الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1469 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأزمة الثالثة: التضليل المعرفي:

من أساسيات الوعي الفكري التي يمثل المساس بها انخرامًا خطيرًا في البنية التحتية: احترام الفكرة نفسها وصدق التعامل معها، وتقدير عقل المتلقي لها، ومتى ما حدث تجاوز لهذه المبادئ فإن الفكر يتوجه مباشرة إلى التضليل والتزييف والتلاعب والانحطاط والتشويه.
 
والمتابع للمنتج الليبرالي والمطلع على العملية التفكيرية التي يمارسها في تعاطيه مع القضايا التي يسعى إلى تكريسها ونشرها في الوسط الثقافي السعودي يجد أن لديه انزلاقات خطيرة في تصوير الحالة الفكرية، وفي منهجية التعامل معها، وفي طريقة تركيب النتائج واستخلاصها.
 
وقد تسببت هذه الانزلاقات في تضليل الوعي المجتمعي، وإبعاده عن الحقيقة، وإقامة حواجز غليظة تحول دون الرؤية الناضجة للواقع.
 
فالمتابع الواعي يجد أن أكثر التيار الليبرالي لا يفرق بين الغلو والتطرف وبين مظاهر التدين الصحيحة، فيبدو للعيان أنه لا يفرق تفريقًا واضحًا بين من يتبنى فكر التطرف والغلو والتكفير وبين المتدين المتمسك بالشعائر الظاهرة, وأخذ يدخل في التطرف قضايا شرعية صحيحة لا علاقة لها بالتطرف، وأخذ ينقد المتطرفين والغلاة في مسائل شرعية ليست هي سبب حصول الغلو والتطرف لديه، وهذا كله تسبب في تضليل مفتعل لا حقيقة له.
 
ويجد أيضا أن التيار الليبرالي لا يفرق بين التقدم والتطور والارتقاء الحضاري وبين منتجه الفكري والصحفي، وبالتالي فكل من ينتقد منتجه أو يتحفظ عليه سواء في قضايا المرأة أو غيرها فإنه يُصَوَّر على أنه مخالف للتقدم والتطور، وأنه معاد للمعاصرة ويدعوا إلى التخلف والعيش في الظلام، وأنه محارب للعدالة والمساواة، ولديه أزمة في علقه وقلبه!، وكل هذا نوع من التضليل الفكري المفتعل.
 
وإذا حاول المتابع أن يقوم بعملية استقرائية للصحافة الليبرالية ليتعرف من خلالها على الهموم المسيطرة على منتجها سيجد أنها في أغلبها منصبة على موضوعات محدودة جدا كموضوع عمل المرأة، والإرهاب، وآراء بعض الدعاة، وهذا الطرق المكثف والتناول المركز يؤدي إلى التضليل الفكري بشكل ظاهر ؛ لأنه يوجه المشهد الثقافي إلى خانات محددة لا تمثل كل إشكالياته الحقيقية ولا كل أزماته الملحة.
 
وإذا استمر تجوال المتابع في ساحات المنتج الليبرالي سيجد نوعا آخر من التضليل المعرفي، سيجد أن الخطاب الليبرالي انتقى نوعا من العلماء وطلبة العلم ممن يتوافق مع بعض أطروحاته وجعلهم الممثلين للنضج الشرعي، وصور للقراء بأنهم هم الذين يمثلون الاعتدال والعلم الحقيقي، وأنهم المنقذ للأمة مما تعانيه من تخلف، وسعى إلى إبرازهم وإظهارهم، بل وصل الحال إلى عقد تراجم شخصية لبعضهم.
 
وإذا حاول المتابع أن يتعرف على أسباب ذلك لا يجدها ترجع إلى التمكن العلمي، ولا إلى النضج الاستدلالي، ولا إلى الخبرة في الاستنباط، ولا إلى الإتقان في الملكة العلمية، ولا إلى الثراء في النتاج العلمي، وإنما إلى أنه قال قولا يوافق الخطاب الليبرالي، أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!
 
وتتبدى عليمة التضليل المعرفي في مجال آخر، فإن الخطاب الليبرالي حين أراد أن يبحث عن المؤيدات الشرعية لمواقفه، قام بحملة تشريعية كبيرة، ولكنه وقع في أخطاء بحثية عديدة، نتيجةً لضعف المعرفة بالعلوم الشرعية، ونقص الأدوات البحثية لديه, من أفتكها: الانتقائية الاستدلالية، بحيث إنه لا يستقرئ النصوص الشرعية ليستخرج من مجملها حقيقة ما تدل عليه، وإنما انتقى منها ما يراه يدل على قوله.
 
ولأجل هذا لما اقتنع بعض الخطاب الليبرالي بأن النص الشرعي منفتح على كل الدلالات وأنه قابل لكل التأويلات، وأراد أن يشرعن لهذه النظرية ويبحث لها عن مستند في التراث، انتقى مقولة علي رضي الله عنه للخوارج، حين قال لهم:" إن القرآن لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال"، وتوصل من خلالها إلى أن عليًا يقول بنظرية انفتاح الدلالة، ونسي أن عليا رضي الله عنه أرسل ابن عباس ليناظر الخوارج فيما فهموه من القرآن وليبين لهم أخطاءهم، ونسي أن عليًا قاتل الخوارج لما كفروا المسلمين بناء على ما فهموه من القرآن، نسي كل ذلك وتوقف عن تلك المقولة فقط.
 
أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!.
 
ويجد المتابع تضليلا آخر لدى الخطاب الليبرالي، فإنه يجد في المنتج الليبرالي زيادة طافحة في جرعة التضخيم للأمور إلى درجة الخروج بها عن الواقع والتصادم مع المحسوس، فقد مارس عدد من التيار الليبرالي تضخيمًا موسعًا لبعض الأفكار التي دعى إليها بعض الدعاة والشرعيين – بغض النظر عن القول بصحته أو خطئه – حتى وصل إلى درجة التمويه على عقلية القارئ والاستخفاف به، وأقرب مثال على ذلك: التشويه المفتعل الذي مورس على الدعوة إلى هدم الحرم وبنائه على شكل يحقق فك الاختلاط بين الرجال والنساء، فقد أصر الخطاب الليبرالي على تصوير هذه الدعوة على أنها دعوة لهدم الكعبة نفسها !!
 
ومن مشاهد التضليل المعرفي التي يجد لها المراقب حضورًا مكثفًا في الخطاب الليبرالي: السعي إلى تحويل عدد من الشعائر والعبادات الدينية إلى عادات اجتماعية وتفريغها من البعد الديني وربطها بالأوضاع التاريخية والمحلية ؛ حتى يسهل تجاوزها والقدح فيها، كما هو الحال في تصوير الحجاب على أنه عادة من العادات الاجتماعية وليس من الشعائر الدينية.
 
وهذه العملية التضليلية مارسها الخطاب العلماني العربي في قضايا كثيرة كقضية الميراث، وقضية الحجاب، وقضية الحدود الشرعية، وقضية الطلاق، وقضية القوامة، وقضية تعدد الزوجات، وغيرها، وهاهو الخطاب الليبرالي السعودي يعيد تلك التجربة ولكن بجرعة مخففة.
 
وإذا تابع المراقب توصيف الخطاب الليبرالي للمشاريع النقدية التي ظهرت في الفكر العربي كمشروع محمد أركون، ومشروع حسن حنفي، ومشروح محمد الجابري، ومشروع نصر حامد أبو زيد، فإنه سيقف على تضليل معرفي من نوع آخر، فبعض الخطاب الليبرالي السعودي وصف أصحاب تلك المشاريع بالأوصاف الاطرائية العالية، وصفهم بأنهم أكبر المجددين في الإسلام وأنهم من حكماء المسلمين الكبار، وأن مشاريعهم تمثل فتحا جديدا للفكر الإسلامي، وهو بذلك كله يمارس تضليلا معرفيا على عقلية القارئ ؛ لأنه لم يراع مقدار الوعي الذي وصل إليه العقل العربي ولا مقدار الحاسة النقدية التي استطاع الارتقاء إليها، ولم يلتفت إلى كمية الجهود البحثية التي قام بها الخطاب العربي بجميع أطيافه – سواء العلمانية أو الإسلامية – في نقد تلك المشاريع.
 
فالمستقرئ للساحة الفكرية يجد أن تلك المشاريع النقدية قُدِّمت حولها بحوث علمية جادة أظهرت ما فيها من الخلل المنهجي الغائر في البنية المعرفية والبحثية لديها، وأبرزت ما احتوت عليه من الأخطاء التاريخية والتراثية، وأبانت ما فيها من المخالفة الصريحة لقطعيات الإسلام، وما تضمنته من الانزلاقات الاستدلالية والنتائجية، وكشفت مقدار التحريف الذي وقعت فيه سواء في التراث العربي أو الغربي، وبينت آثارها الفكرية المدمرة للفكر والمعرفة، ولكن الخطاب الليبرالي يتعالى على كل هذه الجهود وكأنه ليس لها وجود!
 
إن شيوع هذه الممارسات التضليلية في الساحة الفكرية له آثار سلبية مميتة، فهي من أقوى الأسباب التي تؤدي إلى حدوث القلق والفوضى بأنواعها، فوضى في تصوير أقوال الآخرين، وفوضى في موزين النقد والتقييم، وفوضى في بناء المواقف وتركيب النتائج.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج2 | مرابط
تفريغات

خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج2


الرسول صلى الله عليه وسلم يا إخواني كان يعلم أنه يصعب علينا صلاة الصبح في موعدها لأجل هذا كان له أسلوب تربوي رائع في تحفيز المسلمين لهذه الصلاة المحورية الخطيرة التي تميز الصادقين من المنافقين فقد أعطى صلى الله عليه وسلم خصائص هامة فريدة لصلاة الصبح لترغيب المسلمين في هذه الصلاة العظيمة الهامة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة الدكتور راغب السرجاني يتحدث فيها عن هذه الخصائص

بقلم: د راغب السرجاني
626
رد الإمام أحمد على المرجئة | مرابط
مناظرات

رد الإمام أحمد على المرجئة


تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معناها أو معنى ما أراد الله عز وجل أو أثر قال المروذي: أو أثر عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه فهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا تنزيله وما قصه له القرآن وما عني به وما أراد به وخاص هو أو عام.

بقلم: أبو بكر الخلال
255
القوامة وظلم الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات النسوية المرأة

القوامة وظلم الزوجة


إن نظرة بسيطة تتفحص عالمنا -الذي ما فتيء ينادي ويصرخ بالمساواة العمياء بين الرجل والمرأة- لتكشف لنا عن حقيقة تميز الرجل في مختلف بلدان الداعين إلى المساواة لذلك أسأل القارئ الكريم: كم نسبة الوزيرات إلى الوزراء في دول العالم الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين وكم نسبة الملوك والرؤساء من النساء في تلك البلاد وكم نسبة نساء الدولة والبرلمان وقادة الأخزاب إلى الرجال في هذه الدولة

بقلم: منقذ محمود السقار
2022
مسلمو الروهينجا: جذور المشكلة | مرابط
توثيقات

مسلمو الروهينجا: جذور المشكلة


مأساة المسلمين الروهينجا في بورما ميانمار ليست وليدة اليوم أو الأشهر الأخيرة عندما طفت مشكلتهم على السطح جراء تجدد أعمال العنف ضدهم من قبل حشود البوذيين بتحريض من الرهبان وعلى أعين السلطات والحكومة وإنما ترجع تلك المأساة إلى سنوات بعيدة وتحديدا إلى العام 1982م عندما صدر قانون ينص على أن أي أقلية في البلاد لا تستحق الجنسية الميانمارية إلا إذا ثبت أنها كانت موجودة في البلاد قبل عام 1823م أي قبل الحرب الأنجلو-بورمية الأولى

بقلم: مركز التأصيل للدراسات والبحوث
667
لماذا الهجوم على الحجاب ج1 | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات المرأة

لماذا الهجوم على الحجاب ج1


إن الله يريده مجتمعا إسلاميا طاهرا نقيا فيه الفضائل وتحارب فيه الرذائل فليس لها مكان في ظل مجتمع يؤمن بالله ورسوله ويسعى لتنفيذ حكم الله ورسوله والله عز وجل خلق العباد وهو أبصر بهم ويعلم ما في نفوسهم وما يصلح لهم ولذلك حرم الزنا وحرم الخلوة بين الذكر والأنثى الأجنبيين وأوجب الحجاب وفرض حد القذف وحد الزنا وشرع الزواج وأكد عليه ففتحت الشريعة طرق العفاف وسدت طرق الشر والرذيلة

بقلم: محمد صالح المنجد
2522
باب الصفات: بين عقيدة السلف وتحريف الجهمية | مرابط
أباطيل وشبهات

باب الصفات: بين عقيدة السلف وتحريف الجهمية


وما قرره الإمام الترمذي هنا وحكاه عن علماء أهل السنة من إثبات صفات الله تعالى وعدم التعرض لكيفيتها مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات فهو الحق الذي تلقوه عمن قبلهم من سلف الأمة وإنما يكون أثباتها مع العلم بمعانيها وأما دعوى اثبات الصفة دون العلم بمعناها فقول متناقض مضطرب لا يحتمله منهج السلف ولا تأتي به اللغة ولا يقوم بعقل عاقل.

بقلم: عبد الله القرني
289