الاغترار بالدنيا

الاغترار بالدنيا | مرابط

الكاتب: ابن القيم

988 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وأعظم الخلق غرورا من اغتر بالدنيا وعاجلها، فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة، حتى يقول بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أحسن من النسيئة، ويقول بعضهم: ذرة منقودة، ولا درة موعودة، ويقول آخر منهم: لذات الدنيا متيقنة، ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين بالشك.

وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله، والبهائم العجم أعقل من هؤلاء؛ فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضربت، وهؤلاء يقدم أحدهم على ما فيه عطبه، وهو بين مصدق ومكذب.

فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء، فهو من أعظم الناس حسرة، لأنه أقدم على علم، وإن لم يؤمن بالله ورسوله فأبعد له.

 

وقول هذا القائل: النقد خير من النسيئة.

جوابه أنه إذا تساوى النقد والنسيئة فالنقد خير، وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكبر وأفضل فهي خير، فكيف والدنيا كلها من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة؟

كما في مسند أحمد والترمذي من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع؟»

فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة، من أعظم الغبن وأقبح الجهل، وإذا كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة، فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة، فأيما أولى بالعاقل؟ إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة، وحرمان الخير الدائم في الآخرة، أم ترك شيء حقير صغير منقطع عن قرب، ليأخذ ما لا قيمة له ولا خطر له، ولا نهاية لعدده، ولا غاية لأمده؟

وأما قول الآخر: لا أترك متيقنا لمشكوك فيه، فيقال له: إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله، أو تكون عل يقين من ذلك، فإن كنت على اليقين فما تركت إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب، لأنه متيقن لا شك فيه ولا انقطاع له.

وإن كنت على شك فراجع آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته، ووحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا به عن الله، وتجرد وقم لله ناظرا أو مناظرا، حتى يتبين لك أن ما جاءت به الرسل عن الله فهو الحق الذي لا شك فيه، وأن خالق هذا العالم ورب السماوات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه، ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذبه، وأنكر ربوبيته وملكه، إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة، أن يكون الملك الحق عاجزا أو جاهلا، لا يعلم شيئا، ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا يثيب ولا يعاقب، ولا يعز من يشاء، ولا يذل من يشاء، ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها، ولا يعتني بأحوال رعيته، بل يتركهم سدى ويخليهم هملا، وهذا يقدح في ملك آحاد ملوك البشر ولا يليق به، فكيف يجوز نسبة الملك الحق المبين إليه؟

وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه نطفة إلى حين كماله واستوائه تبين له أن من عني به هذه العناية، ونقله إلى هذه الأحوال، وصرفه في هذه الأطوار، لا يليق به أن يهمله ويتركه سدى، لا يأمره ولا ينهاه ولا يعرفه بحقوقه عليه، ولا يثيبه ولا يعاقبه، ولو تأمل العبد حق التأمل لكان كل ما يبصره وما لا يبصره دليلا له على التوحيد والنبوة والمعاد، وأن القرآن كلامه، وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في كتاب إيمان القرآن عند قوله: {فلا أقسم بما تبصرون - وما لا تبصرون - إنه لقول رسول كريم} [سورة الحاقة: 38 - 40].
وذكرنا طرفا من ذلك عند قوله: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [سورة الذاريات: 21].
وأن الإنسان دليل نفسه على وجود خالقه وتوحيده، وصدق رسله، وإثبات صفات كماله.

فقد بان أن المضيع مغرور على التقديرين: تقدير تصديقه ويقينه، وتقدير تكذيبه وشكه.

 

كيف يجتمع اليقين بالمعاد، والتخلف عن العمل؟

فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهيا غافلا لا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته.

قيل: هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق، فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء وهذا التخلف له عدة أسباب:

أحدها: ضعف العلم، ونقصان اليقين، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها.

وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عيانا بعد علمه بقدرة الرب على ذلك، ليزداد طمأنينة، ويصير المعلوم غيبا شهادة.

وقد روى أحمد في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس الخبر كالمعاينة».
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره، أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع، وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب.

وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة في الدين، فقال تعالى: {منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24]

 


 

المصدر:

ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص36

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
القابلية للاستعمار | مرابط
اقتباسات وقطوف

القابلية للاستعمار


مقتطف للكاتب والمفكر مالك بن نبي من كتاب شروط النهضة يشير فيه إلى موضوع هام وهو القابلية للاستعمار فكثيرا ما يكون استعمار شعب ما ناتج عن قابليتهم للاستعمار أو أن نفوسهم قابلة لوجود مستعمر يمارس عليهم كل صنوف الظلم أما إذا ارتفعت هذه القابلية عن نفوسهم سيأبى الواحد منهم أن يكون تحت حكم مستعمر جائر

بقلم: مالك بن نبي
2560
شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1


كثيرا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش ودعوى فجة مغرورة أن مطالبة المرأة العربية بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين حيث تطور العالم وبلغ في ابتكاراته العلمية الذروة وتطور المجتمع وأصبح أكثر انفتاحا ونضجا لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى عصور الظلام

بقلم: سامي عامري
1081
العقيدة الصحيحة وما يضادها من العقائد الفاسدة ج1 | مرابط
تفريغات

العقيدة الصحيحة وما يضادها من العقائد الفاسدة ج1


إنني لا أريد أن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي السماء من الفلاسفة والمفكرين ولكني أحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئا ما فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا وراءه طويلا

بقلم: عمر الأشقر
909
مختصر قصة التتار الجزء الأول | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الأول


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1682
بدايات حركة السفور وتحرير المرأة | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

بدايات حركة السفور وتحرير المرأة


فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات وصرت مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر

بقلم: محمد جلال كشك
680
نريد أن نعيد المرأة إلى خدرها | مرابط
اقتباسات وقطوف

نريد أن نعيد المرأة إلى خدرها


نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين والصالحات من المؤمنات: الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة واللائي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصون إلى العمل الجدي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي المصون إلى حجابها الذي أمر الله به ورسوله طوعا أو كرها.

بقلم: أحمد شاكر
294