القياس الفاسد لشرعنة الاختلاط

القياس الفاسد لشرعنة الاختلاط | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

297 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

هؤلاء الكتبة رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن في اختلاط الرجال والنساء في المطاف والطريق ولم ينكر ذلك، وهو اختلاط في زمن يسير عارض، فجاء هؤلاء وقاسوا على ذلك مشروعية الاختلاط في التعليم والعمل، وهو اختلاط مكث في زمن يطول، وأهدروا اعتبار الفارق بين الزمن اليسير والزمن الكثير بين الاختلاطين.

حسنًا.. إلى أين سيقودنا هذا القياس؟ وما هي النتائج المترتبة على هذا القياس لو أخذنا به؟ أو بلغة "أصولية" ما هي لوازم هذا القياس لو طردناه؟

نماذج عملية للقياس الفاسد

الحقيقة أنه لا يمكن أن نستكشف علمية هذا القياس إلا بتطبيقه على مسائل مماثلة، إذن لنحاول أن نستعمل هذا القياس الذي استعملوه ونطبقه على مسائل شرعية أخرى لنتبين الدقة الأصولية في قياس الاختلاطيين.

قياس الرؤية الشرعية

من المعلوم أن الشارع أباح النظر اليسير إلى المخطوبة والجلوس معها زمنًا يسيرًا بلا خلوة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمغيرة بن شعبة (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) [الترمذي 1987]، وبناء على قياس الاختلاطيين فإنه ما دام الجلوس معها زمنًا يسيرًا جائز، فلا مانع من أن يجلس معها أيامًا وليالي، وينامون في غرفة واحدة بلا خلوة قياسًا على ما سبق، لأنه لا فرق عند الاختلاطيين بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام.

فمن قاس اختلاط المكث على الاختلاط العارض؛ فهو كمن قاس النوم مع المخطوبة بلا خلوة على الجلوس اليسير مع المخطوبة بلا خلوة!

قياس الحجاب في الصلاة

خذ مثالًا آخر، فمن المعلوم أن المرأة تحتجب في الصلاة، فإذا انكشف منها شيء في زمن يسير ثم سترته فإنها لا تبطل صلاتها للعفو عن الزمن اليسير [المغني لابن قدامة 1/350]، فبناءً على قياس الاختلاطيين فإنه ما دام يجوز لها انكشاف عورتها في الصلاة بزمن يسير فلا مانع إذن أن تنكشف طوال الصلاة قياسًا على ذلك، لأنه لا فرق بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام عند الاختلاطيين!

وهذا ليس خاصًا بأحكام المرأة، بل في كل أبواب فقه الشريعة تجد الشارع إذا رخص في الزمن اليسير لم يسامح في الزمن الكثير، ولم يجز قياسُه عليه، ولنضرب على ذلك أمثلة ونظائر أخرى من أبواب متفرقة من فقه الشريعة ليستيقن الباحث بمضمون هذا الأصل الشرعي:

قياس مكث الجنب في المسجد

فمثلًا، الله تعالى أجاز للجنب اللبث زمنًا يسيرًا في المسجد كما قال تعالى (وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء:43]، فأجازه على وجه عبور السبيل لأنه زمن يسير، فبناءً على قياس الاختلاطيين فإنه ما دام لبث الجنب زمنًا يسيرًا في المسجد يجوز، فكذلك يجوز أن يعتكف هذا الجنب ليلةً في المسجد -أيضًا- قياسًا على ما أجازته الآية من اللبث زمنًا يسيرًا، فهل هذا قياس مقبول؟!

فمن قاس اختلاط المكث على الاختلاط العارض؛ فهو كمن قاس اعتكاف الجنب على لبث الجنب في المسجد، فكلاهما مهدرٌ اعتبار تفريق الشارع بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام.

قياس الغفوة

وكذلك -أيضًا- جعل الشارع الغفوة اليسيرة لا تنقض الوضوء لحديث أنس (كان أصحاب رسول الله ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون) [مسلم 859] لأنه زمن يسير، فهل نقول إن النوم زمنًا طويلًا لا ينقض الوضوء -أيضًاً- قياسًا عليه، ونهدر اعتبار الفارق الشرعي بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام؟!

قياس الموالاة

وكذلك -أيضًا- مسائل (الموالاة الزمنية) في الأحكام، مثل (الموالاة في غسل أعضاء الوضوء، والموالاة بين كلمات الأذان، والموالاة بين أشواط الطواف، الخ) وهي كثيرة منبثة في أبواب الفقه، فالفقهاء عامةً يعتبرون الانقطاع زمنًا يسيرًا لا يقدح في الموالاة.

فبناءً على قياس الاختلاطيين فإنه إذا جاز أن تنقطع الموالاة -مثلًا- في غسل أعضاء الوضوء بزمن يسير فلا مانع إذن أن تنقطع بزمن طويل، فيتمضمض المتوضئ اليوم ويستنشق الأسبوع القادم ويعتبر وضوءًا واحدًا! لأنه لااعتبار عندهم في الفرق بين الزمن اليسير والكثير.

وكذلك -أيضًا- جواز خروج المعتكف للجنازة لأنه زمن يسير بخلاف الزمن الطويل [المجموع للنووي، 6/536]
وكذلك -أيضًا- نقص الحول ساعة أو ساعتين لا يمنع الزكاة لأنه زمن يسير، بخلاف الزمن الطويل. [المغني، 2/317]

قياس الزمن الكثير على الزمن اليسير

حسنًا .. الأمثلة كثيرة، لكن تبين من الصور السابقة موضع الإشكال الأصولي في كلام هؤلاء الاختلاطيين. فالانحراف الأصولي عندهم أنهم قاسو "الزمن الكثير على الزمن اليسير"، فصار مؤدى كلامهم أن طول الزمن وقصره لا أثر له على الأحكام، فلم يفهموا اعتبار الزمن في فقه الفروع، وتوهموا أن الحكم الشرعي إذا ثبت للزمن اليسير ثبت للزمن الطويل، ولذلك جاؤوا بهذا القياس الفاسد الاعتبار، وصار مقتضى قياسهم الفاسد أن كل ماعفت الشريعة فيه عن اليسير يعفى فيه عن الكثير!

وقد نبه الفقهاء الكبار رحمهم الله في مسائل (اليسير والكثير) على عدم جواز قياس الكثير على ثبوت الرخصة في اليسير كما يقول ابن قدامة مثلًا (ولا يصح قياس الكثير على اليسير)[المغني 1/393]
كما بين رحمه الله أثر كثرة اليسير على الحكم في مسألة مماثلة فقال (الأفعال المعفو عن يسيرها إذا كثرت أبطلت) [المغني 1/399]

وترخيص الشارع في الزمن اليسير ليس مختصًا بمسألة (الاختلاط بين الجنسين)، بل له نظائر شرعية كثيرة كما سبق، ومن ذلك -أيضًا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نهى عن (تأخير الوصية ليلة أو ليلتين) قال العلامة العراقي (فيه الإشارة إلى اغتفار الزمن اليسير) [طرح التثريب، 6/191].

والمراد من هذه النماذج السابقة كلها توضيح الخلل في قياس الاختلاطيين، وأنهم لما رأو النبي ترك الناس في الطواف والطريق يختلطون لأنه زمان يسير عابر ظنوا أنه يجوز إذن أن يجلسوا مع بعضهم مختلطين في مكتب واحد أو مقاعد دراسية واحدة طوال النهار ولمدة سنوات مع شدة الإفضاء إلى الفتنة! فهل يقول هذا رجل شم بأنفه كتب فقه الشريعة أو جالس أهل العلم الربانيين؟!

فثبوت الرخصة في شيء يسير لا يجوز أن يقاس عليه الشيء الكثير، كما نبه ابن قدامة في موضع مماثل فقال: (الغرر اليسير إذا احتمل في العقد, لا يلزم منه احتمال الكثير) [المغني 4/156]

ومن المهم ها هنا التنبيه إلى أن (الزمن) طولًا وقصرًا ليس هو العلة التامة في الاختلاط، بل هو قرينة من القرائن والأوصاف المؤثرة، وإنما المناط التام في الاختلاط وهو المناط الذي لا ينخرم فهو (قوة الإفضاء إلى الفتنة) وليس الزمن إلا وصف أغلبي من الأوصاف المؤثرة في قوة الإفضاء إلى الفتنة، فكلما اشتد إفضاء الاختلاط إلى الفتنة حرم، وكلما ضعف إفضاء الاختلاط إلى الفتنة شرع. ومن تدبر فتاوى العلماء الربانيين من السلف ومن بعدهم رأى أنها كلها تدور حول شدة الإفضاء إلى الفتنة، ومن ذلك فتوى عائشة رضي الله عنها حين قالت: (لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن) [البخاري، 869].

فعائشة ها هنا تتحدث عن أمر كان مشروعًا، لكنها لما رأت أن الفتنة اشتدت، أشارت إلى أن ذلك يؤول إلى التحريم، وأن هذا هو الذي فقهته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاختلاط
اقرأ أيضا
الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله


إن الجانب الغريزي الموجود في جميع الخلائق يعتبر من أهم وأبرز الأدلة الموصلة إلى وجود الله تأمل فقط في غريزة الأمومة التي تمثل معنى صافيا من الرحمة والحب الصادق بل وتأمل حتى في غرائز الحيوانات التي تحملها على القيام بأفعال معينة أو الهجرة لأماكن معينة وغير ذلك إن هذه الغرائز تجد نفسيرها المرضي حين نؤمن بوجوده الله تعالى فالله تعالى هو واهبها وفي هذا المقال سنقف على تفسير الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله للكاتب عبد الله العجيري

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
2254
الإسلام الصحيح لا يخالف العقل أم العقل الصحيح لا يخالف الإسلام | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر

الإسلام الصحيح لا يخالف العقل أم العقل الصحيح لا يخالف الإسلام


إن إشكالية العقل والنقل قديمة جدا وتكلم فيها العلماء وقتلوها بحثا وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن في وقتنا المعاصر بدأ البعض بالتلاعب في هذه المنطقة فيقول لك: إن الإسلام الصحيح لا يخالف العقل والعبارة تشعر للوهلة الأولى أنها صحيحة ولا مشكلة فيها ولكن الحقيقة أنها تحوي سما داخلها ستعرفه في هذا المقال

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2283
أسباب الإلحاد | مرابط
فكر الإلحاد

أسباب الإلحاد


لا يمكن التعامل مع الظواهر الكبرى بنماذج تفسيرية اختزالية بل لا بد من النماذج المركبة التي تجمع عددا من المؤثرات والأسباب ولا يخرج الإلحاد عن هذا المعنى فإنه لا يمكن حصره في سبب منفرد بل هي ظاهرة أوجدتها منظومة مركبة من الأسباب

بقلم: البشير عصام المراكشي
2241
قاسم أمين وتحرير المرأة | مرابط
تفريغات المرأة

قاسم أمين وتحرير المرأة


إن قضية تحرير المرأة التي تولى كبرها قاسم أمين قضية لها شأن وتستحق أن نقف عندها بعض الوقت لما قرأت مذكرات قاسم أمين ومذكرات سعد زغلول لأن سعد زغلول هو الذي شجع قاسم أمين وقاسم أمين شاب يشع الذكاء من عينيه ذهب إلى فرنسا وأعداؤنا يصطادون المواهب من أمتنا ولا يتصرفون بطريقة تلقائية أو عشوائية كما يظن السذج يعني: مثلا: مسألة الدجاج المذبوح أو المقتول جاء بعض الناس وقال: إنهم يقتلون الدجاج ولا يذبحونها لماذا قال: لأن نسبة من الدم يتجمد في العروق فمع ملايين الدجاج المقتول وتجمد الدم فيها يزداد ال

بقلم: أبو إسحق الحويني
605
درء تعارض العلم التجريبي والنقل | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر

درء تعارض العلم التجريبي والنقل


من المجالات التي تحتاج إلى قدر من التأصيل العقدي والمنهجي تحرير الصلة والعلاقة بين المعارف الشرعية والمعارف العلمية الطبيعية وذلك أن ثمة قدر من التقاطع أحيانا بين هذين المجالين بما يستدعي ضبط العلاقة بينهما والواقع يشهد أننا أمام طرفين في هذه القضية ووسط طرف يحصل له قدر من المغالاة في الاستمساك بما يتوهم أنه ظواهر النصوص فيطرح معارف علمية قطعية لما يتوهم أنه ظاهر الشرع وطرف يطرح بعض القواطع الشرعية لصالح المعارف الطبيعية

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
1478
تراجع الخيرية | مرابط
مقالات

تراجع الخيرية


من تأمل في تراجع الخيرية في قرون الإسلام الأولى علم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة مالا يحصل لسابقيهم وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمن سبقهم وما دخل القلوب من التثاقل الى الأرض.

بقلم: إبراهيم السكران
252