
مع ما في سماع كتب السنة من خير ونفع في الشرع، فإن له فائدة أخرى يُغفل عنها وهي اكتساب اللغة..
وبيان ذلك: أن من أعظم ما يعين على اكتساب اللغة سماع الكلام الفصيح المعرَب، وما ضعفت لغتنا وكثر لحننا إلا عندما قلَّ سماعنا له. وأصل تعلم اللغات وخير طرقها: السماع، ولذلك ذكر الأطباء أن من وُلِد أصم فلن يتمكن من الكلام؛ لأنه قائم على محاكاة المسموع، ولذا قال ابن خلدون: (السمع أبو الملكات اللسانية)، ومن هنا فمن أراد إتقانَ لغةٍ فإنه يخالط أهلها ويسمع كلامهم.
وقد كان العربي لا يلحن لأنه لا يسمع اللحن، فلما خالط الأعاجمَ دب إليه اللحن، وسقط الاحتجاج بكلامه، ولذلك احتج علماء اللغة بشعراء الحاضرة إلى منتصف القرن الثاني، لأنهم اختلطوا بالأعاجم، أما شعراء البادية فاحتجوا بشعرهم إلى منتصف الرابع.
ولأهمية استماع الفصيح، كان الأولون يبعثون أبناءهم إلى البوادي، ابتداءً بنبينا ﷺ الذي استُرضِع في بني سعد؛ قال السهيلي: (كان أشراف العرب يبعثون أولادهم إلى المراضع، لوجوهٍ منها: أن ينشأ الطفل في الأعراب، فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسمه)، وهكذا كان يفعل خلفاء بني أمية، حتى تحسَّر عبدالملك بن مروان لما لحَن ابنُه الوليد، وقال: (أضرَّ بنا حبُّنا للوليد فلم نلزمه البادية)، ولزم الشافعيُّ هذيلاً في البادية سبع عشرة سنة، حتى إن بعض العلماء احتج بِلُغَته.
فإن قيل: تلك أمة قد خلت، فلم يعد بيننا فصحاء كالعجاج ورؤبة وأبي البيداء الرياحي فلمن نستمع؟
فأقول: بلى، هم بيننا بل وخير منهم متى شئنا مجالستهم! كما في الاستماع لكتب السنة من قارئ فصيح فكأنك جالستهم كما جاء عن ابن المبارك أنه كان يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه! يعني كتب الحديث.
والمقصود أن استماع كتب السنة من قارئ فصيح يقوم مقام مجالسة الفصحاء، وكذلك استماع الكتب الصوتية ككتب السيرة النبوية المتقدمة وأصول كتب الأدب وغيرها.
وأحب أن أختم بأمر مهم: وهو التنبه إلى أن دراسة النحو لايغني عن السماع الذي ذكرناه، فالنحو يُعنى بالقواعد، وأما السماع فيعطي الطبع والملكة، ولذلك يشتكي بعض الناس يقول: أنا متقن للنحو لكنني إذا تكلمت لحنت! وسبب ذلك إهمال سماع الفصيح وحفظه، فصناعة العربية هي (علمٌ بكيفية، لا نفسُ الكيفية)، كما يقول ابن خلدون، فإذا قرأت عن طريقة السباحة مثلا فهذا علمٌ بكيفية، فإذا خضت في الماء فهذا نفس الكيفية.
والمقصود أن من أكثر من سماع الفصيح وحفظه صار بمنزلة من عاش بين العرب الأوائل، ولَقِن العبارة منهم، كما يقول ابن خلدون.