وانظر أهمها لديك، وأكثرها شغلًا لبالك، ثم انظر كم من هذه الهموم للدنيا وكم منها للآخرة، قال علي بن أبي طالب: (ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل) [رواه البخاري في باب الأمل وطوله]
 
5- من أراد أن يعرف الهم الأكبر الذي يشغله فلينظر في أحواله: ما الذي يفكر فيه قبل نومه أو في صلاته؟ ما الذي يفرحه ويحزنه؟ وما الذي يغضبه؟ما هي أمنياته؟ وبماذا يدعو الله في سجوده؟ وما الذي يراه في منامه وأحلامه؟ ما الأمر الذي يؤثر تأثيرًا مباشرًا في قراراته كاختيار الزوجة ومكان السكن، هل هو الجمال وإيجار الشقة أم الدين والجوار من المسجد؟ وهكذا...
إن التبصر في ذلك كله يدلك على الهم الأول أو الأكبر في حياتك، فتعرف حينذاك أنك ممن أهمته دنياه أو أخراه.

 

هموم الأنبياء عليهم السلام:

أنبياء الله هم أصدق الناس طوية، تجردوا عن حظوظ أنفسهم وعاشوا من أجل بلاغ دينهم، فكانت الآخرة همهم.

هذا نوح عليه السلام يمكث في دعوة قومه قرابة الألف عام، وهو يدعوهم إلى طاعة الله وعبادته، وليس له من هم إلا ذاك {قال رب إني دعوت قومي ليلًا ونهارًا}، {ثم إني دعوتهم جهارًا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا}.

وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام فقد عاش يحمل هم أمته عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك أن ربه عاتبه هون عليه ما يجده من هم وحزن لعدم إيمان الكفار بدعوته، ومنه قوله تعالى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء:3]. {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} [الكهف:6]. {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل:127]. {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام:33]. {ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون } [النمل:70]. {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} [فاطر:8]. وقد وصفه الله بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة:128].

ونرى في حياته صلى الله عليه وسلم هم الدعوة - وهو من هموم الآخرة - جليًا واضحًا ومن ذلك أنه لما ذهب إلى الطائف يدعوا أهلها إلى الإسلام كذبوه وأغروا به السفهاء فضربوه وأدموه، لكنه عليه الصلاة والسلام شغله هم الدعوة عن جراحه، فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)) [البخاري ح3231، مسلم ح1795].

ولو كان همه صلى الله عليه وسلم لنفسه لطلب العجلة في قتلهم وعذابهم، لكنه مشغول بهدايتهم، فقد جاء في تمام الحديث: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))، وفي سيرة ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم دعا فكان مما قال: ((إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [سيرة ابن هشام2/420].

وبقي همه الدين صلى الله عليه وسلم حتى آخر حياته فعن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)) [أبو داود ح5156، ابن ماجه ح2698].

وطوال حياته صلى الله عليه وسلم كان فرحه للآخرة وحزنه وغضبه كذلك:
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) [البخاري ح3560، مسلم ح2327].
وكذلك كان غضبه صلى الله عليه وسلم للدين فعن أبي مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبًا منه يومئذ ثم قال: ((يا أيها الناس إن منكم منفرين فمن أم الناس فليتجوز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة)) [البخاري ح704، مسلم ح466]. فأشد ما يغضبه صلى الله عليه وسلم هو الدين.

وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال: ((يا عائشة ما يؤمني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هذا عارض ممطرنا})) [البخاري ح4829، مسلم ح899].

وقال له أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله قد شبت! قال: ((شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)) [الترمذي ح3297]. قال أبو الطيب: وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة والمثُلات والنوازل بالأمم الماضية. [تحفة الأحوذي 9/131].

 


 

المصدر:

http://saaid.net/Doat/mongiz/6.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#منقذ-السقار #الدنيا-والآخرة
اقرأ أيضا
التحذير من الاختلاف | مرابط
اقتباسات وقطوف

التحذير من الاختلاف


مقتطف لابن قيم الجوزية من كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين يدور حول الاختلاف وقد أخبرنا الرسول أنه سيقع اختلاف كبير في هذه الأمة كما ذم الشرع سلوك المختلفين وحذر من اتباع سبيلهم وأرشدنا الحق تبارك وتعالى إلى مآلات هذا الأمر من الفرقة والشتات وفي هذا الاقتباس يقدم لنا ابن القيم خلاصة الأمر

بقلم: ابن القيم
1106
حدود النظر إلى المخطوبة أثناء الرؤية | مرابط
المرأة

حدود النظر إلى المخطوبة أثناء الرؤية


هل يجوز للخاطب رؤية شعر المخطوبة في الرؤية الشرعية؟ وما يحل له رؤيته؟ أثير مؤخرا بعض الجدل حول ما يجوز للخاطب أن يراه في الرؤية الشرعية واختلاف الفقهاء والمذاهب في هذه المسألة وبين يديكم تأصيل علمي لحدود الرؤية بقلم د. قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
264
غيرة الأب | مرابط
اقتباسات وقطوف

غيرة الأب


الرجال أغير على البنات من النساء فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ويحملها على ذلك ضعف عقلها وسرعة انخداعها

بقلم: ابن القيم
227
كيف كان النبي يعالج الكرب والهم والغم والحزن؟ | مرابط
تعزيز اليقين

كيف كان النبي يعالج الكرب والهم والغم والحزن؟


فصل ماتع من كتاب الطب النبوي لابن القيم يبين فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاج الهم والغم والكرب والحزن ويجمع فيه الأحاديث الواردة في هذه المسائل ودلالتها.

بقلم: ابن القيم
276
لماذا نصوم الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الثالث


لقد عرفنا الكثير من موجبات صيامنا ومقتضياتها وأول موجب للصيام: أن صيام رمضان قاعدة من قواعد الإسلام الخمس فمن قال: لا أصوم جاحدا منكرا لما شرع الله فقد أسقط بناء الإسلام ولم يبق له حظ فيه كمانع الزكاة الجاحد لفرضيتها وكتارك الصلاة الجاحد لفرضيتها فالكل يكفر والعياذ بالله إذا نصوم لتلك الفضائل التي اشتمل عليها الصيام والميزات العظيمة التي ينالها المؤمنون في الدنيا والآخرة

بقلم: أبو بكر الجزائري
731
من أخلاق الكبار: ابن تيمية | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: ابن تيمية


مات ابن مخلوف في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فعلم بذلك تلميذه ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام فجاء يهرول إلى شيخ الإسلام يبشره بموت أكبر أعدائه وألد أعدائه وهو ابن مخلوف يقول له: أبشر قد مات ابن مخلوف فماذا صنع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله؟ هل سجد سجدة الشكر وقال: الحمد الله الذي خلص المسلمين من شره؟ لم يقل ذلك وما قال كما يقول بعضنا: حصاة ألقيت عن طريق المسلمين مستريح ومستراح منه لم يقل شيئا من ذلك بل يقول ابن القيم: فنهرني وتنكر لي واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ثم ق...

بقلم: خالد السبت
1188