من مناظرات الإمام الشافعي

من مناظرات الإمام الشافعي | مرابط

الكاتب: محمد المنجد

1134 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وبالنسبة للأخلاق: فإن الشافعي رحمه الله كانت أخلاقه عالية جدًا، وقال عنه ولده: ما سمعت أبي يناظر أحدًا قط فيرفع صوته، وكان من خلقه أنه يحب أن تكون الغلبة لخصمه، وكان يقول: "ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني، ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني".

ويقول: "ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق". وكان يقول: "ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ". وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقًا. وقال: "ما ناظرت أحدًا قط إلا على النصيحة".

كثير من الشباب -الآن- الذين يدخلون في نقاشات فقهية، يكون قصد الواحد منهم أن يتغلب على الآخر، وأن يظهر خطأ الآخر، وأن يظهر صوابه وفضله، فأين هؤلاء من أخلاق الشافعي رحمه الله؟

يجب علينا أننا إذا دخلنا في مناقشات علمية أن يكون قصد الواحد منا ظهور الحق، ولا فرق أن يكون ظهر الحق منه أو من الآخر، هذا ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق طلبة العلم، يقولالشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه.

مناظرة حول الدعاء في الصلاة

كان الشافعي رحمه الله كان له مناظرات، فكان من مناظراته لمن كان يمنع الدعاء بشيء من خارج القرآن في الصلاة، كان بعض أهل العلم يرون أن الدعاء في الصلاة لابد أن يكون من القرآن: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة:201] وأنك إذا دعوت بشيء من خارج القرآن لا يجوز لك ذلك، فناظر الشافعي واحدًا من هؤلاء، وقال له: ماذا تقول في الصلاة بغير ما في القرآن؟ قال: تفسد صلاته، وإن دعا بما في القرآن لا تفسد.

قال: فقلت له: أرأيت إن قال: أطعمنا بقلًا وقثاءً وفومًا وعدسًا وبصلًا، ما هو الحكم؟ قال: تفسد صلاته، قال: أنت تقول بفسادها، وأنت تقول: يجوز أن تدعو بما في القرآن، قال الآخر: فماذا تقول أنت؟

قال الشافعي: ما يجوز أن يدعو به المرء في غير الصلاة جاز أن يدعو به في الصلاة؛ لأن المخاطب في ذلك ليست إلى الآدميين- المصلي إذا دعا لا يتكلم مع الآدميين وإنما يدعو ربه- وإنما الخبر أنه لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس، هذا الذي يفسدها؛ أن يكلم الناس بعضهم بعضًا، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقوم وسماهم بأسمائهم.

النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على أناس وسماهم بأسمائهم، وعلى عصية ورعل وذكوان، ودعا وقال: اللهم أنجي الوليد بن الوليد وغيره ممن دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسماهم بأسمائهم، ونسبهم إلى قبائلهم.

وهذا كله يدل على أن المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضًا في حوائجهم، فأما ما دعا به المرء ربه تبارك وتعالى وسأله إياه، فهذا لا أعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلف فيه.

والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنه قمن- أي: حري- أن يستجاب لكم) ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم دعاء دون دعاء، وكلما كان يجوز أن يسأل الرجل ربه في غير الصلاة، فهو جائز في الصلاة.

مناظرة الشافعي مع الرشيد

وكذلك من الأشياء التي حصلت له رحمه الله تعالى، لما دخل هو ورجل آخر على الرشيد ، فلما استويا بين يديه، قال: يا أبا عبد الله ! تسأل أو أسأل؟ قال: قلت: ذاك إليك، قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي؟ قلت: نعم. قال ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ" [النساء:102] فلتقم: هذا فعل أمر، فدل على أنها واجبة.

قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة: “وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ” قال: فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" [التوبة:103] فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟- لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم تذهب الزكاة- فقال: لا. قلت: وما الفرق بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعًا؟ قال: فسكت. أي: الرشيد.

مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه

حصلت مناظرة بين الإمام الشافعي رحمه الله وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد موجود يسمع في مسجد الخيف بـمنى، مناظرة مشهورة جدًا، وذلك أن الموضوع الذي أثير هو: ما حكم شراء بيوت مكة وبيعها وإجارتها؟

فكانت فتوى الشافعي الجواز، إسحاق بن راهويه يسأله، الشافعي يفتي بالجواز، فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كري بيوت مكة، وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة، وقال: يرحمك الله -الآن إسحاق يحتج بكلام بعض الصحابة على عدم جواز ذلك في مكة وهذه مسألة خلافية عند أهل العلم على أية حال

فقال الشافعي: يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار)؟ لأنه تصرف فيها قبل فتح مكة وباعها- قال: فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها، قال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم. فقلت: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك.

فقال الشافعي رحمه الله: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن، هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟

ثم قال الشافعي مناظرًا إسحاق: يقول الله عز وجل: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ" [الحشر:8] المهاجرون من أين أخرجوا؟ من مكة ، نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟

قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أم إلى غير مالك؟

قال إسحاق: نسبها إلى مالكها.

فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وأيضًا عمر بن الخطاب اشترى دار صفوان ليجعلها سجنًا بـمكة فكونه اشترى دار صفوان فهذا يعني أن شراء بيوت مكة جائز، وذكر له جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتروا دورًا في مكة وجماعة باعوها.

فقال إسحاق: يقول الله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ أي: أنهم كلهم لهم حق العاكف والباد، فقال الشافعي: اقرأ أول الآية: "وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ" [الحج:25] قال الشافعي: والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: "طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ" [البقرة:125]؟ والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله: “وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ” [البقرة:187]؟ فدل ذلك أن قوله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ في المسجد خاص، فأما من ملك شيئًا فله أن يكري وأن يبيع.

هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم رأى جواز بيع بيوت مكة وشرائها وإجارتها، وبعضهم رأى منع ذلك كله، وتوسط الإمام أحمد فقال بجواز شراء وبيع البيوت في مكة ، وعدم جواز الإجارة.

والمسألة من المسائل التي فيها مبررات من قال بالمنع، مثل: إن مكة يفد إليها الناس من جميع الأنحاء، فالأصل أن الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، لا نجيز التملك فيها؛ لأننا إذا أجزنا التملك ضيق الناس على الحجاج والعمار، فإذًا الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، وليس هناك أجرة ولا تأجير، فإذا انتهت حاجته من مكة ذهب، وجاء غيره فخلفه فيه، وبالنسبة لـمنى ليس هناك خلاف، منى مناخ من سبق، فـمنى الذي يأتي أولًا يأخذ المكان لا شك في ذلك، لكنهم اختلفوا في مكة ، هل يجوز البيع والشراء والتأجير فيها أم لا؟ هذه مسألة طويلة، وذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه في ترجمة الشافعي توسط أحمد رحمه الله بين الشافعي وإسحاق.

وأيضًا مما يدل على فقهه رحمه الله، ما قال له عبد الله بن محمد بن هارون الفريالي ، قال: وقفت بـمكة على حلقة عظيمة وفيها رجل، فسألت عنه، فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي ، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم، أخبركم بآية من كتاب الله، وسنةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول صحابي، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جريء، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ -الزنبور الذي يلسع، من أين تأتي للزنبور بآية وحديث؟- فقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [الحشر:7] وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر ) وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه [أمر المحرم بقتل الزنبور].

فأولًا أتى بالآية “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ”. ما هو الذي أتى من الرسول؟ (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) وعمر أمر بقتل الزنبور، فهكذا أجاب رحمه الله تعالى.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الشافعي
اقرأ أيضا
من هم التنويريون | مرابط
فكر مناقشات

من هم التنويريون


مراجعة لكتاب: التنوير الإسلامي في المشهد السعودي عبد الوهاب آل غظيف مركز تأصيل الطبعة الأولى 1434ه وهو أول كتاب قدم استعراضا وتحليلا وتقييما علميا لموجة التنوير في السعودية وعرف بها وأهم أفكارها ومقولاتها والتطورات التي لحقت بها خلال الحقبة السابقة وهو كتاب الأخ الشيخ عبد الوهاب آل غظيف بعنوان التنوير الإسلامي في المشهد السعودي الصادر عن مركز تأصيل الطبعة الأولى 1434ه ويقع في 150 صفحة

بقلم: إبراهيم السكران
1222
التمركز حول الأنثى | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

التمركز حول الأنثى


وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية وأهم المؤسسات التي يحتفظ الإنسان من خلالها بذاكرته التاريخية وهويته القومية ومنظومته القيمية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
565
العضلة الأهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العضلة الأهم


كلنا يريد الانطلاق نحو الله في رمضان.. والقوة المحركة لهذا الانطلاق هي القلب.. وكلما كان حمله من المعاصي أقل.. كانت انطلاقته أكبر وأعظم.. ومن أكبر أثقال القلب التي تبطئ حركته:الغل والأحقاد نحو الآخرين في قلبك..

بقلم: د. أيمن خليل البلوي
425
من قصص المرأة الغربية | مرابط
تفريغات المرأة

من قصص المرأة الغربية


إن جولة واحدة في مجتمعات الانحلال تكفي لإدراك ذلة النساء للرجال فالمرأة هناك تشتغل حمالة حقائب في المطار وعاملة نظافة في الطريق ومنظفة حمام في الشركة وإن كانت جميلة اشتغلت في مرقص أو بار فهذا سكير يعربد بها وذاك فاجر يعبث بجسدها والثالث يتخذها سلعة يتكسب منها فإذا قضوا حاجتهم منها صفعوا وجهها أو ركلوها بأقدامهم وإذا كبرت ألقيت في دار العجزة التي هي أشبه بالسجون أو المقابر

بقلم: محمد العريفي
323
القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات العالمانية

القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الأول


عندما يجري الحديث عن القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي فإن الأمر يتجاوز الحديث عن وقائع معينة تمت روايتها وتدوينها في كتب التاريخ ليجري الحديث عن الأرضية التي يجري على أساسها تحليل واستنباط النتائج من الوقائع كما أن هذا يشمل المنهج المتبع في التحقق من تلك الوقائع إنه في المقام الأول حديث عن فلسفة التاريخ عن المنهج الذي يسلكه المحلل في قراءته وتوظيفه للأحداث التاريخية في نسقه التحليلي قبل المنهج المتبع في التحقق من صدق الرواية التاريخية

بقلم: يوسف سمرين
1357
إسلام الوجه لله والإحسان هما أصلا الشريعة | مرابط
مقالات

إسلام الوجه لله والإحسان هما أصلا الشريعة


وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله والإحسان - هما الأصلان المتقدمان وهما: كون العمل خالصا لله صوابا موافقا للسنة والشريعة وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله كما قال بعضهم: أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
651