لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

370 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

استعباد البشر للبشر قديم جدًا، لا يعرف له التاريخ بداية؛ فقد رأيناه بجميع أنواعه في أقدم ما نعرفه عن الصين، وفي الهند كانوا يدينون بأن من لم يكن برهميًا، فهو مخلوق ليكون عبدًا للبرهمي، ويسمونه: (سودرار). وكان الرقيق في النظام الفرعوني هو أداة العمل، وعلى كتاف الرقيق بنيت الأهرام، وكان الرق عريقًا في تاريخ الآشوريين والفرس، أما في بني إسرائيل، فقد أباحت التوراة الاسترقاق بطريق الشراء، أو سبيًا في الحرب، بل أباحت التوراة للعبري أن يُستعبد إذا افتقر، فيبيع نفسه لغني، حتى يوفي له الثمن، أو يخدمه ست سنين، ثم يتحرر، وإذا سرق العبري ماشية وذبحها، أو أي شيء استهلكه، ولم يكن في يده ما يعوضه به عن سرقته، يباع السارق بسرقته، كما نصت على ذلك التوراة في: سفر الخروج، وأباحت التوراة للعبري أن يبيع بنته، فتكون أمةً للعبري الذي يشتريها.

الرق عند اليونان:

وكان استعباد البشر للبشر مطلقًا وبكثرة في حضارة اليونان، وكان قرصانهم يتخطفون أبناء الأمم الأخرى في مختلف السواحل، ويبيعونهم في أسواق "أثينا"، وغيرها، ولما صارت لليونان مستعمرات في آسيا الصغرى، صارت لهم فيها أسواق للاتجار بالرقيق، حتى امتلأت بيوت الإغريق بالإماء والعبيد، يستعبدهم اليونان جميعا، لا فرق بين غني وفقير، ولم تؤثر في تاريخهم كلمة واحدة عن أي حكيم من حكمائهم باستنكار استعباد الإنسان، لأخيه الإنسان أو الترغيب في تحريره.

الرق عند الرومان:

أما الرومانيون، فإن النخاسين كانوا يتخذون الحروب الكثيرة مواسم لتجارتهم، فيصحبون الجيوش إلى أوطان الشعوب الأخرى؛ ليشتروا الأسرى والمغلوبين من صبيان وينات، ورجال ونساء بأبخس الأثمان، حتى لقد كان النخاس إذا كان غنيًا يشتري ألف إنسان صفقة واحدة، عقب نصر كبير تعده الإنسانية خزيًا، ويعده تاريخ الاستعمار الروماني عظمة ومجدًا، وفي مدينة "رومية" العظمى كانت للرقيق سوق تعرض فيها هذه البضائع للمزاد العلني على رابية مرتفعة، فيكون الرقيق عريانًا من كل ما يستره، ذكرًا كان أو أنثى، كبيرًا أو حدثًا، ولمن شاء من الناس أن يدنو من هذا اللحم الحي المعروض للبيع، فيجسه بيده، ويقلبه كيف شاء، ولو لم يشتره في النهاية، والقانون الروماني لم يكن يعتبر الرقيق إنسانًا له شخصية ذات حقوق على الإنسانية، بل يعتبره شيئًا من الأشياء كسائر السلع التي يباح الاتجار بها.

نظام كان معترفًا به:

ولما جاءت المسيحية، كانت عبودية الإنسان شائعة في كل العالم. نقل الدكتور (جورج برست) أحد رجال الجامعة الأمريكية في بيروت، في المجلد الثاني من كتابه "قاموس الكتاب المقدس" (ص ٦٠ - ٦١) طبع المطبعة الأمريكية في بيروت سنّة ١٩٠١ م قول العالم (شاق): إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي، ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا على المباحثة فيها، ولم تقل شيئًا ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا عن قساوتها، ولم تأمر باطلاق العبيد حالًا. وبالإجمال: لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك، فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباتهما.

هكذا كانت عبودية الإنسان في أمم الأرض عندما ظهر الإسلام. فهو نظام كان معترفًا به من كل الأمم، وأسواقه قائمة في كل مكان، وآثاره موجودة في بيوت الناس ومجتمعاتهم، وفي أنظمة الدول ومرافقها.

مواقف الإسلام من الرق:

وأبرز مواقف الإسلام من الرق كان من ثلاث جهات:

أولًا: أمر المسلمين بحسن معاملة من تحت أيديهم من الرقيق إلى أقصى ما يمكن أن تسمو إليه الفضائل الإنسانية.
ثانيًا: الترغيب في تحرير الرقيق إلى أقصى ما ينتظر من دين عالمي جاء ليعالج عيوب المجتمع بحسن توجيهه نحو الفضائل.
ثالثاَّ: وضع قاعدة المعاملة بالمثل في الحروب الدولية فيما يتعلق بالأسرى ومبدأ الاسترقاق. وكلما وجد الإسلام دولة ترضى أن تتعامل معه بمبدأ ينطبق على أهدافه في تحرير الإنسانية من الرق، فإنه كان دائمًا على استعداد للاتفاق معها على تحقيق هذه الأمنية بالفعل.

إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن، وكتب السنّة النبوية المشهورة بصحة رواتها، إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق، فإنها وحدها تبلغ كتابًا، وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم، وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل، لكان من ذلك مجلدات كئيرة.

ويمكننا أن نعلن ونحن مطمئنون بصحة ما نقول: أنه من أول ابتلاء الإنسانية بنظام الرق، واستعباد البشر للبشر، إلى طروء الضعف على دول الإسلام في العصرين الأخيرين، لا تعرف الإنسانية حضارة، ولا ديانة، ولا فلسفة قاومت الرق، وحاولت التخفيف من أضراره، وتهذيبه بما يلائم الإنسانية كما فعل الإسلام وحده، دون غيره من أنظمة البشر ومذاهبهم وطوائفهم.

تحرير الرقاب:

أما نص القرآن على ايجاب تحرير الرقيق، فنجده في سورة التوبة (الآية ٦٠) التي فرض فيها الإسلام ضريبة على المسلمين لهذا الغرض، وهي الزكاة، فجعل من مصارفها تحرير الرقاب؛ (أي: تحرير المملوكين): {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٦٠]. والرقيق الذي يطلب من مالكه أن يتعاقد معه على مبلغ من المال يدفعه له بسعيه وعمله ليتحرر من الرق، قد وردت (الآية ٣٣) من سورة النور بأمر المسلم المالك للرقيق أن يجيب هذا الطلب، وذلك في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: ٣٣].

وتحرير الرقيق قد جعله الإسلام فدية عن أمور كثيرة؛ كقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في (الآية الثالثة) من سورة المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ٣}.

وكقوله سبحانه في (الآية ٨٩) من سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: ٨٩].

ومما أوصى الله به المسلمين في (الآية ٣٦) من سورة النساء، قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣٦].

النبي يوصي بالرقيق:

أما الأحاديث النبوية في هذا الموضوع الإنساني، فكثيرة جدًا لا يكاد يأتي عليها الحصر؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - ما برح يحدث أمم الأرض بها، ويحث القبائل والشعوب على العمل بها مدة ثلاث وعشرين سنة، منذ بعثه الله بالنبوة إلى أن اختاره للرفيق الأعلى.

ونحن نورد هنا نماذج قليلة منها؛ لندل على سائرها مما يتسع له المقام.

من ذلك: ما ورد في كتاب: الإيمان من "صحيح الإمام مسلم"، من حديث أبي ذر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال في الرقيق: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كفلتموهم، فأعينوهم".

وفي ذلك الكتاب من "صحيح مسلم" أيضًا، عن أبي هريرة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من لاءمكم من خدمكم، فأطعموه مما تأكلون، وأكسوه مما تلبسون -أو قال: تكتسون-، ومن لا يلائمكم، فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

الاسترقاق الشرعي:

ثم إن الاسترقاق الشرعي هو الذي يقع في حرب يراد بها إعلاء كلمة الحق، وأن يأذن بها الحاكم العام، وأن يعامل المسترق بالرفق والإحسان كما يعامل الابن والأخ.

وقد أصدر أحمد باي تونس سنة ١٢٦٢ هـ أمرًا بتحرير المسترقين في المملكة التونسية، حيث إن غالب المالكين لا يعاملونهم بما أمر به الإسلام من الرفق وحسن المعاملة، ووافق الشيخ إبراهيم الرياحي رئيس الفتوى في تونس على ذلك.

ونص الفقهاء على أن من أضر برقيق ضررًا بينًا يعتقه القاضي عليه، وقد قدمنا أن الرق ليس بواجب من واجبات الحرب، إنما أباحه الإسلام للحاكم العام إذا اقتضته مصلحة الحرب، فلو اتفقت الدول على أن لا استرقاق، فرغبة شارع الإسلام في الحرية تجيز للحاكم العام أن يتفق مع المحاربين هذا الاتفاق، ويبطل الاسترقاق من أصله.


المصدر:
مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الخامس والعشرون- غرة صفر ١٣٧٣ هـ -أكتوبر تشرين الأول- ١٩٥٣ م.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الرق
اقرأ أيضا
قصور العقل عن درك جميع المطلوب | مرابط
مقالات

قصور العقل عن درك جميع المطلوب


ثم رأيت أشياء من هذا الجنس أظرف منه: مثل اخترام شاب ما بلغ بعض المقصود بنيانه! وأعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه يتململان١ ولا يظهر سر سلبه والله الغني عن أخذه وهما أشد الخلق فقرا إلى بقائه! وأظرف منه إبقاء هرم لا يدري معنة البقاء وليس له فيه إلا مجرد أذى! ومن هذا الجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم وتوسعته على الكافر الأحمق. وفي نظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها فيبقى مبهوتا.

بقلم: ابن الجوزي
296
نشوء دولة التتار ج1 | مرابط
تفريغات

نشوء دولة التتار ج1


في هذه المحاضرة ألخص ما حدث في هذه الفترة من أحداث وأسأل الله عز وجل أن يمكننا من استعراض كل الأمور بإيجاز نتحدث اليوم عن ظهور قوة جديدة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري هذه القوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة

بقلم: د راغب السرجاني
689
مزايا العقيدة الإسلامية | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

مزايا العقيدة الإسلامية


إن عقيدتنا الإسلامية جمعت الكثير من المزايا التي تضعها في مكانة عالية مقارنة بجميع العقائد الأخرى وفي هذا المقال يذكر لنا الشيخ محمد صالح المنجد بعض مزايا العقيدة الإسلامية مثل موافقتها لفطرة الإنسان وثباتها على مر الأزمان ووضوح أدلتها أمام الجميع تبعد المسلم عن الشك والوهم وتوحد صفوف المسلمين وغير ذلك

بقلم: محمد صالح المنجد
2039
صراع الهوى والإيمان | مرابط
اقتباسات وقطوف

صراع الهوى والإيمان


المؤمن يتصارع إيمانه وهواه فقد يطيف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه فيغلبه هواه فيصرعه وهو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه فلا تصفو له لذتها ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه فيثب يعض أنامله أسفا وحزنا على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه عازما على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة.

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
260
هل يسجن الجمال المرأة | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف المرأة

هل يسجن الجمال المرأة


إن المرأة مخنوقة بالثقافة الصورة التي يضع الإعلام معاييرها ويصدر مشاهيرها من ممثلات هوليود وغيرهن كثير من مشاهير المطربات ورموز السيدات من الطبقة الثرية فتطارد النساء هذه المعايير المزيفة في لهث دون أن ينتبه إدراكها إلى أن ما يعرضه الإعلام معدل عليه مسلط خلاله شتى أنواع الإضاءات والألوان وأدوات التجميل والزيف السينمائي

بقلم: أمل الصالح
604
مفاهيم تحتاجها الأمة ج1 | مرابط
تفريغات

مفاهيم تحتاجها الأمة ج1


وأنا سأطرح بعض المفاهيم التي أشعر أن الأمة بحاجة لها وأخاطب بها كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا حاكما كان أو محكوما عربيا كان أو عجميا قريبا كان أو بعيدا يعيش في بلد محتل أو حر

بقلم: د راغب السرجاني
642