قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس

قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس | مرابط

الكاتب: د محمد عبد الله دراز

2241 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(١) قانونا السببية والغائية

 

أشرنا إِلى أن ظاهرة التدين تستند في أصلها إِلى مبدأين مرتكزين في بداهة العقول، وهما قانونا «السببية والغائية»، ونبادر الآن فنكرر أن هذين القانونين متى فُهِما على كمالهما انتهيا إِلى أسمى العقائد الدينية: عقيدتي التوحيد والخلود؛ وأن عقائد الشرك والوثنية والفناء إِنما هي وليدةُ ضربٍ من الغفلة أو الكسل العقلي يقف بها في بعض الطريق.

 

أما قانون السببية فيقرر أن شيئًا من «الممكنات» (1) «لا يحدث بنفسه من غير شيء»؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده، «ولا يستقل بإِحداث شيء»؛ لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئًا لا يملكه هو، كما أن الصفر لا يمكن أن يتولد عنه عددٌ إِيجابي، فلا بد له في وجوده وفي تأثيره من سببٍ خارجي، وهذا السبب الخارجي إِن لم يكن موجودًا بنفسه احتاج إِلى غيره، فلا مفر من الانتهاء إِلى سببٍ ضروري الوجود يكون هو سبب الأسباب.

 

وأما قانون الغائية فمن موجبه أن كل نظام مركب متناسق مستقر لا يمكن أن يحدث عن غير قصد، وأن كل قصد لا بد أن يهدف إِلى غاية، وأن هذه الغاية إِذا لم تحقق إِلا مطلبًا جزئيًّا إِضافيًّا منقطعًا، تشوفت النفس من ورائها إِلى غاية أخرى.. حتى تنتهي إِلى غاية كلية ثابتة هي غاية الغايات.

 

نعم، إِن طاقة البشر، وطبيعة المخلوق، أعجزُ من أن تُحصي مراحل الأسباب والغايات مرحلة مرحلة، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة، حتى تشهد بداية العالم ونهايته؛ ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء وغاياتها الأخيرة، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة، وكان قصاراها أن تخطو خطواتٍ معدودةً إِلى الأمام أو إِلى الوراء، تاركةً ما بعد ذلك إِلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء.

 

ولكن هذا اليأس الإِنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلًا في ماضيها ومستقبلها، يقابله يقينٌ إِجماليٌّ ينطوي كل عقل على الاعتراف به طوعًا أو كرهًا، وهو أنه مهما طالتْ سلسلةُ الأسباب الممكنة والغايات الجزئية، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية؛ فإِنه لا بد لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إِثبات شيءٍ آخرَ يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء، والغاية الحقيقية التي ليس بعدها شيء، وإِلا لَبقيت كل هذه الممكنات في طَيِّ الكتمان والعدم، -إِن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل- أو لَبقيت لغزًا وعبثًا غير معقول -إِن لم تكن لها غايةٌ تامةٌ تنقطع بها لجاجة النفس ويستقر مضطربها.

 

نقول: إِن وجود هذه الحقيقة الأولى والأخيرة ضرورةٌ عقليةٌ لا مناص من التسليم بها، ولا مجال لأحد أن يكابر فيها متى فكر قليلًا في الوضع الذي يئول إِليه إِنكارها، اللهم إِلا إِذا فرضناه كائنًا أخرق، لا يُذعن لقواعد المنطق والحساب، ولا يبالي أن يبطل كل شيء في الأذهان.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. التعبير المشهور هو أن شيئًا لا يحدث من لا شيء، وقد أضفنا عبارة: «من الممكنات» تحديدًا للمجال الحقيقي الذي يُطبق فيه هذا المبدأ، ودفعًا للخطأ الذي يَنجم من أخذه على إِطلاقه؛ ذلك أن الأُمور «الضرورية الوجود» -ككون الكل أكبر من جزئه، وكون الشيء عين نفسه، وأن ضم الواحد إِلى الواحد ينشأ عنه اثنان وضم الصفر إِلى الصفر لا يخرج منه عدد إِيجابيٌّ، إِلى غير ذلك من أحكام قانون العينية- تحمل في طبيعة مفهومها سبب وجودها، فهي موجودة بنفسها لا بسبب خارجيٍّ، والأمور «المستحيلة»- ككون الجزء أكبر من كله، وكون الشيء غير نفسه أو عين غيره، إِلى أشباه ذلك من أحكام قانون التناقض - تحمل في نفسها سبب عدمها؛ فلا تقبل الوجود بنفسها ولا بغيرها، أما «الممكنات» التي تقبل الوجود والعدم ولا تقتضي طبيعتها واحدًا منها، فإِن وجودها إِنما يرد إِليها من سبب خارج عنها حتمًا؛ إِذ لو وُجِدَتْ بنفسها لكانت واجبة الوجود، وهو خلاف المفروض.

 

المصدر:

  1. د. محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص105
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
أبو بكر الصديق والدعوة إلى الإسلام | مرابط
تاريخ

أبو بكر الصديق والدعوة إلى الإسلام


ولعل منشأ هذا الحب العميق للإسلام عند الصديق رضي الله عنه هو الإخلاص الشديد في قلبه فالعمل المخلص لا يرتبط بوجود أشخاص أو هيئات أو ظروف إنما هو مرتبط بالله جل وعلا وبالتالي فالإخلاص يدفع صاحبه إلى العمل الدءوب في كل الأوقات وبالحماسة نفسها وهذا ما دفع الصديق رضي الله عنه إلى أن يبقى على هذه الروح في حمل الرسالة حتى بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وإلى موته هو شخصيا رضي الله عنه فقد ظل يحمل هم الدعوة ويتحمل مسئولية الإسلام وكأنه ليس على الأرض مسلم غيره

بقلم: د راغب السرجاني
1445
مشهد السفينة واللجوء إلى الله | مرابط
مقالات

مشهد السفينة واللجوء إلى الله


هذه الصورة التي يكررها القرآن عن السفر بالسفن واليخوت انقلها بحذافيرها إلى وسيلة نقل مشابهة كالطائرة أو القطارات أو السيارات وتأمل كيف يكون الإنسان فيها قلقا وخصوصا إذا مر بظروف طبيعية كرياح تثير الاضطراب ثم إذا نزل على الأرض نسي استكانته وتضرعه وعزيمته على الاستقامة.. تذكر هذه الصورة التي نمر بها وأعد قراءة آية يونس وآية الإسراء السابقتين تنكشف لك من معاني الإيمان والتعلق بالله مالم يخطر ببالك..

بقلم: إبراهيم السكران
258
من آثار بر الوالدين | مرابط
تفريغات

من آثار بر الوالدين


بر الوالدين من أعظم الأسباب التي توجب الرحمة من الله في تيسير الأمور والعكس بالعكس فإن العاق ما حضر مكانا إلا كان شؤما على أهله حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم فكيف بالذي عق والديه

بقلم: محمد مختار الشنقيطي
449
شبهة حول الأمر بضرب الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهة حول الأمر بضرب الزوجة


قالوا: القرآن ظلم المرأة حين أجاز لزوجها أن يضربها: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا النساء: ٣٤ وبين يديكم رد مفصل للشيخ الدكتور منقذ بن محمود السقار على هذه الشبهة وتوضيح للخطأ الذي يقع فيه المشككون وتوضيح لحقيقة إباحة ضرب الزوجة في الإسلام

بقلم: د منقذ السقار
792
مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج2 | مرابط
مناظرات

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج2


اشتهر أبو بكر الباقلاني بمفصاحته وقدرته على المناظرة والبيان والذب عن الإسلام وقد ناظر في عهده الكثير من النصارى أشهر هذه المناظرات كانت لما أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم الأعظم ليظهر له رفعة الإسلام ويناظره في معتقده وبالفعل جرت المناظرة بينهما واستعان ملك الروم بكثير من علماء النصارى حتى يقدروا عليه وكان المناظرة سبب في إسلام الكثير من النصارى وأظهر الباقلاني فصاحة عالية ورؤية ثاقبة وقدرة مبهرة على الرد والبيان

بقلم: القاضي عياض
2127
القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد | مرابط
فكر مقالات

القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد


ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا من أبناء هذه الأمة يتناولون القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بقراءة عرفت ب الحداثية أو القراءة الجديدة للنص الديني وهي قراءة تأويلية تستمد آلياتها من خارج نطاق التداول الإسلامي بل تأتي وفقا للتجربة الغربية في فهم النصوص واللاهوتية منها خصوصا فلا تريد أن تحصل اعتقادا من النص بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه واستخداما لنظريات لغوية حديثة مثل: البنيوية والتفكيكية والسيمائية وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صر...

بقلم: الشيخ الدكتور محمد بن عبد الفتاح الخطيب
2026