تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام

تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

263 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

من شؤم علم الكلام على أصحابه أنه يوقعهم في الحرج والحيرة حين يعرضون لبيان موقف أئمة أهل السنة من علم الكلام، وذلك أنهم إن وافقوهم في القدح في علم الكلام وأنه منهج مبتدع في الدين فقد ناقضوا منهجهم وأبطلوه، وإن خالفوا أئمة أهل السنة فقد أظهروا المباينة بينهم وبين من ثبتت إمامتهم عند عموم المسلمين، وأنهم قد شذوا عنهم وانحرفوا عن منهجهم، ويكون المخرج الذي يسلكونه لتجنب الوقوع في هذين الخيارين أن يتأولوا تحذير الأئمة من علم الكلام على غير وجهه.

ومثال ذلك أن الفخر الرازي قد عقد فصلا في كتابه عن مناقب الإمام الشافعي وعنوانه "ما روي عن الإمام الشافعي من الطعن في علم الكلام" وذكر فيه من أقوال الإمام الشافعي في التحذير من علم الكلام والتشديد في ذلك ما يحصل معها الجزم بأن موقف الإمام الشافعي من علم الكلام هو اعتقاد بطلانه ومباينته للمنهج الحق الذي عليه أئمة الإسلام المقتدى بهم.

ومما نقله عن الإمام الشافعي قوله: "ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح" وقوله: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل منكسين، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"، ونقل عنه ما يفيد أن كتب علم الكلام ليست من كتب العلم، وأن أهل الكلام ليسوا من أهل العلم.

وقد احتار الرازي كيف يصنع مع هذه الأقوال وما فيها من التصريح بالتشنيع على علم الكلام والبراءة منه ومن أهله، وقد ذكر أنه قد حصل الخلاف بين طائفتين في تفسير موقف الشافعي، وملخص ما ذكره هو أن: "هذه الروايات دلت على حصول العداوة بين الشافعي وبين أصحاب علم الكلام، فمن اعتقد أن الكلام علم شريف استدل به على الطعن في الشافعي، ومن اعتقد أن الشافعي إمام كامل فقد استدل به على الطعن في علم الكلام".

واجتهد الرازي في أن يجد مخرجا يجمع فيه بين الاعتبار لمكانة الشافعي وعدم القدح في علم الكلام، وانتهى إلى أنه  لا بد من تأويل ما نقل عن الشافعي من الذم لعلم الكلام والتحذير منه بما لا يتنافى مع أن علم الكلام هو أشرف العلوم وأجلها حسب قوله، وذكر في تبرير هذا المخرج تأويلات مستنكرة.

ومما ادعاه في ذلك قوله: "إن الفتن العظيمة وقعت في ذلك الزمان، بسبب خوض الناس في مسألة القرآن، وأهل البدع استعانوا بالسلطان وقهروا أهل الحق، ولم يلتفتوا إلى دلائل المحققين، فلما عرف الشافعي أن البحث في هذا العلم ما كان في ذلك الزمان لله وفي الله، بل لأجل الدنيا والسلطنة، لا جرم تركه وأعرض عنه وذم من اشتغل به".

ومما ادعاه الرازي أيضا من التأويلات أن الشافعي لم يذم مطلق علم الكلام بل هو قبيل ذم بعض السلف للقياس، وهم إنما قصدوا بذمهم القياس الفاسد خاصة، وعلى هذا فإن: "الذم العظيم المنقول عن الشافعي للكلام يجب صرفه إلى الكلام الذي كان أهل البدع ينصرونه ويعولون عليه".

وختم الرازي هذه التأويلات بما هو الحق الذي أراده الشافعي، لكنه غير مقبول عند الرازي، وحاصله أنه ربما كان مقصود الشافعي أنه يجب الاكتفاء بالدلائل المذكورة في القرآن، وأن "التوغل في الدقائق التي لا سبيل للعقل إلى الخوض فيها غير جائز،فلهذا السبب بالغ في ذم من حاول الخوض في تلك الدقائق".

وإذا كان الرازي قد تعسف لتبرير علم الكلام غاية التعسف، وذكر من التأويلات ما يناقض ما هو صريح موقف الإمام الشافعي فإنما يكشف ذلك عن حقيقة التباين بين منهج الإمام الشافعي الذي هو منهج أهل السنة وبين ما أحدثه المتكلمون وابتدعوه في منهج الاستدلال وأصول الاعتقاد، وأنهما منهجان متناقضان لا يمكن التوفيق بينهما إلا بمثل ما ذكره الرازي من هذه التأويلات المنكرة، وأنه لا خيار لأحد إلا أن يقول بحقية أحد هذين المنهجين وما يلزم عنه من بطلان المنهج الآخر.

وأما ما ذكره في التأويل الثالث من أن الشافعي كان يكتفي بالدلائل المذكورة في القرآن وينهى عن الخوض فيما وراء ذلك مما خاض فيه المتكلمون من الدلائل البدعية فهو الحق الذي لا يختص به الإمام الشافعي، بل هو الحق الذي قرره أئمة أهل السنة وتواتر النقل عنهم قرنا بعد قرن بما يدل عليه ويبينه غاية البيان.

ومدار منهجهم في ذلك أنه لا تلازم بين مطلق الاستدلال العقلي وبين علم الكلام، بل قد جاءت النصوص بما فيه الكفاية في الاستدلال بالبراهين العقلية على أصول الاعتقاد، وأن ما أحدثه المتكلمون من البدع في أصول الاعتقاد فإنما يستند إلى ما أحدثوه مما يخالف طريقة القرآن في منهج الاستدلال.

ومن لم يعرف حقيقة هذا الفرق بين المنهجين ف لا بد أن يلتبس عليه الأمر في تمييز الحق من الباطل في منهج الاستدلال، ويتعدى اللبس عندهم إلى الظن بأن من اشتهر عنه بيان الدلائل العقلية على أصول الاعتقاد والرد على المخالفين فيها فهو عندهم على منهج المتكلمين، حتى وقع الخلط عندهم في حقيقة موقف ابن تيمية، حيث عده بعضهم من أهل الكلام، مع ما هو معلوم من عظيم جهاده في الرد عليهم وإبطال منهجهم.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#علم-الكلام
اقرأ أيضا
طبيعة التصرفات النبوية | مرابط
تعزيز اليقين

طبيعة التصرفات النبوية


الأصل في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته أنها حجة وأنها تشكل بمجموعها مفهوم السنة النبوية وأنها منبع يصدر عنه في تقرير الأحكام وبيان التشريعات وقد نبه الإمام ابن عبد البر إلى طبيعة الإطلاق في الإطلاقات الشرعية الآمرة بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع أمره فقال: وقد أمر الله جل وعز بطاعته واتباعه أمرا مطلقا مجملا لم يقيد بشيء كما أمرنا باتباع كتاب الله

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
495
فضل الذكر في العشر الأواخر | مرابط
اقتباسات وقطوف

فضل الذكر في العشر الأواخر


من أفضل الأعمال وأيسرها الذكر خاصة ليل رمضان لسهولته ولو وافق ليلة القدر لرجي له المضاعفة عشرات آلاف المرات وأفضل الذكر كلمة التوحيد وأفضل صيغها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

بقلم: عبد العزيز الطريفي
305
الإطراق الأخير | مرابط
فكر مقالات

الإطراق الأخير


إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليوميةأصبح الواحد منا كأنه ترس في دالوب المهام والتفاصيل الصغيرة التي تستلمك منذ أن تستيقظ صباحا حتى تلقيك منهكا فوق سريرك في أواخر المساء دوام مضني ورسالة جوال ورسالة إيميل وتعليق فيسبوكي وخبر تويتري ومقطع يوتيوبي وتنقل بين الفضائيات وصراخ منبهات في طرق مكتظة وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم الخ الخ

بقلم: إبراهيم السكران
820
من فضائل أم سليم | مرابط
المرأة

من فضائل أم سليم


هذه أم سليم رضي الله عنها علمتنا هذا الأصل في الحديث المشهور كان لها ولد مريض ثم ذهب أبو طلحة للتجارة فمات الولد فقالت أم سليم: لا أحد يخبره حتى أكون أنا أول من يخبره.

بقلم: أبو إسحق الحويني
246
المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج3 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج3


أهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر إيمانا كاملا مفصلا وعقيدتهم في الإيمان بالقدر عقيدة واضحة وبينة وهم ينهون ويأمرون بالإمساك عن مسائل القدر إذا كان الخوض فيها بغير منهاج الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم وهذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح

بقلم: عبد الرحيم السلمي
1094
الانفعالات وتكوين النفس البشرية | مرابط
تفريغات ثقافة

الانفعالات وتكوين النفس البشرية


هل الصحيح أن يكون الإنسان منفعلا أو لا يكون منفعلا؟ الصحيح أن يكون منفعلا لأن الشخص الذي لا ينفعل أبدا ولا تهزه الحوادث إما أن يكون مجنونا لا يعي ما حوله أو أنه مدمن مخدرات مثلا فهو مصاب بتغليف لذهنه ومخه وقلبه فلا يحس بشيء ولكن المهم الآن أن نعرف متى تكون الانفعالية إيجابية ومتى تكون الانفعالية سلبية

بقلم: محمد صالح المنجد
390