ثغر اللسان

ثغر اللسان | مرابط

الكاتب: ابن القيم

781 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ثغر اللسان

ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:

أحدهما: التكلم بالباطل، فإنما المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم.

الثاني: السكوت عن الحق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس؟

فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق، واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم، وأكبهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر؟

وأوصيكم بوصية فاحفظوها: لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعوانا على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب، واقعدوا لهم كل مرصد، أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت: {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم - ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [سورة الأعراف 16 - 17].

أوما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها؟ وقد حذرهم ذلك رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: «إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها، وقعد له بطريق الإسلام، فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه وأسلم، فقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ فخالفه وهاجر، فقعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة؟»

فكهذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة، وقولوا له في نفسه: أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل وتصير بمنزلته أنت وهو سواء؟ أوما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه، قال: هي أموالنا إذا أعطيناكموها صرنا مثلكم.

واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا: طريقه مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال، وهكذا فاقعدوا له على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها، ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم، وزينوها في قلوبهم، واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم، فنعم العون هن لكم.

ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه.

 

النفس الأمارة

واعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة، فأعيوها واستعينوا بها، وأمدوها واستمدوا منها، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة، فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها، فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة، وانطاعت لكم أعوانها، فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه، ولا تجيئكم بما تكرهونه ألبتة، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله، فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته، وأردتم الأمن من ذلك، فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح، فزينوها وجملوها، وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، وقولوا له ذق طعم هذا الوصال والتمتع بهذه العروس كما ذقت طعم الحرب، وباشرت مرارة الطعن والضرب، ثم وازن بين لذة هذه المسألة، ومرارة تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها، فليست بيوم وتنقضي، وإنما هو حرب متصل بالموت، وقواك تضعف عن حرب دائم.

واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:

أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه.

الثاني: جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم، وحسنوها في أعينهم، وصولوا عليهم بهذين العسكرين، فليس لكم في بني آدم أبلغ منهما، واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة، واقرنوا بين الغافلين، ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحد خمسة، فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة، وشيطان الذاكر معهم، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم - من ذكر الله ومذاكرة أمره ونهيه ودينه، ولم تقدروا على تفريقهم - فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين، فقربوهم منهم، وشوشوا عليهم بهم، وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا له أعوانا على تحصيلها، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور، فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب، فلا تصطادوا بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.

واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور، فخذوا عليه طريق الشهوة، ودعوا طريق الغضب، ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب، فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه، ولا تعطلوا ثغرها، فإن لم يملك نفسه عند الغضب، فإنه الحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه وشهوته، وامزجوا أحدهما بالآخر، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب، وإلى الغضب من طريق الشهوة.

واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين، وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب، فبه قطعت أرحامهم، وسفكت دماءهم، وبه قتل أحد ابني آدم أخاه.

واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، والشهوة تثور من قلبه، وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير، فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة، فإن ذلك يطفئ عنهم نار الغضب والشهوة، وقد أمرهم نبيهم بذلك فقال: «إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بذلك فليتوضأ».

وقال لهم: «إنما تطفأ النار بالماء» ، وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة، فحولوا بينهم وبين ذلك، وأنسوهم إياه، واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب، وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها: الغفلة واتباع الهوى. وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى، فإذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظله ولا تدنوا منه.

والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ويعينهم بها على نفسه، فيقاتلون بسلاحه، ويكون معهم على نفسه، وهذا غاية الجهل. ما يبلغ الأعداء من جاهل... ما يبلغ الجاهل من نفسه

ومن العجائب أن العبد يسعى بجهده في هوان نفسه، وهو يزعم أنه لها مكرم ويجتهد في حرمانها أعلى حظوظها وأشرفها وهو يزعم أنه يسعى في حظها، ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدنيسها، وهو يزعم أنه يعليها ويرفعها ويكبرها.

وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رب مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معز، ومصغر لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبر، ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحفظها، وكفى بالمرء جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه، يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه عدوه، والله المستعان

 


 

المصدر:

ابن قيم الجوزية، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص99

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
شبهة الشر | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات الإلحاد

شبهة الشر


يناقش هذا المقال إشكالية الشر في العالم حيث أنها من أقدم الشبهات والإشكالات التي واجهت العقل الإنساني على مر العصور ويستعرض الكاتب عباس محمود العقاد تاريخ هذه الإشكالية بشكل موجز ثم يعرض لنا الرد عليها أو الحل الذي يسميه حل التكافل في مقابل الحلول الأخرى التي ظهرت في قديم الزمان

بقلم: عباس محمود العقاد
2258
الاحتجاج بزلل العلماء والفقهاء | مرابط
مناظرات اقتباسات وقطوف

الاحتجاج بزلل العلماء والفقهاء


لا ينبغي أن يقف المسلم عند زلة العالم ويحتج بها أو يعتقد فيها رخصة له ليفعل المثل أو يواجه النص الصحيح الثابت بها فهذا ما لا يقبله عقل بالطبع وكل العلماء وكل أهل العلم لهم زلاتهم ولو وقف الواحد منا عند كل ذلة لأنشأ لنفسه دينا جديدا بعيدا عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2165
براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثالث | مرابط
فكر مقالات

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثالث


شكل المذهب الأشعري منهجا جديدا مختلفا عما كان عليه السلف المتقدمون منذ أول لحظة من ظهوره حيث إن الأشعري اعتمد طريقة ابن كلاب ومنهجه في تأسيس العقائد ومن حين أن ظهر المذهب الأشعري باعتباره مذهبا عقديا له أصول وعقائد خاصة اتخذ منه أئمة أهل السنة والجماعة الذين هم أخبر بمذهب الأئمة المتقدمين وأعلم بمدلولاتها موقفا واضحا وعدوه من الفرق الخارجة عن السنة التي كان عليها الصحابة وتلاميذهم ومن جاء بعدهم من الأئمة المتبوعين نتيجة لما تلبس به من أخطاء منهجية وعقدية وفي هذا المقال يضع الكاتب أمامنا أهم...

بقلم: سلطان العميري
1649
التوحيد في حياة الناس | مرابط
تعزيز اليقين

التوحيد في حياة الناس


لقد كانت حياة الناس قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتوحيد الله تعالى في حالة متردية من الجهل وعبادة الأصنام والأحجار والطواغيت ويستطيع الناظر لحياة المسلمين أن يرصد آثار التوحيد في حياتهم من مختلف الجهات المادية والعقلية والعقدية وبين يديكم مقال مختصر يرصد لنا هذه الفوائد والثمار والآثار

بقلم: أحمد خالد العتيبي
764
حب الدنيا والجاه يصدان عن الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

حب الدنيا والجاه يصدان عن الحق


إن فتنة الدنيا وحب الجاه والرياسة من أعظم الأمراض التي تصيب القلب وتسيطر عليه وتصده عن الحق خوفا عليها وأملا في دوامها حتى لو كان الثمن هو الاستمرار في طريق الباطل وحتى لو كان الإنسان مقتنعا في داخله بأن الحق مع الآخر وهذا مقتطف من كتاب هداية الحيارى لابن القيم يتحدث عن مناظرته لبعض علماء النصارى وفيه بيان لهذا المرض الذي صدهم عن قبول الحق

بقلم: ابن قيم الجوزية
2483
الكوارث والذنوب | مرابط
فكر

الكوارث والذنوب


فإن كثيرا من الناس يجهل تنوع أسباب البلاء والمصائب وحكم الخالق في ذلك ويجهل تبعا لذلك تنوع آثار النوازل والمصائب الشرعية والقدرية على من حلت بهم فثمت أمور مهمة يجب إدراكها وإذا تحقق في الإنسان العلم بها عرف أن لا تلازم بين نزول المصائب واختصاص من نزلت به بتعاظم ذنوبه على غيره ممن لم تنزل به مصيبة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
1241