فن أصول التفسير ج9

فن أصول التفسير ج9 | مرابط

الكاتب: مساعد الطيار

634 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

اختلافات التفسير

نرجع إلى الفقرة الأخيرة: الاختلاف في الأسباب والأنواع وطرق التعبير عن التفسير، وسنأخذ منها قسمين القسم الثاني والثالث؛ لأنها ألصق بموضوع التدبر.

الإشكالية في هذا الموضوع الذي هو قضية الاختلاف، أن الموضوع يحتاج إلى مقدمات، فعندما تتكلم عن أنواع الاختلاف، وكيفية معالجة الاختلاف، هذا موضوع طويل جدًا.

وهنا أنبه على قضية مهمة جدًا تتعلق بقضية طلب العلم، فالملاحظ أن الذين يحضرون الدورات كثر، ويحرصون عليها، ويواظبون، ويكتبون، ويسجلون، لكن تقع الإشكالية في عدم المتابعة، وعدم المذكرة والمراجعة، فلا يستفيد الإنسان من هذه الدورات إذا خرج منها، ولم يتابع القراءة بنفس الموضوعات التي أخذها، فيحاول أن يجتهد في تطبيق ما أخذ، خصوصًا أن في بعض الدورات تكون عنده دورات تطبيقية، بإمكانه أن يقوم بقراءة، وعمل نماذج على نفس الطريقة التي أخذها، فهذه الدروس المتعلقة بالاختلاف من الأشياء التي يمكن تطبيقها، ولننظر الآن شرحًا موجزًا يتعلق بالاختلاف.

قد يقول قائل: الاختلاف يقابله الإجماع، فلماذا لا نتحدث عن الإجماع؟ الإجماع له حديث خاص، لكن نحن بحاجة إلى فهم الخلاف أكثر من حاجتنا إلى ما وقع فيه الإجماع، فالذي ما وقع فيه إجماع لا يقع فيه إشكال، والذي يقع فيه خلاف يقع فيه إشكال، كيف نتعامل مع هذا الاختلاف؟

 

أسئلة لا بد منها عند وجود اختلاف في التفسير

الاختلاف إذا جاءنا مثل: قال فلان، قال قتادة، قال مجاهد، قال ابن عباس، قال ابن مسعود، أنت أمام أقوال متعددة، إذا نظرت إليها، أول ما تسأل نفسك هذا السؤال: هل هذا الاختلاف يرجع إلى معنى أو إلى أكثر من معنى؟

ستفكك هذا الخلاف، وبقي عندنا إشكال ستقول لي: كيف أعرف أن هذا يرجع إلى معنى، وهذا يرجع إلى أكثر من معنى؟ الذي يرجع إلى معنى في الغالب يكون التعبير فيه عن اللفظ بمعانٍ متقاربة، أو يكون تعبيرًا عن اللفظ بمثال له، أو يكون تعبيرًا عن اللفظ بلازمه، أو يكون تعبيرًا عن اللفظ بجزء من معناه، أو يكون تعبيرًا عنه بنوع من أنواعه، وهذه كلها تدخل؛ لأنها ترجع إلى معنى واحد، وكل واحدة من هذه تحتاج إلى مثال، ولعلنا نكتفي ببعض الأمثلة لبعض هذه الأنواع التي ذكرناها.

النوع الأول: الذي يرجع إلى معنى واحد، والنوع الثاني يرجع إلى أكثر من معنى، فإذا رجع إلى أكثر من معنى تنظر فإن كانت المعاني معنيين، وهذا هو الغالب، فهل إذا قيل بأحدهما يبطل الآخر أو لا؟ فإذا بطل الآخر نسميه اختلاف تضاد، وإذا احتملت الآيات كل الأقوال نسميه اختلاف تنوع.

إذًا: إذا كان لها أكثر من معنى، فالتضاد لا يؤثر في الاختلاف، بمعنى: أنه قد نبطل أحد الأقوال ولا يؤثر، وتبقى الأقوال الأخرى محتملة. فالمقصد من ذلك أننا ننظر إلى احتمال الآية للمعاني جميعًا، فقد تحتملها بصيغة الواو، وقد تحتملها بصيغة أو، وقد لا تحتملها فتكون بصيغة إما!

إذا كانت احتمالاتها بصيغة الواو، فيمكن جمع هذه الأقوال في معنى اللفظ، وإذا احتملتها لكن على صيغة أو، يعني هذا أو هذا، على سبيل التنويع، فهذا قسم ثاني من اختلاف التنوع.

 

اختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنى واحد

نأخذ الآن النوع الأول: الذي ترجع فيه المعاني، ويرجع فيه الاختلاف إلى معنى واحد. أي أنه يعبر عن اللفظ بمعانٍ متقاربة.

ونأخذ له مثالًا: وهو قوله سبحانه وتعالى:  وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:17-18]، وسق واتسق، عندما نرجع إلى قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ)، بعضهم قال: وما جمع، وبعضهم قال: وما حوى، وبعضهم قال: وما ضم، وبعضهم قال: (وما وسق) نجومها وقمرها. وعندما ترجع إلى مادة وسق في اللغة، الواو والسين والقاف، فإنها تدل على جمع، ومنه سمي الوسق وسقًا؛ لأنه يجمع في الموزون.

نأتي الآن إلى هذه الأقوال: جمع.. حوى.. ضم، هل بينها خلاف؟ هي في النهاية ترجع إلى معنى واحد، أما من قال بأن (ما وسق): نجومها وقمرها، فهذا عبر عن نوع؛ لأن النجوم والقمر هو مما يحويه ويضمه ويجمعه الليل.

إذًا هذا تعبير عن هذا اللفظ الذي هو وسق بمعانٍ متقاربة، لكن ماذا أستفيد عندما أعرف أنهم عبروا عن هذا اللفظ بمعانٍ متقاربة، هل يمكن لي أن أضيف أنواعًا أخرى أو ما يمكن بناءً على هذا؟

لما قال:  وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17]، قال: ما جمع، وما ضم، وما حوى، إذًا مما يجمعه الليل ويضمه ويحويه، ليس فقط النجوم والقمر، فأنا يمكن أن أذكر نوعًا من الأنواع التي يحويها الليل، غير الأنواع التي ذكرت، فحينئذٍ عرفت دلالة اللفظ التي هي: حوى، جمع، ضم، وأيضًا عرفت الأنواع التي تدخل في دلالة اللفظ، وبعد ذلك أستطيع أن أضيف ما يدخل ضمن هذه الدلالة، وكذلك أوظفه في حال إفادة السامعين، بمعنى أنك لو كنت تتكلم عن عظمة السماء، وخلق الله في السماء، وعظمته في هذا الخلق، أو تتكلم عن الليل وعظمة الله في خلقه لهذا الليل وما فيه من منافع وما فيه من أمور أخرى، وجئت بقوله:  وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17]، ألا يكون عندك مساحة وقدرة من التعبير الإنشائي في التعبير عما وسق في هذا الليل، عما يجمعه ويحويه هذا الليل، فهذا الليل فيه أشياء كثيرة حواها، فتبدأ تذكر كذا، وكذا، وكذا، ثم يمكن أن تربط هذا بقوله:  وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3]؛ لأن فيه إشارة إلى ما يقع في الليل من شرور، فإذًا الليل يحوي الخير ويحوي الشر، والمتنبي أشار إلى ما يحويه الليل من منافع للإنسان، قال:

وكم لظلام الليل عندي من يد شهدت بأن المانوية تكذب

المانوية: الذي يقولون بأصلين، أصل الظلمة وأصل النور، وأن الظلمة ما يأتي منه إلا الشرور، فالمتنبي يقول: أنتم يا المانوية كذابون؛ لأن الظلمة هذه أفادتني؛ فقد هرب من مصر، من إمرة كافور بالليل، فاستفاد من ظلمة الليل في الهروب، فيقول: أنتم كذابون؛ لأني أنا استفدت من هذا الليل فهربت.

المقصود من ذلك أنه في قوله:  وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17]، تستطيع أن تفسر أو أن تعبر للناس عن بيان شيء من عظمة الله سبحانه وتعالى في ما يتعلق بالليل من خلال معرفتك بمعنى وسق من جهة، وأيضًا ما يمكن أن تدخله من أنواع أخرى في هذه الدلالة.

مثال آخر: هو أيضًا مهم جدًا، بل هو من الأشياء التي تحتاج حقيقة إلى بحث.

عندنا في قوله تعالى:  وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]، أنا أريد أن تنتبهوا للنص القرآني في اختيار الألفاظ، قال:  يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]، الآن وازنوا بين الأبناء والنساء، هل هم في مرتبة واحدة، في طبقة واحدة؟ الابن صغير، والنساء كبيرات، هل كان الواقع أنهم يستحيون النساء؟ لا، كانوا يستحيون الفتيات، فلما قال: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) خالف بين الطبقتين، طبقة المذبوح، وطبقة المستبقى، وأحد المفسرين من براعته، وهو ابن جريج المكي توفي سنة مائة وخمسين، من أتباع التابعين، قال:  وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]، أي: يسترقون نساءكم، يعني يجعلوهن رقيقًا وخدمًا، وهذا القول لـابن جريج لو ناقشناه من جهة اللغة، من جهة مفردة، نقول: الاستحياء في اللغة من الحياة، ولا تدل على معنى استرق من الرق إطلاقًا، فهاتان دلالتان مختلفتان، هذه دلالة وهذه دلالة، إذًا كيف فهم ابن جريج هذا الكلام؟ فهمه من الآية، فقال: هم يستحيون البنات؛ من أجل أن يكبرن فيصرن خادمات، وهذا الفهم هو في الحقيقة لازم المعنى، ودلالة اللازم وفهم اللوازم من الأشياء التي تفتح بابًا من العلم، ومن الاستنباط كبيرًا ونعني بلازم المعنى نتيجة المعنى، ومآل المعنى، وما تأوي إليه، أو ما يأوي إليه هذا المعنى، وهو مجال رحب واسع جدًا، وهو محل للتأمل والتفكر والتدبر.

والأمثلة في هذا الباب عند السلف بالذات كثيرة، فإذًا ماذا نستفيد نحن من مثل هذا في حالة التدبر؟ هو النظر في اللوازم والمآلات والنتائج لهذه المعاني أو الألفاظ التي يذكرها الله سبحانه وتعالى.

وهذه اللوازم أحيانًا قد تكون طريقًا إلى العمل، كيف تكون طريقًا للعمل؟

لما قال الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل:  ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[البقرة:52]، هل مغفرة الله سبحانه وتعالى وعفوه خاص فقط ببني إسرائيل؟ أو هو عام لكل من أذنب؟ هو عام لكل من أذنب، والخبر وإن جاء في بني إسرائيل إلا أنك أيضًا أنت تعلم أنه ما دام عفا عن هؤلاء، وهم من عبيده، فمن باب أولى أن يعفو عنك، وأنت أيضًا من عبيده.

قال:  ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:52]، يعني من لوازم ذلك، أن من لا يشكر الله فإنه قد أخل بجانب الشكر في مثل هذا الأمر في العفو.

فأنت تبدأ تتأمل وتنظر في قضية لوازم المعاني، وهو باب واسع جدًا.

عندنا أيضًا من الأنواع التي ذكرناها جزء المعنى، مثلًا في قوله:  وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31]، هذه مباركًا تحوي أجزاء من المباركية ممكن أن تحكيها، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)، أي: معلمًا للخير، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)، أي: مصليًا له، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)[مريم:31]، أي: تاليًا وقارئًا للتوراة؛ لأنها نزلت في يحيى عليه السلام.

فانظر إلى قوله: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)، تجد أنه لفظ يحتمل أجزاء متعددة، وأنواعًا متعددة، كيف أيضًا نستفيد من هذا؟ يكون ذلك بأن نختار لكل مقام مقالًا، مثلًا: إذا كنت تريد أن تستفيد من قول يحيى عليه السلام:  وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ[مريم:31]، فطلب المباركية أصلًا هو مطلب للمسلم ولهذا من أدعية المسلمين بعضهم لبعض أن يقول: بارك الله فيك، أي: أنزل عليك من بركاته.

فإذا حلت عليك بركة الله سبحانه وتعالى، فإنه قد جعلك مباركًا.

كذلك إذا كنت تتكلم عن بر الوالدين، وبر الوالدين جزء من المباركية للعبد، فأنت ممكن أن تأتي بقضية:  وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31]، أن من أنواع البركة التي وقعت لـيحيى عليه السلام أنه كان بارًا بوالديه، وكذلك تعلم العلم، وتعليم العلم، وإنفاق الجاه، كل هذه تدخل ضمن المباركية؛ لأنها داخلة بالمعنى العام في قوله:  وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31].

فإذًا المقصد من ذلك أننا نستفيد منها توسيع أجزاء دلالة المباركية، والاستفادة منها في حال الوعظ.

كذلك حال التدريس، مثلًا: وأنت تدرس طلابًا في الابتدائي غير ما أنت تدرس طلابًا في المتوسط، غير طلاب الثانوية، غير طلاب الجامعة، غير ما بعد الجامعة، فكل واحد ستعطيه من المقال وأنت تفسر هذه الآية غير ما تعطي الآخر، فهذا يتم من خلال معرفة، أو توظيف مثل هذا النوع من الاختلاف، الذي هو اختلاف التنوع الذي يكون تعبيرًا عن اللفظ بجزء من معناه، فأنت تختار من جزء المعنى ما يتناسب مع من تتحدث معه، والتمثيل للفظ العام بنفس فكرة جزء المعنى.

مثال آخر قوله تعالى:  وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فقوله:  إِنَّ الْحَسَنَاتِ )) قيل: الصلوات الخمس، وبعضهم قال: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وبعضهم قال: الحسنات عام، والصواب: أن الحسنات عام، يشمل أي حسنة يقوم بها الإنسان، لكن قوله: (يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) السيئات هنا خاص بالصغائر؛ لأن الكبائر تحتاج إلى مغفرة الله سبحانه وتعالى، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ( الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ).

فقوله:  إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، ما دام علمت أنه عام، وكنت تريد أن تنصح مثلًا من يتعاطى المخدرات، أو من يشرب الدخان أو عاصيًا لوالديه، أو أو.. إلخ، عندما تتلو عليه هذه الآية تستطيع أن توظف هذا العموم في مثل هذا الأمر فتقول: إن أنت تركت هذا البلاء الذي هو السيئة وعملت الحسنات، فإنها تميت هذه السيئات التي عملتها،  إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].

فإذًا هناك إمكانية لتوظيف مثل هذا حتى في جانب الوعظ والإلقاء والتدريس.

وبالنسبة لقضية التدبر في العموم، يعني: النظر في عمومات القرآن، فإن الأصل هو العموم، في الخبر أو في الحكم، و الطبري له كلام مهم ونفيس في هذا، ومن ذلك ما جاء في قوله سبحانه وتعالى:  إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، فقد نبه إلى أن السلف رحمهم الله تعالى ورضي عنهم كانوا يفهمون من أخبار الله وأحكامه العموم، يعني: الأصل عندهم هو العموم في هذه الألفاظ والأحكام، واستدل بتفسيرهم لقوله:  إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، بقوله: لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، فهذا العموم تستفيد منه في مجالات متعددة.

مثال آخر في قوله تعالى:  لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، هل أحد يستطيع أن يحصي نعم الله عليه؟ لا يستطيع، قال تعالى:  وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فانظر أنت، وأنت تتحدث عن أي نوع من أنواع النعيم، وتأتي بهذه الآية:  لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وتحكي نفس النعمة التي يعيشها الإنسان، فحينئذ يكون لها أثر كبير جدًا عليه، وأنت تقرؤها وتنظر إلى ما أنعم الله عليه به، أنعم عليك بكذا، وبكذا وبكذا، ولا شك أن لها أثرًا أيضًا على نفسك، فيحصل عندك من الشعور بمعنى الآية أكثر مما كان لو كنت غافلًا عما أنعم الله عليك، والدليل على هذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم استدل بهذه الآية وهو يخاطب الصاحبين لما خرجوا كلهم جياعًا يتلمسون أكلًا، وهم أفضل البشر في ذلك الوقت وأفضل ممن جاء بعدهم على الأرض، فالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر ثم عمر، خرجوا يطلبون الأكل، حتى حصل لهم ما حصل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لتسألن عن هذا النعيم )، وهو من تأولات الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:  لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ?[التكاثر:8].

فانظر كيف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الآية مما يعطينا هذه الفكرة التي نتكلم عنها في قضية التدبر، وقضية توظيف هذا التدبر في حال إلقاء الموعظة، وفي حال إلقاء الدرس، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم استغل هذا الحدث وذكرهم بهذه الآية قال: ( لتسألن عن هذا النعيم )، بعد أن شبعوا وأكلوا.

وهذا مثال من أمثلة توظيف هذه الآيات في قضية الوعظ والتدريس، أو حتى في قضية التدبر الذاتي.

 

اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى

نأتي الآن إلى اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى.

قلنا: إن اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، إما أن تحتمل الآية المعاني، وإما أن لا تحتملها، واحتمال الآية المعاني يمكن لنا أن نوظف فيه أداة (أو) للدلالة على التنويع، أو (الواو).

مثلًا قوله سبحانه وتعالى:  وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، ما هو البيت العتيق؟ جاء في آية أخرى:  وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ [البقرة:125]، إذًا البيت العتيق المراد به مكة، الذي هو الكعبة، وهناك من يقول: وهو البيت المعمور على قول، وهنا فائدة: إذا صرت تفسر القرآن والآية فيها أكثر من احتمال، والاحتمالات صحيحة فاحرص جدًا إذا اخترت أحد الأقوال أن تقول: على قول، على وجه؛ لكي تنبه السامع إلى أن هناك معاني أخرى وهي فيها قوة واحتمالية صحة.

وقوله:  وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، قيل العتيق: القديم، وقيل العتيق: المعتق من الجبابرة، ولا زال لفظ العتيق يستخدم حتى في الألفاظ العامة، فتجد العتيق بمعنى القديم، والعتيق بمعنى المعتق من الجبابرة أيضًا لا زال يسمى به؛ ولهذا إذا أعتق رجل مثلًا من الرق يقولون: فلان العتيق، أو عتيق بني فلان أو يسمى بعد عتقه عتيقًا، حتى يكون اسمًا له.

الآن ننظر في المعنى، هل البيت قديم، أو البيت معتق من الجبابرة؟ يعني حماه الله سبحانه وتعالى. وهذا المعتق من الجبابرة ما الذي يدل عليه من الآيات؟

الذي يدل عليه قوله تعالى:  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، وقوله:  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [العنكبوت:67]، فوصفه بالأمان، وأيضًا قصة أصحاب الفيل تدل على هذا القول: أن العتيق هو المعتق من الجبابرة.

أما الآية التي تدل على أنه قديم فقوله سبحانه وتعالى:  إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، فهذا القول له وجه، ودلالة من القرآن، وهذا القول له وجه ودلالة من القرآن. فعندما أجمع بين القولين أقول:  وَلْيَطَّوَّفُوا [الحج:29]، أي: بالبيت القديم، والمعتق من الجبابرة، فيمكن جمعها مع بعض، فهو قديم ومعتق من الجبابرة؛ لأنه فيه هذا وفيه هذا معًا، يعني: الآية تحتملهما معًا من دون تنويع، يعني: هذا وهذا.

نأخذ مثالًا للثاني، في اختلاف التنوع في سورة الطور،  وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:1-5] السقف واحد الذي هو السماء، أو الكعبة أو البيت الذي في السماء، فإذا قلنا: البيت المعمور وأردنا أن نحكي الخلاف نقول: البيت المعمور الذي في السماء أو الكعبة، يعني: هذا بدلالة أو، وهذا محتمل وهذا محتمل، ونحن في مثل هذا لا نرجح، لكن نقول: هذا داخل ضمن احتمال التنوع.

مثال آخر قوله تعالى:  وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6]، المسجور بمعنى الممتلئ، أو المحبوس، أو الموقد، أو الفارغ يعني الأقوال متنوعة.

مثال آخر قوله تعالى:  وَالطُّورِ [الطور:1]، الطور هو مطلق الجبل أو طور سيناء.

إذًا عندنا أمثلة كثيرة جدًا لقضية (أو) هذه، التي على سبيل التنويع، ولاحظوا الفرق بين ما يمكن جمعه وما لا يمكن جمعه على سبيل التنويع، الفرق بينهما أنه في الأول ممكن صياغة الجملة، وأن الآية تحتملها معًا في آن واحد، إذا كانت بالواو، أما إذا كانت بــ (أو) فإنها تحتمل هذه المعاني، لكن على سبيل التنويع، يعني هذا أو هذا.

على سبيل المثال:  وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، لو كنت تتكلم عن تاريخ مكة، وقدم مكة، تختار القول الأول: أن العتيق بمعنى القديم، ولو كنت تتكلم عن الأمن في مكة، تختار القول الثاني، فإذًا أنت وظفت الآية والمعاني الواردة فيها في أكثر من موضوع.

كذلك عندما نأتي إلى (أو)، صحيح أننا نستطيع أن نجمع بينهما، لكن هنا الأصح استخدامك للمعاني الواردة على سبيل التنويع أو بعد أن يثبت عندك أن هذا اختلاف على سبيل التنويع، وهي نفس القضية أن تستخدم المعاني الواردة في الاختلاف في الأماكن المناسبة لها، لكن يحسن دائمًا أن تبين أنها على وجه من التفسير للإشارة إلى وجود وجه آخر صحيح.

 

اختلاف التضاد في التفسير

أما عند اختلاف التضاد الذي هو إما وإما، فليس فيه اختيار، فلا بد من الترجيح، ففي اختلاف التضاد لا بد من الترجيح، وفي اختلاف التنوع يرجع إلى أكثر من معنى ولا يلزم الترجيح، وإن رجحنا فهو من باب تقديم القول الأولى عندي والأقرب عندي فقط، ولا يعني أن غيره ليس بصواب مطلقًا، بل هناك صواب، لكن هذا أقوى منه.

وهناك مثال على اختلاف التضاد، مثلًا قوله تعالى:  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، افترض أنه طلب منك أن تتحدث عن أسرة يعقوب عليه السلام من خلال القرآن، أو قيل لك: تحدث عن إسحاق وأسرته من خلال القرآن، طبعًا يعقوب له جد، وله أب، وله جد تكلم عنهم، وله أبناء وتكلم عنهم، لكن الإشكال في الذبيح:  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، فقوله:  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].

هل تدخلها في قصة إسحاق عليه السلام، مع أن جمهور السلف يقولون: إن الذبيح إسحاق، وجمهور آخر من السلف أيضًا يقولون: إن الذبيح إسماعيل، بمعنى أن كثيرًا من السلف قالوا هذا، وكثير من السلف قالوا هذا، وقضية الجمهور هذه أحيانًا تكون نسبية، لكن كثير من السلف قالوا: إنه إسحاق، وكثير من السلف قالوا: إنه إسماعيل، فأنت إذا ترجح عندك أنه إسماعيل، فمعنى ذلك وأنت تتحدث عن يعقوب عليه السلام، وعن أسرته وعن أبيه وعن جده، عندما تأتي إلى قوله سبحانه وتعالى:  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].

فإنك لا تشير إلى هذا؛ لأنه ترجح عندك أن الذبيح ليس إسحاق؛ لأنه إما وأما، وعندما تتحدث عن إسماعيل عليه السلام، فإنك ستذكر  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ?[الصافات:107]، وتقول: هو إسماعيل وتأتي بما يتعلق بهذا الموضوع، مع الإشارة طبعًا إلى أنه قد قال قوم من السلف وغيرهم: أن الذبيح هو إسحاق، ولكنه قول غير صحيح، يعني مع جلالة من قال به، ابن عباس ورد عنده قول بهذا وقول بهذا، وليس هذا مجالًا لنناقش كيف نحرر هذا الخلاف؟

لكن على العموم، المقصد من هذا أنه كيف نستفيد من هذه الاختلافات إذا وردتنا.

من جهة أخرى فيما يتعلق بقضية الاختلاف، هناك شيء مهم في التعبير عن التفسير، هل هو تعبير بمثال، أو تعبير بلازم، أو تعبير بنتيجة، أو تعبير بمآل، أو تعبير بجزء من معنى.. إلخ؟ بحيث نستطيع أن نوظفه ونستفيد منه حال التفسير.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أصول-التفسير
اقرأ أيضا
نظرة الإسلام للثقة بالنفس | مرابط
فكر

نظرة الإسلام للثقة بالنفس


يقول بعض المنتسبين إلى العلم يقول: إن لفظ الثقة بالنفس لا يجوز وعللوا ذلك بأن على المرء أن يثق بالله في كل شؤونه لا بنفسه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء: ولا تكلني لنفسي طرفة عين ويتناول علم النفس وبعض المختصين فيه من المسلمين هذا اللفظ الثقة بالنفس على أنه ضرورة ملحة لكل مسلم فما حقيقة هذا القول

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر البراك
397
المطالعة | مرابط
فكر مقالات

المطالعة


وقصة البخاري في بغداد أعجب لما جاء البخاري بغداد وقعد للدرس وكان شابا أراد بعض المحدثين أن يختبروا حفظه فجاؤوا بمائة حديث فخلطوا متونها بأسانيدها أي أنهم جعلوا سند هذا المتن لذاك وسند ذاك لهذا ثم جاؤوا بعشرة أشخاص فحفظوا كل واحد عشرة من الأحاديث المخلوطة فلما قعد البخاري للدرس قام أولهم فسأله: ما تقول في حديث كذا وسرد عليه أحد الأحاديث المخلوطة فقال: لا أعرفه فسأله عن الثاني والثالث إلى العاشر وهو يقول: لا أعرفه

بقلم: علي الطنطاوي
1223
الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف

الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان


الابتلاء في هذه الحياة مثل الكأس وكل الناس شارب منه ولا بد لكنه يتفاوت من شخص إلى آخر حسب قوة إيمانه ويقينه وحقيقة نفسه التي يخرجها الله بهذه الامتحانات وهذا من ضمن أسباب إشكالية وجود الشر التي أثارها الكثير من الفلاسفة بين يديكم مقتطف يعالج فيه الكاتب هذه المسألة

بقلم: م أحمد حسن
577
غياب حزم الرجل | مرابط
مقالات

غياب حزم الرجل


دخلت آلاف البيوت صلحا وحكما ومعالجة واستشارة أتدري ماذا خبرت؟ والله ثم والله ثم والله: لا أكاد أذكر مصيبة حلت بأسرة إلا وكان وراءها بشكل مباشر أو غير مباشر غياب حزم الرجل! للأسف نرى أجيالا ذكورهم متأنثين ونساءهم مترجلات رضعوا جميعا من زبالات النسوية فأفسدوا الدنيا والدين

بقلم: مصطفى محسن
217
بين العمل المادي والعمل الإنساني: المرأة أنموذجا | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين العمل المادي والعمل الإنساني: المرأة أنموذجا


لعله قد يكون من المفيد ألا نتحدث عن حق المرأة في العمل أي العمل المنتج ماديا الذي يؤدي إلى منتج مادي سلع - خدمات. ونعيد صياغة رؤية الناس بحيث يعاد تعريف العمل فيصبح العمل الإنساني أي العمل المنتج إنسانيا وبذلك نؤكد أسبقية العمل الإنساني على المادي والطبيعي

بقلم: د. عبد الوهاب المسيري
345
شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض


يقول بعض المعترضين: الحجاب تزمت وتعصب وتكلف في اللباس وتضييق على النفس وإمعان في السير في مضايق الحرج والإعنات هكذا لسان من يعادون الحجاب وينصبون له لواء البغض فهل لكلامهم رصيد من صواب وهل يستحق شيئا من الاعتداد بين يديكم الإجابة على هذه الفرية

بقلم: سامي عامري
919