دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة

دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة | مرابط

الكاتب: سعود بن عبد العزيز العريفي

2038 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الاتصاف بالكمال المطلق إنما يدل في هذا الباب على استحقاق صاحبه للعبادة، أما دلالته على توحيد العبادة واستحقاق الله عز وجل أن يُفرد بها، فمن حيث إن من لم يبلغ هذا الكمال ولم يتصف به لزمه الاتصاف بضده، مما ينافي التعبد فطرة وعقلا.
 
وعلى هذا فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الجلال والكمال الثابتة للرب -تبارك وتعالى- فإنها أدلة على استحقاقه لأن يفرد بالعبادة، إذ لم يشاركه أحد في شيء من ذلك الكمال الإلهي.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

 

"والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص (يعني آيات الصفات) لمجرد تقرير صفات الكمال، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين الذين بهما يتم التوحيد، وهما: إثبات صفات الكمال، ردا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردا على المشركين، والشرك في العالم أكثر من التعطيل" (1)

 

وبهذا الاعتبار فإن جميع معاني الربوبية السابق ذكرها في دلالة توحيد الربوبية على توحيد العبادة تدخل في هذا النوع من الدلالة

 

ومن الأمثلة الظاهرة في القرآن على هذا النوع من الدلالة:

 

1- ما جاء في أعظم آية (2) في كتاب الله تعالى "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ" والدلالة هنا كامنة في اقتران كلمة التوحيد بهذين الاسمين من الأسماء الحسنى، فإنه يفيد دون شك دلالة الكمال المطلق على توحيد العبادة.
 
وذلك أن هذين الاسمين متضمنان لسائر صفات الكمال، وعليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، فإن الحياة لا تكون أكمل حياة وأتمّها إلا بثبوت كل كمال يُضاد نفيه كمال الحياة، وكذلك القيومية تتضمن كمال الغنى والقدرة، فالمتصف بها قائم بنفسه، لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، مفيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته.(3)

 

2- ومما يجمل هذه الدلالة قوله تعالى "هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"
 
فقد رتب الأمر بالدعاء (4) في هذه الآية بالفاء، على ما سبقه من الوصف بالحياة وانتفاء الألوهية عن غير الله تعالى

 

3- ومما هو صريح في الاستدلال بتفرد الله تعالى بالكمال على تفرده باستحقاق العبادة: سورة الإخلاص "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)"
 
فإن الآية الأولى منها تدل على تفرد الله تعالى بالكمال المطلق (فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه) (5)
والثانية تدل على أن الله تعالى هو السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج، وهذا هو معنى الصمد على أحد القولين.(6)
 
فعلى هذا يكون مجيء قوله تعالى "الله الصمد" بين ذكر الكمال في أول السورة والتنزيه في آخرها من جنس الاستدلال بالكمال على أن صاحبه هو المستحق لأن يفرد بالعبادة والمسألة دون غيره.

 

4- ومن هذا الضرب من الاستدلال قوله تعالى "رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"(7)
وقد مر ذكر هذه الآية في دلالة الربوبية على توحيد العبادة، أما هنا فالدلالة المقصودة كامنة في مجيء قوله تعالى "هل تعلم له سميًّا" بعد الأمر بالعبادة وبالاصطبار عليها، فإن هذه إشارة إلى دلالة التفرد بالكمال على استحقاق التفرد بالعبادة، فكأنه قال: هل تعلم له سميًّا فيستحق أن يُعبد معه؟

 

5- ومن الإشارات القرآنية إلى هذه الدلالة: ذكر الأسماء الحسنى والصفات العلى الدالة على الكمال بعد ذكر كلمة التوحيد، وذلك في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ" وقوله "وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ" وقوله "لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وقوله "وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وقوله "إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" وقوله " مَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" وقوله "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ"

 

6- وأوضح من ذلك دلالة على التوحيد مجيء تنزيه الله سبحانه عن الشرك بعد ذكر صفات الكمال، في كثير من الآيات كقوله تعالى "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ الله عما يشركون" وقوله "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عما يشركون"

 

7- ومن الاستدلال بصفات الكمال الإلهية على وجود توحيد الله بالعبادة ما قصه الله تعالى عن هدهد سليمان، من إنكار سجود سبأ للشمس من دون الله، قال تعالى فيما حكاه عنه "وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ* إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ"
 
والشاهد أن الهدهد استدل على توحيد العبادة بأن الله تعالى هو وحده الذي يُخرج المخبوء في السماوات والأرض، وقد فسّر ذلك بأنه المطر والنبات (8)، فهذا استدلال بكمال القدرة على أنه لا يستحق العبادة غير الله تعالى، ثم أردف ذلك بذكر صفة العلم مستدلا بها على نفس المطلب.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الفتاوى: 6/82
  2. ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، في صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (1-465)، برقم (810)
  3. انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز: 1-90
  4. الدعاء هنا يشمل النوعين: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، انظر الفرق بينهما في تيسير العزيز الحميد: ص215
  5. تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: ص29
  6. تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: ص13
  7. معنى سميًّا: شبيها أو مثلا، انظر: جامع البيان: 16-106
  8. انظر: ترجيح أساليب القرآن لابن الوزير: ص43، 159-163

 

المصدر:

  1. د. سعود بن عبد العزيز العريفي، الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، ص271
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأدلة-العقلية #توحيد-العبادة
اقرأ أيضا
مشكلة خفاء الله | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات الإلحاد

مشكلة خفاء الله


يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودا حقيقة فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله ولكن واقعنا اليوم يخبر أن طوائف من الناس ملحدة لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد وتعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة الخفاء الإلهي divine hiddenness وهي تقوم على زعمين أولهما: أنه إذا كان الله موجودا فلا بد أن يكون وجوده واضحا للجميع بلا أدنى ريبة وثانيهما: أن وجود الله غير بين لجل الناس وفي المقال الذي بين يدينا يقف المؤلف على هذه الشبهة ويمحصها و

بقلم: سامي عامري
1778
الإلحاح في الدعاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإلحاح في الدعاء


والله يحب الملحين في الدعاء ولهذا تجد كثيرا من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ وذكر كل معنى بصريح لفظه دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت

بقلم: ابن القيم
228
من علوم اللغة: النحو | مرابط
تفريغات لسانيات

من علوم اللغة: النحو


الشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة هذيل وحتى حفظ عشرين ألفا من أشعارهم ونحو هذا كثير جدا في حال سلفنا فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم ولا أن يفتي في كثير من المسائل

بقلم: محمد الحسن الشنقيطي
325
إشكالية المصطلح النسوي 2 | مرابط
اقتباسات وقطوف النسوية

إشكالية المصطلح النسوي 2


إن مشكلة كثير من المصطلحات النسوية المتداولة أنه يتم التفكير بها داخل نظام الثقافة الغربية وأدواتها فهي منتوج غربي في النهاية وتزداد الصعوبة في المصطلحات ذات البعد الديني كمصطلح الحجاب أو مصطلح القوامة وغيرها حيث ينطلق الغرب من توصيف مفاهيمها من منطلقه الفلسفي في تفسير الدين تفسيرا اجتماعيا وهو النظرة السائدة في الغرب إلى حد ما فيتم النظر تباعا لهذه المصطلحات الدينية المتعلقة بالمرأة بمنظار علم الاجتماع فقط

بقلم: د خالد بن عبد العزيز السيف
677
بين منهجين: ابن تيمية والرازي | مرابط
فكر

بين منهجين: ابن تيمية والرازي


الرازي وابن تيمية ليسا مجرد عالمين بينهما اختلاف في بعض المسائل التي يسوغ فيها الخلاف بحيث ينظر إلى أن كلا منهما يحسن ما لا يحسنه الآخر وأن أحدهما إذا أصاب في مسألة أو في جانب من جوانب العلم فإن الآخر قد يكون معه الصواب في مسألة أخرى أو جانب آخر من جوانب العلم وإنما الخلاف بينهما هو في حقيقة الحال امتداد للخلاف بين منهجين متضادين ومدرستين متعارضتين.

بقلم: عبد الله القرني
334
الاستدلال الأعمى | مرابط
فكر مقالات

الاستدلال الأعمى


لا يكفي أن تستدل بأي نص شرعي ليكون قولك موافقا للشريعة فالعبرة ليس بوجود أي استدلال بالشريعة بل يجب أن يكون هذا الاستدلال صحيحا ومستقيما وفق الأصول المنهجية الموضوعية للاستدلال فمثلا من قواعد الاستدلال المنهجي السليم: أن يكون النظر فيه شاملا لجميع النصوص والقواعد الشرعية فلا ينظر في بعض النصوص ويهمل بعضها فهذه هي البذرة التي نبتت منها ظاهرة الافتراق في الدين فأنتجت الفرق والجماعات البدعية في الفكر الإسلامي فإشكالية جميع هذه الفرق القديمة من شيعة وخوارج ومعتزلة وغيرها أنها تأخذ ببعض الشريعة...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1592