دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة

دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة | مرابط

الكاتب: سعود بن عبد العزيز العريفي

2170 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

الاتصاف بالكمال المطلق إنما يدل في هذا الباب على استحقاق صاحبه للعبادة، أما دلالته على توحيد العبادة واستحقاق الله عز وجل أن يُفرد بها، فمن حيث إن من لم يبلغ هذا الكمال ولم يتصف به لزمه الاتصاف بضده، مما ينافي التعبد فطرة وعقلا.
 
وعلى هذا فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الجلال والكمال الثابتة للرب -تبارك وتعالى- فإنها أدلة على استحقاقه لأن يفرد بالعبادة، إذ لم يشاركه أحد في شيء من ذلك الكمال الإلهي.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

 

"والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص (يعني آيات الصفات) لمجرد تقرير صفات الكمال، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين الذين بهما يتم التوحيد، وهما: إثبات صفات الكمال، ردا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردا على المشركين، والشرك في العالم أكثر من التعطيل" (1)

 

وبهذا الاعتبار فإن جميع معاني الربوبية السابق ذكرها في دلالة توحيد الربوبية على توحيد العبادة تدخل في هذا النوع من الدلالة

 

ومن الأمثلة الظاهرة في القرآن على هذا النوع من الدلالة:

 

1- ما جاء في أعظم آية (2) في كتاب الله تعالى "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ" والدلالة هنا كامنة في اقتران كلمة التوحيد بهذين الاسمين من الأسماء الحسنى، فإنه يفيد دون شك دلالة الكمال المطلق على توحيد العبادة.
 
وذلك أن هذين الاسمين متضمنان لسائر صفات الكمال، وعليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، فإن الحياة لا تكون أكمل حياة وأتمّها إلا بثبوت كل كمال يُضاد نفيه كمال الحياة، وكذلك القيومية تتضمن كمال الغنى والقدرة، فالمتصف بها قائم بنفسه، لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، مفيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته.(3)

 

2- ومما يجمل هذه الدلالة قوله تعالى "هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"
 
فقد رتب الأمر بالدعاء (4) في هذه الآية بالفاء، على ما سبقه من الوصف بالحياة وانتفاء الألوهية عن غير الله تعالى

 

3- ومما هو صريح في الاستدلال بتفرد الله تعالى بالكمال على تفرده باستحقاق العبادة: سورة الإخلاص "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)"
 
فإن الآية الأولى منها تدل على تفرد الله تعالى بالكمال المطلق (فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه) (5)
والثانية تدل على أن الله تعالى هو السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج، وهذا هو معنى الصمد على أحد القولين.(6)
 
فعلى هذا يكون مجيء قوله تعالى "الله الصمد" بين ذكر الكمال في أول السورة والتنزيه في آخرها من جنس الاستدلال بالكمال على أن صاحبه هو المستحق لأن يفرد بالعبادة والمسألة دون غيره.

 

4- ومن هذا الضرب من الاستدلال قوله تعالى "رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"(7)
وقد مر ذكر هذه الآية في دلالة الربوبية على توحيد العبادة، أما هنا فالدلالة المقصودة كامنة في مجيء قوله تعالى "هل تعلم له سميًّا" بعد الأمر بالعبادة وبالاصطبار عليها، فإن هذه إشارة إلى دلالة التفرد بالكمال على استحقاق التفرد بالعبادة، فكأنه قال: هل تعلم له سميًّا فيستحق أن يُعبد معه؟

 

5- ومن الإشارات القرآنية إلى هذه الدلالة: ذكر الأسماء الحسنى والصفات العلى الدالة على الكمال بعد ذكر كلمة التوحيد، وذلك في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ" وقوله "وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ" وقوله "لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وقوله "وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وقوله "إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" وقوله " مَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" وقوله "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ"

 

6- وأوضح من ذلك دلالة على التوحيد مجيء تنزيه الله سبحانه عن الشرك بعد ذكر صفات الكمال، في كثير من الآيات كقوله تعالى "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ الله عما يشركون" وقوله "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عما يشركون"

 

7- ومن الاستدلال بصفات الكمال الإلهية على وجود توحيد الله بالعبادة ما قصه الله تعالى عن هدهد سليمان، من إنكار سجود سبأ للشمس من دون الله، قال تعالى فيما حكاه عنه "وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ* إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ"
 
والشاهد أن الهدهد استدل على توحيد العبادة بأن الله تعالى هو وحده الذي يُخرج المخبوء في السماوات والأرض، وقد فسّر ذلك بأنه المطر والنبات (8)، فهذا استدلال بكمال القدرة على أنه لا يستحق العبادة غير الله تعالى، ثم أردف ذلك بذكر صفة العلم مستدلا بها على نفس المطلب.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الفتاوى: 6/82
  2. ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، في صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (1-465)، برقم (810)
  3. انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز: 1-90
  4. الدعاء هنا يشمل النوعين: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، انظر الفرق بينهما في تيسير العزيز الحميد: ص215
  5. تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: ص29
  6. تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: ص13
  7. معنى سميًّا: شبيها أو مثلا، انظر: جامع البيان: 16-106
  8. انظر: ترجيح أساليب القرآن لابن الوزير: ص43، 159-163

 

المصدر:

  1. د. سعود بن عبد العزيز العريفي، الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، ص271
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأدلة-العقلية #توحيد-العبادة
اقرأ أيضا
أصل العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصل العلم


وثمة أمر ينبغي أن يدرك وهو أن الله جل وعلا كما أنه أوجد الذوات وهذه المخلوقات من عدم فكذلك الله جل وعلا أوجد كثيرا من المعلومات للإنسان من عدم وكثير من الناس يظن أنه إذا ألف بين معلومات ينطق بها ويتكلم بها فإنه يظن أنه قد جاء بشيء من المعلومات من عدم وذلك من الخطأ المحض فلا يمكن للإنسان أن يوجد معلوما أو يوجد فكرة في عقله لم يسبق إليها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
544
من أدلة وجود الله: دليل الآفاق | مرابط
تعزيز اليقين

من أدلة وجود الله: دليل الآفاق


قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فصلت:53. فقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق أي: علامات وحدانيتنا وقدرتنا وقوله في الآفاق يعني أقطار السماوات والأرض: من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات وغير ذلك مما فيها من عجائب خلق الله.. وهذا المقال يناقش دليل الآفاق المثبت لوجود الله عز وجل.

بقلم: علي محمد الصلابي
422
الأصول الفكرية للنسوية: الجنوسة | مرابط
فكر مقالات النسوية

الأصول الفكرية للنسوية: الجنوسة


في هذا المقال استعراض واف لأحد أهم الأصول التي تستند عليها الحركة النسوية بشكل عام وهو الجندر والذي يعبر عن الهوية الجديدة للرجل والمرأة فالتصنيف البيولوجي للذكر والأنثى وطبيعة الخلقة الجنسية لكل واحد منهما لم تعد تعني شيئا بالنسبة للحركة النسوية وإنما هي صناعة مجتمعية مفروض فالمجتمع هو الذي فرض على الذكر أن يكون ذكرا والعكس وأما الجندرية فهي مرتبطة بميول الشخص وأدواره الاجتماعية التي يريدها وفي المقال تفصل لنا الدكتورة وضحى هذا الأساس الأول

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2619
الثغر الأول: الأسرة | مرابط
مقالات

الثغر الأول: الأسرة


في زحام الفتن وأيام التغير الاجتماعي المريب يجدر بالأسرة أن تكون سياج الاحتواء الأول وحاضنة العقول والقلوب للأفراد صغارا وكبارا فأي صدع في جلمود هذا الحصن عبارة عن منفذ جاذب يتغلغل خلاله العدو وتنسل منه سموم الأفكار والممارسات مما يرنو بالجهد نحو الخذلان ويسر الخيبة وتجلي الهزيمة وتجد أنك في حالة دفاع وعرة وجهاد ضد الأعداء على ثغور عدة.

بقلم: سعود الشمري
374
دعاة تحرير المرأة | مرابط
تفريغات المرأة

دعاة تحرير المرأة


قاسم أمين صاحب الدعوة الباطلة المنحرفة لما جاء بدعوى تحرير المرأة أخذ يدعو إلى باطله السنوات الطوال حتى حصل على مراده في تغيير البنية الاجتماعية بعد سنة ثمانية وعشرين وإلى الآن ما زلنا نتجرع غصص هذا التحرر وهذا الكتاب والتوصيات فهذا صاحب دعوة باطلة فكيف بدعوة الحق فكن طويل النفس ولا تكن مستعجلا تنظر تحت قدمك سيأتيك الفرج لو صدقت النية

بقلم: أبو إسحق الحويني
676
لا خير في كثير من نجواهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا خير في كثير من نجواهم


قرأ الإمام اليوم فينا آية انهمرت مع حروفها أمام ناظري كثير من السجالات الفكرية المعاصرة يسكبون ساعات المقاهي في نقاشات فكرية متشعبة تسمع شرارتها الأولى وتغيب البقية وسط الضجيج والله يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فيا ضيعة الأعمار

بقلم: إبراهيم السكران
510