
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فخرجت إليهم ولبست أحسنَ ما يكون من حلل اليمن، وترجَّلت ودخلت عليهم في دارٍ نصف النهار -وكان ابن عباس رجلاً جميلاً جهيرًا- فقالوا: مرحبًا بك يا بن عباس؛ ما هذه الحُلَّة؟ قال: ما تعيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[الأعراف:32].
قالوا: فما جاء بك؟
قال: قد أتيتُكم من عند صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار؛ من عند ابن عمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وصهرِه، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.
فانحنى لي نفر منهم.
قلت: هاتوا ما نقمتُم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمه.
قالوا: ثلاث. قلت: ما هن؟
قالوا: أما إحداهن: فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقد قال الله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)[الأنعام:57]؛ فما شأن الرجال والحكم؟
قلت: هذه واحدة.
قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنَمْ؛ فإن كانوا كفارًا لقد حل سبيُهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيُهم ولا قتلهم.
قلت: هذه اثنتان، فما الثالثة؟
قالوا: محى نفسَه من أمير المؤمنين؛ فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟
قالوا: حسبنا هذا.
قلت لهم: أرأيتُكم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله جل ثناؤه، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يرد قولَكم؛ أترجعون؟
قالوا: نعم.
قلت: أما قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم من كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمَه إلى الرجال في ثُمُن رُبُع درهم، فأمر الله -تبارك وتعالى- أن يحكموا فيه، أرأيتم قول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)[المائدة:95]، وكان من حكم الرجال؛ أنشدكم بالله أفحُكم الرجال في صلاح ذات البَيْن وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟
قالوا: بلى، بل هذا أفضل.
وفي المرأة وزوجها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)[النساء:35]؛ فأنشدكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بَيْنهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بُضْع المرأة؟!
خرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسبِ ولم يغنَم؛ أفتسْبُون أمَّكم عائشة تستحلُّون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟
فإن قلتم: إنا نستحلُّ منها ما نستحلُّ من غيرِها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم، والله -عز وجل- يقول: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)[الأحزاب:6]، فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج.
أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.
وأما محا نفسَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعليٍّ: "اكتُبْ يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله"، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "امحُ يا علي، اللهم إنك تعلم إني رسول الله، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله"، والله لرسولُ الله خيرٌ من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة.
أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.
فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرون والأنصار
المصدر:
- النسائي، خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ص200