مناظرة فخر الدين الرازي وعالم نصراني

مناظرة فخر الدين الرازي وعالم نصراني | مرابط

الكاتب: فخر الدين الرازي

2200 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

اتفق أني حين كنت بخوارزم، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي: ما الدليل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم؟

فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رددنا التواتر، أو قبلناه لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد، وجب الاعتراف قطعًا بنبوّة محمد عليه السلام، ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول.

فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبيًابل أقول إنه كان إلها.

فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقًا بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب أن لا يكون جسمًا ولا متحيزًا ولا عرضًا وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدومًا وقتل بعد أن كان حيًا على قولكم وكان طفلًا أولًا، ثم صار مترعرعًا، ثم صار شابًا، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديمًا والمحتاج لا يكون غنيًا والممكن لا يكون واجبًا والمتغير لا يكون دائمًا.

 

والوجه الثاني في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيًا على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلها أو كان الإله حالًا فيه أو كان جزءًا من الإله حالًا فيه، فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم! وبالله أنني لأتعجب جداً! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده.

 

والوجه الثالث وهو أنه: إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته فيه، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول: فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهود كان ذلك قولًا بأن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله! ثم إن أشد الناس ذلًا ودناءة اليهود، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز!

وأما الثاني: وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم، فهو أيضًا فاسد، لأن الإله لم يكن جسمًا ولا عرضًا امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسمًا، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضًا كان محتاجًا إلى المحل، وكان الإله محتاجًا إلى غيره، وكل ذلك سخف.

وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله، وجزء من أجزائه، فذلك أيضًا محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبرًا في الإلهية، فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلها، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلهية، لم يكن جزأ من الإله، فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلًا.

 

الوجه الرابع في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى، ولو كان إلها لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور، دالة على فساد قولهم.

ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إلها؟

فقال: الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى.

فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فأقول: لما جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام، فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟

فقال: الفرق ظاهر، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا.

فقلت له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى، فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت: إن مذهبًايؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة
 
الوجه الخامس: أن قلب العصا حية، أبعد في العقل من إعادة الميت حيًا، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلها ولا ابنًاللإله، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام، والله أعلم.

 


 

المصدر:

  1. فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، 231/4
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#فخر-الدين-الرازي
اقرأ أيضا
أنواع الإلحاد | مرابط
فكر الإلحاد

أنواع الإلحاد


في مقال موجز ومختصر يقسم الكاتب البشير عصام المراكشي الإلحاد إلى ثلاثة أنواع وهي: الإلحاد الفلسفي الإلحاد العلمي والإلحاد الشهواني ثم ينتقل إلى أرض الواقع ليكشف لنا مراكز كل نوع من هذه الأنواع فالإلحاد الفلسفي مثلا ينتمي إلى فرنسا والعلمي في أمريكا والشهواني هو الطاغي في بلادنا العربية

بقلم: البشير عصام المراكشي
2334
شخصية القدوة | مرابط
فكر

شخصية القدوة


وأعلى الناس مقاما من حيث المطالب والوسائل والصبر والسعي هم أولو العزم من الرسل ومن بعدهم سائر الأنبياء وأتباعهم وهم درجات عند الله. وأحسن الناس اتباعا لهم ذلك الذي يطلب الطريق الذي سلوكها كلها فيعرف واقع كل منهم وحال قومه وإلى ماذا دعاهم وكيف ومن أين بدأ وكيف تلقوا دعوته وماذا لاقاه من المحن والابتلاءات وكيف تصرف فيها وبماذا كان يتصبر وبماذا كان يدعو الله ويسأله إياه وحاله في السراء والضراء..

بقلم: حسين عبد الرازق
299
المثالية الزائدة | مرابط
اقتباسات وقطوف

المثالية الزائدة


لدنيا ليست كما تظن والناس أيضا ليسوا كما تتخيل ففيهم الكاذب على الله والخائن للناس وفيهم الظالم والجبار والمرتشي وشاهد الزور وفيهم القاتل والسارق إلى غير ذلك مما هو كفيل بعقلنة نظرتك للحياة هذا كله لا إشكال فيه بل الإشكال عند الذين يسبب لهم ذلك صدمة في مثاليتهم

بقلم: م أحمد حسن
467
موقف من حياة سيدنا عمر رضي الله عنه | مرابط
تفريغات

موقف من حياة سيدنا عمر رضي الله عنه


إن كل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله وهو آمر بالمعروف وناه عن المنكر ولهذا كان الصحابة الكرام جميعا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأول وأعظم من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هم أعظم أكابر الصحابة في الإيمان والتقوى كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما

بقلم: سفر الحوالي
479
دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة


الاتصاف بالكمال المطلق إنما يدل في هذا الباب على استحقاق صاحبه للعبادة أما دلالته على توحيد العبادة واستحقاق الله عز وجل أن يفرد بها فمن حيث إن من لم يبلغ هذا الكمال ولم يتصف به لزمه الاتصاف بضده مما ينافي التعبد فطرة وعقلا وعلى هذا فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الجلال والكمال الثابتة للرب -تبارك وتعالى- فإنها أدلة على استحقاقه لأن يفرد بالعبادة إذ لم يشاركه أحد في شيء من ذلك الكمال الإلهي

بقلم: سعود بن عبد العزيز العريفي
2030
مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الثاني


بعدما وصلت الموجة العلمية كل العالم تقريبا والتحديثات قد طالت كل شيء في الحياة ظهرت بعض الأدعياء يقولون أن هذا العالم الجديد لا مكان للدين فيه بل ظهرت نظرية جديدة في الطرف المقابل مضمونها أن الأديان وإن كانت عريقة في القدم لكن تقدمها الزماني لا يكسبها صفة الثبات والخلود بل هو بالعكس يطبعها بطابع الشيخوخة والهرم وينذر بأن مصيرها إلى الاضمحلال والفناء وفي هذا المقال بجزئيه رد على هذه النظرية وتلك الأباطيل

بقلم: محمد عبد الله دراز
1778