القدوة التربوية

القدوة التربوية | مرابط

الكاتب: مشاري الشثري

212 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قومٍ إلا برسولٍ يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلًا كرامًا، حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام، فبلَّغ البلاغَينِ وَفقًا لأمر ربه، فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ قالت: (كان خلقه القرآن).

لم يهنأ عليه الصلاة والسلام بنومٍ مذ تهادى إلى سمعه قول الحق تعالى: (قُمْ فأنذر) .. عَقدانِ من الزمان خلت معاجمها من تصاريف الراحة والسكون، فالعمل هو الحياة، وبعد الفراغِ النَّصَب، وإلى الله الرَّغب، فأنجبت تلك التربية النبوية جيلَ الصحابة، ثم هم رسموا شخوصَ التابعين، فحدَّثتنا سِيَرُهم ضِعفَ ما بُلِّغنا من قولهم.

وهكذا، ما زال الخالف يأخذ عن السالف .. وذِهِ التربية، تصنع المتربي لتجعل منه مربِّيًا، فإن استقامت استقام، وإن اعوجَّت اعوجَّ معها.

مسلك القدوة

إن للتربية أساليبَ وأدواتٍ متنوعة، غير أنها - كلَّها - تقصُرُ دون مسلك القدوة، ولما تمَّ صلحُ الحديبية أمر النبي عليه الصلاة والسلام صحابتَه - رضوان الله عليهم - بأن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فاغتمَّ حتى بثَّ ما أهمَّه لزوجه أم سلمة - رضي الله عنها -، فنطقت بلسان الحكمة وقالت: (يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ ثمَّ لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوَ حالقك فيحلقك) فما هو إلا أنْ نَحَر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه حتى قام الصحابةُ فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا.

ولـمَّا شكى الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم ما يعانونه من رَهَق الجوع، وحسروا عن بطونهم، فإذا الواحدُ منهم يربط حجرًا على بطنه من شدة ما يلاقي من الأسى، بينا هم كذلك إذ يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سِترَ بِطنِه عن حجرين! .. لا حاجة بعد ذلك إلى الكلام وإسداء الخطب.

والمربُّون هم في تربيتهم يُبلِّغون شُعَبًا من شعب هذا الدين، و(المنتصبُ للناس في بيان الدين منتصبٌ لهم بقوله وفعله، فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا بقوله وفعله؛ فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث)[1].

وها هنا جملةُ تقييدات تبحث جوانبَ من موضوع القدوة التربوية، منها:

المحافظة على القدوة

1. بقدر ما يتأكَّد على المربي أن يحافظ على جانب القدوة في تصرفاته فإن عليه أن يكون رساليًّا في هذه المحافظة، وذلك بأن يكون سعيُه لتجويد عمله بوصفه مربيًّا مقتدًى به = مقترنًا برغبة صادقة في تقويم ذاته أولًا، ثم مَن هم تحت يده من المربين، ولا يَكُنْ سعيه ذلك متكلَّفًا يمارس به دورًا وظيفيًّا منزوعَ الرساليَّة، فالمربي حين يخاطَب بأهمية القدوة ومركزيتها في العملية التربوية فإنه مطالبٌ بأن يصلح ذاته ظاهرًا وباطنًا، ليكون لذلك الإصلاح بذورٌ تنبت على محيَّا المربين ونسماتٌ تنطبع على أرواحهم، لا أن تكون غايته تحسين صورته وسمعته في عين وسمع المربِّين، وأثر هذا يستبين مع الأفعال العفوية التي يفرزها موقف طارئ، فيتمايز من كان تكوينه الذاتي مكينًا، وبين من رسم بريشة التكلُّف منصبه من الاقتداء .. نعم، ثمةَ قدرٌ من بلوغ مقام الاقتداء يُنال بتكلُّف الإصلاح، وأطر النفس على بعض الكمالات، لكن هذا التكلُّفَ والأطرَ مرحليٌّ يتجاوزه المربي ليكون ذلك له بعد زمنٍ سجيةً وسمتًا.

المربي عرضة للنقص

2. المربِّي كغيره عرضةٌ للنقص، وهو إنسانٌ يتديَّن على طباعِه، حسنِها وسيئِها، فمهما غالبَ طباعَه فلن تزال عالقةً به، وهو إنما يسعى في ترشيدها لا إزالتها، وإذا تقرَّر ذلك فالمربي القدوة لن يكون مثاليًّا في شتى جوانبه، وإذا علمنا أن العملية التربوية خليطٌ من المهارات والإمكانات، فإن المربي لن يبلغ الغاية في جميعها، وعليه فيمكننا أن نقرِّر بأن القدوة تتجزَّأ، فربما كان المربي قاصرًا في جانبٍ قدوةً في آخر، وهذا إذا فقهه المربي كان عونًا له على مداراة نفسه حين سعيه في إصلاحها وتدرُّجه في تقويمها، وإذا فقهه المتربي كان عونًا له في إفادته ممن تصدَّر لتحمُّل عناء تربيته، بالتأسِّي به في جوانب تميزه والإعراض عن نقائصه.

المحاضن التربوية

3. ثمة ما يمكن تسميته في المحاضن التربوية بـ (القدوة الجماعية)، وذلك أن المربي له صفات ذاتية خاصة به، وأخرى تتعلق بطبيعة علاقته مع غيره، وأخص بالحديث هنا علاقتَه ببقية المربِّين في المحضن، فالمتربون يلحظون من المربي جانبين من جوانب الاقتداء، جانب يتعلق بالمربي ذاته، وجانب يتعلق بعلاقة المربي بغيره من المربين، فقد يكون المربي صالحًا في نفسه متميزًا بإمكاناته بارعًا في تأثيره، لكن علاقته ببقية المربين علاقة مخدوشة تفتقر إلى التكامل في العمل، وربما تعدَّى تأثيره إلى بخس بقية المربين حقوقهم ومنجزاتهم، وهذا له تأثيره السلبي على المتربي، فبدل أن يستفيد المتربي من معالم التميز الموزعة على المربين جميعًا، نراه ينحاز لبعضهم مفضِّلًا لهم على غيرهم، وأصل المفاضلة مشروع، لكن القصد هنا المفاضلة التي ينبني عليها شعبةٌ من التحقير لمنجزات المفضول في نظره.
فعلى المربي أن يلحظ في تربيته مصلحة المحضن التربوي، لا مصلحته الشخصية، وهذا يستدعي منه نظرة تكاملية في طبيعة تربيته يوازن بها بين دوائر القدوة الفردية والجماعية.

قدوة للمربين

4.   كما يكون المربي قدوة لمن يربيهم، فكذلك ينبغي له أن يكون قدوة لسائر المربين، وهذا مجال تنافس بينهم في مجالات البذل والتضحية، فالمربي إذا كان قدوة للمتربي في سمته وخلقه وهمته العلمية والعملية، فهو قدوة للمربين في بذله وعطائه، وكم من مربٍّ نهض بعطائه بالمحضن كله، وهذا هو المربي الراحلة الذي وطِّئت أكنافه للعمل والمثابرة فكان مثالًا عزيزًا على الإصلاح التربوي.

هذه بعض متعلَّقات موضوع القدوة التربوية، والمجال رحب لكثير من الرؤى حول هذا الموضوع، وهو جديرٌ بالعناية من قِبَل المربين، نظرًا لتمثيله مركز التربية الميدانية.


الإشارات المرجعية:
[1] الموافقات للشاطبي (4: 87).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التربية #القدوة
اقرأ أيضا
الانكسار أمام الثقافة الغربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الانكسار أمام الثقافة الغربية


شهدت بلادنا ظهور العديد من التيارات الإصلاحية التي زعمت أنها تحاول الوصول إلى سبل التقدم والنهضة وطريق النجاة لبلادنا ولكن سعيها في النهاية أوصلها إلى الشواطئ الغربية فبدأت محاولات التوفيق بين الإسلام وبين الثقافة الغربية بكل شكل ممكن وبدأت محاولات الإصلاح تحت ضغط هذه الثقافة فأدت في النهاية إلى صورة مشوهة مزعومة للإسلام

بقلم: فتحي عبد الكريم ومالك بن نبي
2068
الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها | مرابط
أباطيل وشبهات فكر الإلحاد

الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها


إن الفهم السقيم الذي يحاول بعض الملاحدة نشره هو أن نفي وجود الخالق أو مجرد تدخله يمكن أن يكون بشرح الآلية التي يعمل بها شيء كان يقال عنه إنه من سنع الله فإن استطاع شخص فهم القوى الفيزيائية المؤثرة على بقاء الأرض أو القمر أو غيرهما في مدارات محددة قال: هذا ما يبقيها إذا وليس الله كما كنت أعتقد

بقلم: سامي أحمد الزين
466
الدليل العقلي عند السلف ج1 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج1


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
385
قبول الأعمال متوقف على صحة العقيدة | مرابط
اقتباسات وقطوف

قبول الأعمال متوقف على صحة العقيدة


قبول الأعمال متوقف على صحة العقيدة فالعقيدة هي الأساس وإذا كان الأساس فاسدا فكل ما بني على فهو فاسد والتوحيد تتوقف عليه النجاة في الآخرة فهويمنع الخلود في النار ولا يخلد في النار موحد وأعظم ما فيه أن من حققه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ويتحرر المخلوق بالعقيدة الصحيحة من رق المخاليق وعبوديته لهم والخوف منهم والنظر إلى مدحهم وقدحهم وهذه قمة العزة في الحياة

بقلم: محمد صالح المنجد
1013
الانغماس في حياة الغرب | مرابط
فكر

الانغماس في حياة الغرب


فبقدر ما تنغمس فيهم بقدر ما تصيبك لعنتهم دون أن تشعر فإما تتنازل عن قيمك وتتخلى عنها فتغوص في الرذائل.. أو تداهن وتوارب في قيمهم فتتورط في كوارث.. أو تنبهر بالتعليم واحترام الخصوصيات و و.. فتصير حاكمية الذوق الغربي أهم من حاكمية الدين ويصير فهم الدين بمعايير الإنسانية أهم من فهمه بمعايير أهل العلم!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
432
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1503