لماذا لا يكون هناك عالم من غير ألم؟
الحكم على الشر أو الألم بالنظر إلى جوهره قاصر عن الإحاطة بحقيقته الوجودية؛ فإن الشيء قد يكون شرًا في قيمته الجوهرية -من الناحية الغالبة واقعيًا؛ إذ لا وجود لشر جوهري في ذاته من كل وجه- لكنه يكون خيرًا من الناحية الذرائعية، ولذلك فإن تقدير قيمة هذا الشيء -إن كان يجوز وصفه بالشر حقيقة- لا يكون إلا بإقامة تقدير عام يجمع قيمته الجوهرية وقيمته الذرائعية للتوصّل إلى الغالب من خيره وشرّه.
ولذلك يجب ألا نغتر بما يلوح لنا من قبح في الموجودات كالأسقام والأوجاع؛ فإنها قد تكون في الكون ذريعة لخير أعظم من شرها، بل قد لا يستقيم الوجود الإنساني من غيرها.
يقول العقاد معقبًا على معترض يقول:
"أليس خلق اللذة أولى برحمة الإله الرحيم من خلق الألم، كيف كان وكيف كان موقعه من التكافل بينه وبين اللذات؟
وعندنا أن المشكلة كلها بعد جميع ما عرضنا من حلولها إنما هي مشكلة الشعور الإنساني وليست في صميمها بالمشكلة العقلية ولا بالمشكلة الكونية. وهنا نعود إلى الباب الذي نستفتح به مسالك هذه المشكلات، ونسأل أنفسنا: إذا كان الإله الذي توجد النقائص والآلام في خلقه إلها لا يبلغ مرتبة الكمال المطلق، فكيف يكون الإله الذي يبلغ هذه المرتبة في تصورنا وما ترتضيه عقولنا؟
أيكون إلها قديرا ثم لا يخلق عالما من العوالم على حالة من الحالات؟ أيكون إلها قديرا يخلق عالما يماثله في جميع صفات الكمال؟
هذا وذاك فرضان مستحيلان أو بعيدان عن المعقول، كل منهما أصعب فهما وأعسر تصورًا من عالمنا الذي ننكر فيه النقائص والآلام. فأما الإله القدير الذي لا يخلق شيئًا فهو نقيضة من نقائض اللفظ لا تستقيم في التعبير، بله استقامتها في التفكير؛ فلا معنى للقدرة ما لم يكن معناها الاقتدار على عمل من الأعمال.
وأما الكمال المطلق الذي يخلق كمالا مطلقا مثله فهو نقيضة أخرى من نقائض اللفظ لا تستقيم كذلك في التعبير، بله استقامتها في التفكير؛ فإن الكمال المطلق صفة منفردة لا تقبل الحدود ولا أول لها ولا آخر، وليس فيها محل لما هو كامل وما هو أكمل منه، ومن البدهي أن يكون الخالق أكمل من المخلوق، وألا يكون كلاهما متساويين في جميع الصفات، وألا يخلو المخلوق من نقص يتنزه عنه الخالق.
فاتفاقهما في الكمال المطلق مستحيل يمتنع على التصور، ولا يحل تصوره مشكلة من المشكلات، وأي نقص في العالم المخلوق فهو حقيق أن يتسع لهذا الشر الذي نشكوه، وأن يقترن بالألم الذي يفرضه الحرمان على المحرومين، وبخاصة إذا نظرنا إلى الأجزاء المتفرقة التي لا بد أن يكون كل جزء منها قاصرًا على جميع الأجزاء، وأن يكون كل شيء منها مخالفًا لما عداه من الأشياء.
فوجود الشر في العالم لا يناقض صفة الكمال الإلهي ولا صفة القدرة الإلهية.. بل هو -ولا ريب- أقرب إلى التصور من تلك الفروض التي يتخيلها المنكرون والمترددون ولا يذهبون معها أي خطوة في طريق الفهم وراء الخيال المبهم العقيم.
وقد يختلف مدلول القدرة الإلهية ومدلول النعمة الإلهية بعض الاختلاف في هذا الاعتبار: فمدلول القدرة الإلهية يستلزم -كما تقدم- خلق هذا العالم الموجود، ولكن مدلول النعمة الإلهية يسمح لبعض المتشائمين أن يحسبوا أن ترك المخلوقات في ساحة العدم أرحم بها من إخراجها إلى الوجود، ما دام الألم فيه قضاء محتوم على جميع المخلقوقات.
ومهما يكن من شيوع التشاؤم بين طائفة من المفكرين فليس تفسير النعمة الإلهية بترك المخلوقات في ساحة العدم تفسيرًا أقرب إلى المعقول من تفسير هذه النعم الإلهية بإنعام الله على مخلوقاته بنصيب من الوجود يبلغون به مبلغهم من الكمال المستطاع لكل مخلوق.
وليس الشر إذا مشكلة كونية ولا مشكلة عقلية إذا أردنا بالمشكلة أنها شيء متناقض عصي على الفهم والإدراك، ولكنه في حقيقته مشكلة الهوى الإنساني الذي يرفض الألم ويتمنى أن يكون شعوره بالسرور غالبا على طبائع الأمور. وإذا كانت في هذا الوجود حكمته التي تطابق كل حالة من حالاته، فلا بد من حكمة فيه تطابق طبيعة ذلك الشعور، ولا نعلم من حكمة تطابق طبيعة ذلك الشعور غير الدين" (1)
ماذا لو كانت الطبيعة غير مؤذية؟
لِمَ لم تُخلق الطبيعة مبرّأة من الأذى المادي؟
هو سؤال يراود النفس القلقة التي تريد أن تستجمع في هذه الدنيا كلّ الملاذ، دون منغّص يقطع عليها ساعات المتعة الدافقة باللذة وحلاوة النشوة المشبعة للغرائز.
قال ابن القيم: فإن قيل: فهلّا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد؟ فهذا هو السؤال الأول، وقد بيّنا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم لا بدّ منها، فلو قُدّر عدمها لم يكن هذا العالم بل عالما آخر ونشأة أخرى وخلقًا آخر.
وبيّنا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلّا تجرد الغيث والأنهار عما يحصل به من تغريق وتعويق وتخريب وأذى؟ وهلّا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم وأذى؟ وهلّا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلّا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع؟ وهلّا تجرّد بدن الإنسان عن قبول الآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله؟ وهلّا تجردت فصول العام عما يحدث فيها من البرد الشديد القاتل، والحر الشديد المؤذي؟
فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا بمنزلة أن يقال: لم كان المخلوق فقيرا محتاجا، والفقر والحاجة صفة نقص، فهلا تجرد منها وخُعلت عليه خلعة الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقًا إذا كان غنيا غنى مطلقًا؟ ومعلوم أن لوازن الخلق لا بد منها فيها" (2)
إن طَلَب عالمٍ لا تفعل فيه الطبيعة فعلها العفوي، هو طلب وجود عالم آخر غير عالمنا.. عالم كامل رغم أن من لوازم العالم المخلوق ألا يكون كاملًا.. وهو عالم لا يتوافق مع الحكمة من خلق الإنسان، فهو يرفض الوجود الإنساني الحالي برمّته، طلبا لوجود آخر؛ فإن وجودنا في هذه الأرض لا يستقيم على الصورة المطلوبة بغير ما يبدو من شر في بعضه.
ما العالم بلا موت؟ هل تطيق أنفسنا أن نحيا على الأرض بلا نهاية؟ ولم نعيش بلا خاتمة؟ هل يوجد أي شيء في أرضنا يرضى أن نعيش معه أبدًا؟ إن كل شيء فينا ومن حولنا يصرخ أن وجودنا يجب أن يكون محدودا في هذه الأرض لأن أبديتنا لا تؤول إلا إلى فساد نفوسنا وعقولنا وبيئتنا. وهذا في أمر شر واحد، وهو الموت، فكيف نملك أن ننزع من الكون كل شر مادي لنحقق الحكمة الكبرى؟
الإشارات المرجعية:
- عباس العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص8-11
- ابن القيم، طريق الهجرتين وباب السعادتين، 218/1
المصدر:
- د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص199