أما بالنسبة ليوسف عليه السلام: فأنتم تعلمون أن يوسف عليه السلام كان في بلدٍ كافر وأهل جاهلية، وأنتم تعلمون أن يوسف عليه السلام قد علم من الله أن البلد سيقدم على محنة ومجاعة عظيمة سبع سنوات قحط، يمكن أن يهلك فيها الأخضر واليابس، وألا يلقى إنسانًا ولا دابة إلا هلك من القحط، ويوسف يعلم من نفسه أنه قادرٌ على القيام بهذه المسئولية، ثم إن هذه المسئولية تنقطع دونها أعناق الرجال؛ لأنها ليست مسئولية ترف وأنه يقعد على أريكته ويتمدد وينظر الخدم من حوله أن يقوموا عليه، والناس أن يدخلوا عليه ويقبلوا يديه!
لا.. المسئولية هذه مسئولية شائكة جدًا، كيف توفر من زرع سبع سنين قوتًا لسبع سنين أخرى؟ كيف يكون عندك من الاقتصاد والتدبير والحكمة ما تستطيع به أن تقدم للشعوب -ليس شعبًا واحدًا، ليس فقط شعب مصر، وإنما من حوله- ولذلك جاء إخوة يوسف من فلسطين، يطلبون الميرة والمدد، يوسف يريد أن يقوم بعمل إطعام شعب جائع، سبع سنين سيجوع الشعب، وكذلك شعوبٌ أخرى ستكون أيضًا ممن يأتي ليأخذ المير والطعام، هذه مهمة ثقيلة.
يوسف عليه السلام يريد أن يجعل من هذا المنصب وسيلةً للدعوة إلى الله عز وجل، ثم يوسف يعلم أنه لا يوجد هناك من هو أفضل منه للقيام بهذا المنصب وتحمل هذه المسئولية، ولذلك لا توجد شبهة، فيقول الإنسان: أراد المنصب بطمع شخصي ومطمح دنيوي، لا. لأن المسألة صعبة وشاقة ثم هؤلاء كفرة وهو يريد أن يدعوهم إلى الله ولا يوجد أكفأ منه!
ثم إن العزيز أشعره: قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54] فانتهز اللحظة المناسبة وكان حصيفًا في اختيارها، لحظة يطلب فيها المنصب والقيام بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة وليكون مسئولًا عن إطعام شعبٍ كامل وشعوبٍ مجاورة، طيلة سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع، وسبع سنوات من التدبير فهذا ليس ظلمًا أن يطلبه لنفسه، ولا مغنمًا شخصيًا، وإنما هي تبعةٌ يهرب منها عظماء الرجال.
ولذلك قال العلماء: يجوز للمرء أن يطلب المنصب إذا رأى الأمر في يد الخونة أو اللصوص أو الضعفاء، فيجوز أن يتقدم هو وليطلب المنصب لإنقاذ الموقف، فإذا كان بيد من لا يؤدي أمانة، وعلم من نفسه الكفاية وأنه ليس هناك من هو أفضل منه، جاز أن يطلب، إذا كان يعلم لنفسه الأمانة والكفاءة وليس هناك من هو أفضل منه، وهذه الثغرة لا يوجد فيها من يقوم بحقها، ولا يوجد هناك من يلتفت إليه ليطلب منه هذا الطلب، يجوز له هو أن يتقدم.
بل لو كان هناك كافر في هذا المكان أو المنصب أو خائن، ربما يأثم لو لم يتقدم لإنقاذ الموقف، لأنه يريد مصلحة المسلمين، لا مصلحته الشخصية، وكذلك إذا كان مستعملًا على عمل، وهناك عملٌ آخر يرى أنه أنسب له، وأكثر إتقانًا في مجال الدعوة إلى الله أو غيره من الأعمال، أو يرى مصلحةً لم يرها غيره، فلا بأس أن يطلب ذلك إذا أمن الغرور والتطلع الشخصي، يطلب ذلك بتعريض وأدب وليس بفمٍ مفتوح وعنجهية، ويقول: أنا لها أنا لها، وإنما بتعريضٍ وأدب.
فالإنسان قد يكون في موقع فيطلب الانتقال إلى موقعٍ آخر يسد ثغرةً أو يصلح خللًا لعلمه أنه ليس هناك من هو أكفأ منه، دون غرور، هذه هي الحقيقة التي يعلمها باجتهاده، هذا يختلف عن حال من لم يكن لديه عمل أصلًا، فهو يبحث عن عمل، -أقصد بالعمل: المنصب أي: الرئاسة أو من كان له مكانٌ صغير- فهو يقول: ولوني في المكان الأكبر، التهمة هنا موجودة وواضحة، ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر وليست المسألة سعيًا للرئاسة والمسئولية، لا سعيًا للرئاسة المهلكة والمطامع الشخصية الدنيوية، ولا تهربًا من المسئولية التي تستطيع أنت أن تقدم فيها ما تستطيع للإسلام والمسلمين.
المصدر:
- https://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=101689#232299