من آثر الدنيا واستحبها

من آثر الدنيا واستحبها | مرابط

الكاتب: ابن القيم

920 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

فائدة جليلة: كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق ولا سيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق وإن كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبة فيه أقدم على مخالفته وقال لي مخرج بالتوبة وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} وقال تعالى فيهم أيضا فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك أولا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه فتارة يقولون على الله مالا يعلمون وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه

وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة ويستعينوا بالصبر والصلاة ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها والآخرة وإقبالها ودوامها وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات وهذه الآيات فيهم إلي قوله

{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه

وتأمل ما تضمنته هذه الآية من ذمه وذلك من وجوه أحدها أنه ضل بعد العلم واختار الكفر على الإيمان عمدا ولا جهلا وثانيها أنه فارق الإيمان مفارقة من لا يعود إليه أبدا فإنه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها ولو بقي معه منها شيء لم ينسلخ منها وثالثها أن الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه ولهذا قال فأتبعه الشيطان ولم يقل تبعه فإن في معنى أتبعه أدركه ولحقه وهو أبلغ من تبعه لفظا ومعنى ورابعها أنه غوي بعد الرشد والغي الضلال في العلم والقصد وهو أخص بفساد القصد والعمل كما أن الضلال أخص فساد العلم والاعتقاد فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر وإن اقترنا فالفرق ما ذكر وخامسها أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه لأنه لم رفع به فصار وبالا عليه فلو لم يكن عالما كان خيرا له وأخف لعذابه وسادسها أنه سبحانه أخبر عن خسة همته وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى وسابعها أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض وميل بكليته إلى ما هناك وأصل الإخلاد اللزوم على الدوام كأنه قيل لزم الميل إلى الأرض ومن هذا يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به قال مالك بن نويرة

بأبناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

وعبر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض لأن الدنيا هي الأرض وما فيها وما يستخرج منها من الزينة والمتاع وثامنها أنه رغب عن هداه واتبع هواه فجعل هواه إماما له يقتدي به ويتبعه وتاسعها أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة وأسقطها نفسا وأبخلها وأشدها كلبا ولهذا سمي كلبا وعاشرها أنه شبه لهثه على الدنيا وعدم صبره عنها وجزعه لفقدها وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد وهكذا هذا إن ترك فهو لهثان على الدنيا وإن وعظ وزجر فهو كذلك فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب قال ابن قتيبة كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الري وحال العطش فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب وإنما وقع بالكلب اللاهث وذلك أخس ما يكون وأشنعه

 


 

المصدر:

ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص100

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حب-الدنيا
اقرأ أيضا
لا أريد أن أنكد عليك ولكن | مرابط
فكر توثيقات

لا أريد أن أنكد عليك ولكن


لا أدري أيها المسلم كيف تتحمل أن يعيرك أعداء دينك بالآيات التي تأمر المسلمين أن يبسطوا سلطان الإسلام في الأرض حتى لا تكون فتنة وأنت ترى مسلمات الروهينجا تغتصب إحداهن اغتصابا جميعا من مجموعة ذئاب بوذية يلقى زوجها وأولادها أمام أعينها في النار وإذا شكوا أنها حامل بقروا بطنها وهي حية ويتكرر مثل ذلك وشبيه به للآلاف من المسلمات

بقلم: د إياد قنيبي
815
كذب الفلاسفة | مرابط
مناقشات

كذب الفلاسفة


ولا بد لنا أولا قبل المضي في الحديث أن نبرر هذا الاهتمام بالفلاسفة: لماذا الحديث عن كذب الفلاسفة؟ ولماذا هذا التدقيق والتنقيب عن الخطايا الشخصية لدى هذا الصنف من الناس؟ الجواب يكمن في حقيقة خطرة وجوهرية وهي أن اللغة الفلسفية والخطابات التجريدية توهم بوجودها المستقل عن الذوات التي شيدتها فهي تشعر الدارس لها بنقاء أسطوري وأصالة مزعومة وتكرس قدرا واسعا من اشتغالها التأويلي للبرهنة على عموميتها النظرية وعمق موضوعيتها المعرفية

بقلم: عبد الله الوهيبي
380
الحياد الأجوف | مرابط
فكر مقالات

الحياد الأجوف


لا يجد المتابع صعوبة ليدرك حجم الاختلاف وتعدد الرؤى وكثرة الأطروحات في واقعنا المعاصر بصورة هي من سمات هذا العصر ومن المؤثرات الكبيرة على أهله بالطبع هذه الأطروحات الكثيرة متباينة وواسعة المدى من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ولكل مقالة منها منتصرون ومنظرون وهؤلاء من لا أريد الحديث عنهم هنا وإنما أريد أن يكون حديثي عن الجمهور المشاهد الذي تلقى هذه الأفكار على رأسه في حرب لم يكد يشهد لها التاريخ مثالا في الضراوة والتتابع هذا المستمع والمتابع كيف يصنع مع هذه الحرب ومع أي قوم يصطف

بقلم: الشيخ حسن بن علي البار
1166
من مناظرات الإمام الشافعي | مرابط
مناظرات تفريغات

من مناظرات الإمام الشافعي


والشافعي رحمه الله كانت أخلاقه عالية جدا وقال عنه ولده: ما سمعت أبي يناظر أحدا قط فيرفع صوته وكان من خلقه أنه يحب أن تكون الغلبة لخصمه وكان يقول: ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني. ويقول: ما ناظرت أحدا قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق. وكان يقول: ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ. وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقا. وقال: ما ناظرت أحدا قط إلا على النصيحة.

بقلم: محمد المنجد
1573
التعامل مع نقص اليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

التعامل مع نقص اليقين


اليقين هو تلك اللحظة التي يصبح فيها ما يراه بصر رأسك حسا بنفس المستوى الذي تراه بصيرة قلبك إيمانا عيون الموقن في رأسه وقلبه تسيران جنبا إلى جنب في هذه الحياة ولا يتخلف أحدهما عن الآخر ويبصران المرئي وغير المرئي بذات الحدة البصرية: أن تعبد الله كأنك تراه ثم كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا هو الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين

بقلم: إبراهيم السكران
758
ونبلوكم بالشر والخير فتنة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ونبلوكم بالشر والخير فتنة


مقتطف من كتاب في ظلال القرآن قول الله تعالى ونبلوكم بالخير والشر فتنة يقف بنا الأستاذ سيد قطب أمام تفسير الابتلاء بالخير فالابتلاء بالشر مفهوم ويدركه الإنسان ولكن كيف يكون الابتلاء بالخير وكيف يمكن التعامل معه هذا ما يتناوله الكاتب

بقلم: سيد قطب
2066