من علوم اللغة: النحو

من علوم اللغة: النحو | مرابط

الكاتب: محمد الحسن الشنقيطي

384 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

علم النحو: وهو أقدمها وأشرفها، ومرجعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو واضعه حيث كتب لأبي الأسود الدؤلي رحمه الله كتابه، وكان منطلق هذا العلم. وهذا العلم به إقامة الكلم ومعرفة التركيب، كما قال ابن مالك رحمه الله في كافيته: وبعد فالنحو صلاح الألسنه والنفس إن تعدم سناه في سنه

 

فمن لم يعرفه لا يمكن أن يفهم: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الفاتحة:2]، ولا أن يفهم (لا إله إلا الله)، ولذلك من لا يعرف جزئياته ولا يستطيع إجابة مسائله؛ لا يمكن أن يفتي الناس في كثير من مسائلهم الفقهية. ولذلك حصلت مسألة عجيبة في تاريخ هذه الأمة عرضت على عدد من كبار أهل العلم، فأحجم عنها معظمهم، حتى جاء أهل اللغة، وهم الذين استطاعوا أن يحلوا إشكالها، وذلك في قول الشاعر:

 

فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ ومن يخرق أعق وألأم

أو: وأشأم

فهذا البيت يمكن أن يقرأ على أوجه متعددة:

فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ...

أو:

فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثًا...

 

ويختلف المعنى والحكم الفقهي باختلاف الشكل، فإذا قال:

فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةٌ ثلاثًا...

فإنه لا يلزم إلا طلقة واحدة، وإذا قال:

فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةً ثلاث...

فإن ذلك ملزم لثلاث طلقات. ومثل هذا كثير.

 

وقد حصل للقرافي رحمه الله في قول الشاعر:

ما يقول الفقيه أيده الل ه ولا زال شأنه يزدان

في فتىً علق الطلاق بشهر قبل ما قبل قبله رمضان

أو: بعدما بعد بعده رمضان.

 

فقال: في هذين البيتين مائتان وخمسون مسألة علمية! وكل ذلك راجع ٌ إلى شكل هذين البيتين، وما يتعلق بهما وما يؤخذ منهما من دلالات الألفاظ.

وقد حصل للشاطبي رحمه الله قصة أخرى مع شيخه ابن الفخار أثبتها في كتابه "الإفادات الإنشادات" فيقول: إن الشيخ ابن الفخار اجتمع عليه أهل الحديث ذات ليلة فحدثهم، ثم أراد أن يحمض لهم، والإحماض لدى أهل الحديث: أن يشهدهم قصة أو أدبًا أو شعرًا يزيل عنهم الملل، فسألهم عن معنى قول الشاعر:

رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين

كلانا ناظرٌ قمرًا ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني

 

فلم يستطع أحد منهم أن يحل هذا الإشكال، ومنهم أبو إسحاق الشاطبي، فسألوا الإمام ابن الفخار أن يشرح لهم البيت، فشرحه، وبين لهم أن القمر قمران: قمرٌ حقيقي وقمرٌ مجازي، فالقمر الحقيقي هو قمر السماء، والقمر المجازي هو الوجه، وهو المذكور هنا، وأن النظر كذلك إما أن يكون نظرًا حقيقيًا، أو يكون نظرًا مجازيًا، فعين البصيرة وعين البصر: وأن الرجل أراد ادعاءً أن يجعل الحقيقة مجازًا وأن يجعل المجاز حقيقة، فقال:

رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين

كلانا ناظرٌ قمرًا ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني

 

فعينها عين الحقيقة، وقد انقلبت إلي فكنت أنا ناظرًا بعين الحقيقة وهي التي تنظر بعين المجاز.

فمن لم يكن عارفًا بما يفهم به مثل هذا من اللغة العربية، سيقع في إشكالات لا نهاية لها.

 

وكذلك فإن لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة" ذكر الإشكالات التي يقع فيها الموثِّقُون والقضاة عندما يكتبون الأحكام ويوثقونها، فكثيرًا ما يكتبون ألفاظًا لا تفهم أو لا تؤدي المعنى، أو تكون أوسع مما قاله القائل، وبذلك يقولون على القائل ما لم يقله، ويكتبون عليه ما لم يشهد به، فيقعون في شهادة الزور من حيث لا يشعرون، وذلك لنقص فهمهم للعربية.

 

ومثل هذا في رواية الحديث، فإن كثيرًا من أهل الحديث يروون الحديث بالمعنى، وهي مسألة خلافيةٌ الخلاف فيها مشهور قديم، لكن المشكلة أن بعضهم يلحن في روايته، وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن اللاحن في الحديث أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يقل عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)، وهو لا يلحن قطعًا، فمن قال عليه باللحن فقد قال عليه ما لم يقل، وبهذا يكون أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يُعلم خطر التكلم في العلم إذا لم يكن الإنسان صاحب لسان يمكن أن يعبر به أو أن يروي به.

 

ومثل هذا في القراءة، فإن إقامة قراءة القرآن إنما تكون بما وافق وجها نحويًا، ولذلك قال ابن الجزري رحمه الله:

وكل ما وافق وجه النحو وكان للرسم احتمالًا يحوي

وصح إسنادًا هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان

 

ولذلك فالذين يلحنون في القراءة أو في الحديث كان ذلك جرحًا فيهم لدى كثير ممن سواهم؛ بل اقتضى نبذ روايتهم لدى أكثر أهل العلم، ومن هنا فعدد من الذين تكلم فيهم ما دفعوا عن ثقة ولا عن ضبط، وإنما تكلم فيهم من جهة اللحن؛ كأبي عبد الله بن عدي الحافظ صاحب الكامل، فقد كان يلحن، فتكلم كثير من أهل العلم في روايته بسبب اللحن، مع أنه إمام ضابط حافظ عدل ثقة، لكن تُكلم فيه من جهة اللحن فقط.

 

ومثل هذا ما حصل لليث بن أبي سليم، مع أنه عدل، لكنه كان يلحن، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:

ينادي ربه باللحن ليثٌ لذلك إن دعاه لا يجيب

 

فتكلم فيه بعض الناس من قبل اللحن الذي يقع فيه فقالوا: لا يوثق بروايته للحنه فيها.

واللحن يقلب المعنى كثيرًا، ولذلك فإن أبا الأسود حين كلمته ابنته فقالت: ما أشدُّ الحر؟ قال: أيام ناجر. قالت: أنا متعجبةٌ لا مستفهمة. قال: ما هكذا تقول العرب، هي أرادت: ما أشدَّ الحرَّ! فقالت: ما أشدُّ الحر.

 

ومثل هذا ما حصل للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين عندما أتاه أعرابي فسأله فقال: ما شانك؟ فقال: فدعٌ في رصفي وعورٌ في عيني، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد ما شأنُك؟ فقال: جئت ممتارًا لأهلي. فسأله عمن معه ولحن في ذلك، ثم سأله حين أخبره أن معه ختنه فقال: ومن خَتَنَك؟ يقصد: ومن ختْنُك؟ فقال: حجام كان معنا في البادية. فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد: ومن ختْنُك؟ ومثل هذا في اللحن كثير.

 

ويقال: إن عمر بن عبد العزيز حين كان بالمسجد والوليد يخطب فقال الوليد: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ)، بالرفع، فقال عمر: وددتها والله. ود لو مات عندما قرأها هكذا!

ولذلك فإن سبب قراءة سيبويه للنحو: أنه في البداية اشتغل برواية الحديث، ولكنه قرأ: (ما من أصحابي إلا من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء )، فقرأها هو: ليس أبو الدرداء، فلحنه أصحابه وهزءوا به، فعدل عن قراءة الحديث وذهب حتى تمرس باللغة، وألف الكتاب، ثم بعد ذلك روى الحديث.

 

ولذلك فإن مالكًا رحمه الله قد درس النحو على الخليل بن أحمد، فجلس عنده أسبوعًا يلازمه حتى أتقن النحو فيه. والشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة هذيل، وحتى حفظ عشرين ألفًا من أشعارهم، ونحو هذا كثيرٌ جدًا في حال سلفنا، فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم، ولا أن يُفتي في كثير من المسائل.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#النحو #علوم-اللغة
اقرأ أيضا
هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث


ليس من الإنصاف في شيء أن نقول: إن ما وجد في الدين الإسلامي ووجد في اليهودية أو النصرانية أن يكون مأخوذا منها فقد توافق القرآن الكريم الذي لا شك في تواتره وصونه عن أي تحريف والتوراة والإنجيل في بعض التشريعات والأخلاقيات والقصص فهل معنى هذا أنه مأخوذ منها أعتقد أن الجواب بالنفي ومما ينبغي أن يعلم أن الشرائع السماوية مردها إلى الله سبحانه وأن العقائد والفضائل الثابتة والضروريات التي لا تختلف باختلاف الأزمان ولا باختلاف الرسالات أمور مقررة في كل دين

بقلم: محمد أبو شهبة
1556
مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الأول


بعدما وصلت الموجة العلمية كل العالم تقريبا والتحديثات قد طالت كل شيء في الحياة ظهرت بعض الأدعياء يقولون أن هذا العالم الجديد لا مكان للدين فيه بل ظهرت نظرية جديدة في الطرف المقابل مضمونها أن الأديان وإن كانت عريقة في القدم لكن تقدمها الزماني لا يكسبها صفة الثبات والخلود بل هو بالعكس يطبعها بطابع الشيخوخة والهرم وينذر بأن مصيرها إلى الاضمحلال والفناء وفي هذا المقال بجزئيه رد على هذه النظرية وتلك الأباطيل

بقلم: محمد عبد الله دراز
2233
مختصر قصة التتار الجزء الرابع | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الرابع


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1462
كيف كان الرسول يبث الأمل في أصحابه وقت الأزمات | مرابط
تفريغات

كيف كان الرسول يبث الأمل في أصحابه وقت الأزمات


كان صلى الله عليه وسلم يمر على مجالس قريش ويقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فكان يخاطبهم بذلك في الفترة المكة ويبشر المسلمين المحصورين في الفترة المكية بسيادة الأرض وملك العرب والعجم أي: فارس والروم أكبر دولتين في الأرض في ذلك الزمن وكانتا تقتسمان العالم في ذلك الزمن النصف الشرقي فارس والنصف الغربي الروم ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم في زمان الاستضعاف والقهر والتعذيب والبطش والإحاطة من الكفار للمسلمين كالسوار حول المعصم الفترة

بقلم: د راغب السرجاني
933
حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1 | مرابط
تفريغات

حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1


صرح قطز لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار فبدأ الأمراء المماليك يترددون فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلا رائعا في فهمه للإسلام ويعطي لهم قدوة راقية في الجهاد لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار ويكون مع جنوده في قلب المعركة ولن يرسل جيشا ويبقى هو في عرينه بمصر بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون ويتحمل ما يتحملون ولو أرسل قطز جيشا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك لتحميس القلوب الخائفة وتثبيت الأفئدة المضط...

بقلم: د راغب السرجاني
702
كشمير القضية المنسية | مرابط
توثيقات

كشمير القضية المنسية


في عام 1947م قررت بريطانيا انسحابها من القارة الهندية بعد تقسيمها إلى دولتين هما الهند وباكستان وتركت بعض الولايات منها كشمير لكي تنضم إلى أي دولة وفقا لرغبة جماهيرها وشعوبها وكانت كشمير ذات أغلبية إسلامية غير أن حاكمها هندوسي فنشأت القضية منذ ذلك الوقت حيث دخلت القوات الهندية واحتلت ثلث الأراضي الكشميرية ثم قامت بممارسة العنف والاضطهاد لمنع الشعب المسلم من المطالبة بتقرير مصيره وقد نشبت بين الهند وباكستان لأجل هذه القضية ثلاثة حروب كانت نتيجتها انفصال بنجلادش عن باكستان وإصدار مجلس الأمن ا...

بقلم: أحمد بن حسين الفقيهي
830