خلاصة في المجاز

خلاصة في المجاز | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

1669 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله وبعد،،
 
مسألة المجاز في العربية والقرآن مسألة تشعب الخلاف فيها، وقد جرت مباحثتها مع بعض الأفاضل، ولا أحب أن أدخل فيها مدخل الجدل والمناظرة، وإنما سأحرص على تلخيص وجهة نظري فيها بهدوء علمي بإذن الله:
 
1-المجاز في جوهره أن يأتي المتكلم لكلمة وضعت لمعنى معين، فيلتقطها ويعبر بها عن معنى آخر، لعلاقة بينهما يدركها الذهن فيلتذّ بها بيانيًا، وإذا كانت العلاقة المشابهة فيسمى المجاز "استعارة" أو غير المشابهة فيسمى "مجاز مرسل"، في تفاصيل أخرى ما هذا بموضعها.
 
2-من أخذ بالقول بنفي أصل المجاز في العربية، أو بإثبات أصل المجاز فيها، فكلاهما اجتهادان سائغان، قال بكل قولٍ منهما أعلام كبار في العلم والسنة.
 
3-من نقل "أصل" المسألة من باب الاجتهاد السائغ إلى باب السنة والبدعة، أو باب الجهل والعلم، كجعل مثبت المجاز مبتدعًا، أو منكر المجاز جاهلًا باللغة؛ فكلامه غير دقيق علميًا.
 
4-القول الذي يرى منع المجاز في القرآن وإثباته في العربية لأن شرط المجاز جواز النفي والنفي في القرآن تكذيب؛ هو -في رأيي- أضعف الأقوال في المسألة، ومن لازمه: هل يثبت المجاز في كلام رسول الله؟ فإن أثبته نقض حجة عدم جواز النفي، وإن نفاه فيه خالف تخصيصه القرآن، ولأن القرآن جرى على معهود الأميين في الاستعمال العربي فما ثبت من أساليب اللغة فالأصل جواز ثبوته في أسلوب القرآن والسنة إلا لمانع ظاهر، وأما حجة "عدم جواز النفي" فليس المراد بها نفي المراد المطلوب بل نفي المراد المتوهم، وهذا نظير نفي التفسير الباطل عن كلمات القرآن.
 
5-من قال أن إثبات المجاز في اللغة أو القرآن يلزم عليه تعطيل الصفات فيقال له: الجهة منفكّة بينهما، فقد وُجِد من العلماء من يثبت المجاز ولا يعطل الصفات، ووجد العكس وهم الذين ينفون المجاز ومع ذلك لم يمنعهم هذا من تعطيل الصفات.
 
فمثال من أثبت المجاز و"الاستعارة" وأثبت الصفات الإلهية سويًا: الإمام الدارمي في نفس كتابه الذي هو من أجل وأعظم ما صنِّف في الرد على المعطلة "النقض على المريسي" أثبت المجاز بل استند عليه في مواضع كثيرة جدًا، ومنهم: شيخ مفسري أهل السنة ابن جرير الطبري استند على المجاز والاستعارة في تفسير التولي والشغف وغيرها، ومنهم: ابن كثير –وتفسيره له جلالة في نفوس أهل السنة المعاصرين- استند على المجاز والاستعارة في تفسير ملكية الدنيا وإضافة الإرادة للجدار في قصة الخضر، وغيرها. وغيرهم كثير من أئمة أهل السنة الكبار والمقصود هنا التمثيل فقط.
 
وأما من نفى وقوع المجاز ولم يمنعه ذلك من تعطيل الصفات الإلهية: فمنهم الاسفراييني (أشعري)، أبو علي الفارسي (معتزلي). والظاهرية نفوا المجاز في القرآن وابن حزم معطل، وله تفصيلات أخرى يميل فيها لكون استخدام القرآن حقيقة وغيره يمنع من نقل اللفظ لمعنى آخر، ومع هذا جهّم ابن حزم دلالات نصوص الصفات حتى جعل صفة الاستواء معناها "الانتهاء"، ومعنى استوى على العرش أي انتهى خلقه إليه فليس بعد العرش شيء، فإذا كان هذا في الاستواء المشهور كلام السلف فيه فكيف بغيره.
 
6-يقال لمن احتج بأن "المجاز سند للمعطلة"، بأنه ليس بحجة لهم، بل هم استغلوه بالباطل، كما استغلوا دليل العقل، ودليل القياس، قديمًا، وليس هذا حجة لإبطالهما، بل كان المنهج الحق بيان انفصال الدليلين عن دعواهما، وكما استغل عبيد الثقافة الغالبة حديثًا دليل المصلحة ومقاصد الشريعة ونحوها، وليس هذا مدعاة للتنصل منهما. وهكذا أيضًا: كما احتج رؤوس الغلاة اليوم بوجوب تحكيم الشريعة ومنع تولي الكفار لسفك دماء المسلمين، فلا نترك التوحيد لأجل توظيف الغلاة له، فالقاعدة "لا يترك الحق لاستغلال المبطل له".
 
7-ضلال المعطلة المتذرعين بالمجاز لا يقابل بأن المجاز غير موجود، بل يقال لهم: أن شرط المجاز قيام القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وتأويلاتكم للصفات الخبرية والاختيارية لا قرينة فيها صحيحة تمنع المعنى الحقيقي، بل القرائن قائمة على إثبات النقيض.
 
8-كثرة ربط أيلولة المجاز للتعطيل قد ينتج العكس، لأنه سيظن بعض الناس أنه إذا ثبت المجاز وجب التعطيل، فإذا رأى عامة علماء اللغة والأصول والبيان والتفسير وشراح الحديث لا يشكون في الاستعارات أورثه هذا قوة القول بالتعطيل لظنه التلازم بينهما، فإيضاح انفكاك الجهة بين المجاز والتعطيل أنصر للإثبات من التعطيل، وإيضاح أن دعواهم المجاز في نصوص الصفات لا ينطبق عليها شروط المجاز أمكن في رد الشبهة من نفي أصل المجاز.
 
9-يختلف القول في أصل المجاز عن القول في فروعه وتفاصيله، فمن قال بأصله لا يلزمه أن يقول بكل تفاصيله التي يذكرونها في علوم البيان والأصول وغيرها.
 
10-إذا تأمل الباحث في أن أصل الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه ووجه شبهه وأداته، لم يبق لديه تردد أن المستعار منه نقل من أصل معناه وإلا لم يصح التشبيه، ومثاله: قولنا الفقيه الفلاني كالبحر في العلم، ثم قولنا: ألقى البحر فلان درسًا عظيمًا. فإذا قارنت المشبه به في الأولى بالمستعار منه في الثانية تبيّن أن المستعار منه نُقِل من أصل معناه وإلا لم يصح التشبيه في الأولى لأن المشبه به لا يشبه بنفسه.
 
11-الحجة التي تقول "أن العرب وضعت هذه الكلمات المجازية لهذا المعنى حقيقة" يردّه أن الكُتّاب والمصنّفون ما زالوا طوال العصور يبتكرون ويفتنّون في ألوان الاستعارات في ألفاظ ومعانٍ حادثة أصلًا، ومن عانى الكتابة والتأليف الأدبي يعرف ذلك من نفسه، كقولنا مثلًا "الجهم بن صفوان طاحونة المحدثات" فهل العرب وضعت كلمة الطاحونة لمن يكون منبع فكر معين؟
 
12-الذي لاحظته من الدراسات الحديثة في الاستعارة أنها ليست ظاهرة مختصة باللغة العربية أصلًا، بل هي عمل عقلي في الوضع اللغوي في أصل الذهن البشري وجماليات اللسان، ولذلك كل اللغات يوجد فيها ظاهرة الاستعارة، ويفتنّ أدباؤها في ذكاء نقل الكلمات من أصل وضعها للمزيد من الإيحاءات.
 
والمجاز والاستعارة في لغة العرب وأدبها وشعرها ونثرها فيه من العبقرية ما يجعل المرء أحيانًا يتوقف وهو يقرأ، لا يدري كيف يعبر عن دهشته وذهوله، حتى يشعر بشيء يتزاحم في حلقه لا يدري ما هو، فما في تاريخ العلوم أعجب من بلاغة لسان العرب وبيانهم.
 
والله أعلم،،

 


 

المصدر:

http://saaid.net/Doat/alsakran/83.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #المجاز
اقرأ أيضا
نشوء دولة التتار ج1 | مرابط
تفريغات

نشوء دولة التتار ج1


في هذه المحاضرة ألخص ما حدث في هذه الفترة من أحداث وأسأل الله عز وجل أن يمكننا من استعراض كل الأمور بإيجاز نتحدث اليوم عن ظهور قوة جديدة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري هذه القوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة

بقلم: د راغب السرجاني
671
الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة | مرابط
فكر مقالات الإلحاد

الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة


من الملاحظات التي يمكن رصدها في كثير من الكتابات الإلحادية الحديثة أنها تتبنى رؤية جبرية مغالية في تفسير وقوع الأفعال الإنسانية ففكرة الإرادة الحرة وهم والإنسان في حقيقته مجبور على أفعاله وإن أحس أنه مختار لها أو كما عبر بعض الجبرية في الكتابة التراثية: الإنسان مجبور في صورة مختار

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
3027
المعاصي تجرئ على الإنسان أعداءه | مرابط
اقتباسات وقطوف

المعاصي تجرئ على الإنسان أعداءه


قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي وكذلك يجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه حدود الله وتجترئ عليه نفسه فتتأسد عليه وتصعب عليه فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبي

بقلم: ابن القيم
930
عن ركعات قيام الليل | مرابط
مقالات

عن ركعات قيام الليل


قيام رمضان لم يؤقت النبي فيه عددا معينا بل كان هو لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد على الركعات

بقلم: حسين عبد الرازق
416
كيف تبحث قضية نشأة العلوم وتطورها؟ | مرابط
أبحاث

كيف تبحث قضية نشأة العلوم وتطورها؟


يعتمد كثير من الباحثين في الحديث عن نشأة العلوم وتطورها على التدوين والكتابة في العلوم فتراه يحدد نشأة العلوم ومراحلها بناء على حالة التدوين فيها فيحكم على أن علما ما نشأ في وقت كذا لأجل أن كتابا معينا ألف في مسائله ويحكم على أنه تطور إلى مرحلة ما لأجل أن نوعا من الكتب ظهر في معالجة مسائله. ولا شك أن حالة التدوين والكتابة في العلم تعد معلما من أهم المعالم المفسرة لنشأة العلوم وتطورها ولكنها ليست المعلم الوحيد فهناك مكونات أخرى لا بد من مراعاتها في دراسة نشأة علم العقيدة وتحديد مراحل تطوره.

بقلم: سلطان العميري
336
التنكيت على الطقس؟ | مرابط
مقالات

التنكيت على الطقس؟


يقول الدكتور إياد قنيبي: مع استمرار الشتاء أكثر من المتوقع هذا الفصل والحمد لله سمعت من اثنين من الإخوة عبارات لم أرتح لها فاستفتيت صديقا لي من أهل العلم فيهما وأود مشاركتكما الفائدة.. وهذا مقال موجز فيه تعليق على إشكالية التنكيت على الطقس.

بقلم: د. إياد قنيبي
373