الإنسان عند الليبراليين إلهُ نفسه، وعابد هواه، غير محكوم بشريعة من الله - سبحانه وتعالى - الذي قال: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} (الأنعام: ١٦٢ - ١٦٣).
ولهذا فإن الليبرالية لا تعطيك إجابات حاسمة على الأسئلة التالية مثلًا: الشريعة الإسلامية حقٌّ أم لا؟ وهل الربا حرام أم حلال؟ وهل القمار حرام أم حلال؟ وهل نسمح بالخمر أم نمنعها؟ وهل للمرأة أن تتبرج أم عليها أن تتحجب؟ وهل تساوي الرجل في كل شيء أم تختلف معه في بعض الأمور؟ وهل الزنا جريمة أم أنه علاقة شخصية وإشباع لغريزة طبيعية إذا وقعت برضا الطرفين؟ وهل الشذوذ الجنسي حق أم باطل؟ وهل نسمح بحرية نشر أي شيء أم نمنع نشر الإلحاد والإباحية؟ وهل نسمح بالبرامج الجنسية في قنوات الإعلام أم نمنعها؟
وهل القرآن حق أم يشتمل على حق وباطل، أم كله باطل، أم كله من تأليف محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يصلح لهذا الزمان؟ وهل سنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وحي من الله - سبحانه وتعالى - فيحب أتباعه فيما يأمر به، أم مشكوك فيها؟ وهل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - رسول من الله - سبحانه وتعالى - أم مصلح اجتماعي؟
وما هي القيم التي تحكم المجتمع؟ هل هي تعاليم الإسلام أم الحرية المطلقة من كل قيد، أم حرية مقيدة بقيود من ثقافات غربية أو شرقية؟ وما هو نظام العقوبات الذي يكفل الأمن في المجتمع، هل الحدود الشرعية أم القوانين الجنائية الوضعية؟
الليبرالية ليس عندها جواب تعطيه للناس على هذه الأسئلة، ومبدؤها العام هو: دَعُوا الناسَ كلٌّ إلهٌ لنفسه وعابد لهواه، فهم أحرار في الإجابة على هذه الأسئلة كما يشتهون ويشاءون، وأما ما يجب أن يسود المجتمع من القوانين والأحكام، فليس هناك سبيل إلا التصويت الديمقراطي، وبه وحده تُعْرَف القوانين التي تحكم الحياة العامة، وهو شريعة الناس لا شريعةَ لهم سواها.
ولا يقيمُ الليبراليّون أيَّ وزنٍ لشريعة الله - سبحانه وتعالى -، إذا ناقض التصويتُ الديمقراطي أحكامَها المُحْكَمَة المنزلة من الله - سبحانه وتعالى -، ولا يبالون أن يضربوا بأحكامها عرض الحائط، حتى لو كان الحكم النهائي الناتج من التصويت هو عدم تجريم الزنا، أو عدم تجريم شرب الخمر، أو كان تحليلًا للربا، أو كان السماح بتبرج النساء، أو التعري والشذوذ الجنسي، أو نشر الإلحاد تحت ذريعة حرية الرأي.
وكل شيء في المذهب الليبرالي متغير، وقابل للجدل والأخذ والرد حتى أحكام القرآن المحكمة القطعية.
فإذن إلهُ الليبراليِّة الحاكم على كل شيء بالصواب أو الخطأ هو حرية الإنسان وهواه وعقله وفكره، وحُكْمُ الأغلبيِّة من الأصوات هو القول الفصل في كل شئون حياة الناس العامة، سواء عندهم عارض الشريعة الإلهيّة أو وافقها، وليس لأحد أن يتقدَّم بين يدي هذا الحكم بشيء، ولا يعقب عليه إلا بمثله فقط.
وهي عندما تزعم أنه لا يوجد حق مطلق إلا الحرية والتغير؛ فإنها تكفر بثوابت القرآن والسنة وبأحكام الشريعة المحكمة التي أنزلها الله - سبحانه وتعالى - لتكون نبراسًا لهداية الناس إلى يوم القيامة، وما الشريعة إلا الحق المبين الراسخ الذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل مهما تغيَّر الزمان والمكان، كما قال - سبحانه وتعالى -: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)}) يونس: ٣٢).
والليبرالية عندما تُسَوّي بين الإسلام - دين الله الحق - وغيره من الأهواء الباطلة، وعندما تسوي بين المؤمنين بالله - سبحانه وتعالى - المتبعين لدينه والكافرين به فهي بذلك تشرع شريعة تناقض شريعة الله - سبحانه وتعالى - القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: ١٩)، والقائل - سبحانه وتعالى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)} (آل عمران: ٨٥)، والقائل - سبحانه وتعالى -: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)} (القلم: ٣٥ - ٣٦ (، والقائل - سبحانه وتعالى -: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨)} (السجدة: ١٨).
والليبراليِّة ما هي إلاّ وجه آخر للعَلَمانيِّة التي بُنِيَت أركانها على الإعراض عن شريعة الله - سبحانه وتعالى -، والكفر بما أنزل الله - سبحانه وتعالى -، والصد عن سبيله، ومحاربة المصلحين، وتشجيع المنكرات الأخلاقيِّة، والضلالات الفكريِّة، تحت ذريعة الحريِّة الزائفة، والتي هي في حقيقتها طاعة للشيطان وعبودية له.
والليبراليون عندما يَدْعُون الناس إلى مخالفة الشريعة الإلهيّة، زاعمين أنهم يمنحونهم الحرية، فإنما هي خديعة وفخ يصيدون به المغفلين من ضعاف العقول، وبغيتهم أن يُخْرِجوا الناس من عبادة الله - سبحانه وتعالى - وحده باتباع صراطه المستقيم، إلى عبادة مفكِّريهم ومنظِّريهم، وإلى إتِّباع أهواءِهم والسيرِ على مناهجهم الضالَّة.
وعندما يقولون للشعب أنت حرُّ في أن تفعل ما تشاء، فكأنهم يقولون له كن أسيرًا وعبدًا لشهواتك وهواك، ولِنَزْغِ الشيطان، والليبراليِّة عندما تقول للناس دعوا عبادة الله - سبحانه وتعالى - واتباع شريعته، إلى طاعة وعبادة الهوى والشيطان، فهي تدعو إلى الشرك والكفر وفعل الفحشاء والمنكر.
والمذهب الليبراليّ بهذا المنهج الضال، يبطل دين الله كله، ويطوي أحكامه التشريعيَّة برمَّتها، ويضع بدلها أحكامًا أخرى من عنده، أحكامًا لا تقيم وزنًا لما أنزله الله تعالى من البيَّنات والهدى والكتاب المنير.
والخلاصة أن المنهج الليبراليّ ليس سوى الضلال بعينه، وهو الكفر والشرك برَسْمِه واسمِه، وما هو إلاّ صدُّ عن سبيلِ اللهِ تعالى، ونَقض لأحكامِ اللهِ تعالى، ودعوة للناس إلى الخروج عن شريعة الله تعالى، وإشاعة الفوضى الفكرية والعقائدية في حياة الناس.
هذه هي الليبراليّة، وحكمها في الإسلام هو نفس حكم العلمانيّة سواء بسواء، لأنها فرع من فروع تلك الشجرة الخبيثة، ووجه آخر من وجوهها.
المصدر:
شحاتة صقر، الإسلام والليبرالية نقيضان لا يجتمعان، ص26