احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم

احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

655 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

 

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن أشرف ما يستثمر باتفاق العقلاء، هو الوقت؛ لأن الوقت هو العمر، وبمقدار ما يستثمر المرء هذا الوقت بمقدار ما تكون له المكانة في الدار الآخرة؛ لأن حياته في الآخرة إنما هي باستثماره لعمره، فإذا ضيعه خسر هناك، وإذا استثمره حق استثماره ربح.

ولا أفضل ولا أجود من ضرب المثال في استثمار الوقت بحياة العلماء؛ لأنهم هم الذين عرفوا شرف هذا العمر، فلذلك نضرب المثل بهم، فهم القدوة، وهم الذين نأخذ عنهم الفتوى.

لقد وجدنا في علمائنا السالفين أشياء يتعجب المرء منها، عندما ينظر إليهم وهم يستثمرون الثواني والدقائق في أعمالهم، وكان يتخلل ذلك كله إخلاص في طلب العلم؛ لذلك استطابوا المعاناة واحتسبوها في سبيل وجه الله تبارك وتعالى في طلبهم لهذا العلم.

 

الحسبة في الطلب

وهذا الذي يفرق بين هؤلاء وبين كثير من الأجيال من بعدهم، وهي مسألة الحسبة في الطلب، فإذا احتسب الرجل جهده في الطلب لا يشعر بأي شيء من المعاناة؛ لأنه إنما يحتسب وجه الله تبارك وتعالى، وأضرب مثلًا بالقصة المشهورة في سبيل التثبت من لفظة واحدة أو من حديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقله هؤلاء العلماء إلى جميع الأمة بعدهم، ولولا ثبات هؤلاء وحسن بحثهم لما كان بأيدينا شيء ذو بال من تراث النبي عليه الصلاة والسلام: من أحاديث وأسانيد وأقوال علماء.

 

التدليس

ذكر ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه المجروحين، عن نصر بن حماد أبي الحارث الوراق، قال: كنا بدار شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فخرج شعبة فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فخرج -أي: بعد ذلك- فوجدني قاعدًا أبكي، فقال: هو بعد يبكي، فقال له: عبد الله بن إدريس إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث، سمعته من عبد الله بن عطاء فغضب ولم يجب، غضب؛ لأن أبا إسحاق السبيعي كان يدلس.

ومعروف أن من أنواع التدليس -وهو تدليس أبي إسحاق السبيعي- أن يسقط الراوي شيخه الضعيف أو الصغير فيعلو بسنده، وقد يكون هذا الرجل ضعيفًا أو كذابًا أو متروكًا، لذلك لم يكن العلماء يقبلون من المدلس حديثًا إلا ما صرح فيه بسماعه من شيخه، وكان من أشد المنكرين للتدليس والمدلسين شعبة بن الحجاج صاحب هذه القصة، حتى أنه كان يقول: لأن أشرب من بول حمارٍ حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس، وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وكان شديدًا جدًا، وكان يقول: التدليس أخو الكذب، فـأبو إسحاق السبيعي كان شعبة لا يأخذ من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع.

وهنا فائدة في خصوص رواية شعبة عن ثلاثة نفر من شيوخه وهم من المدلسين، قال شعبة كما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار بسندٍ صحيح عنه: كفيتكم تدليس ثلاثة: كفيتكم تدليس قتادة، والأعمش، وأبي إسحاق السبيعي، فحيثما وجدت سندًا فيه شعبة عن واحد من هؤلاء ولو قال: (عن) فخذه ولا تعله بالتدليس، أي: إذا وجدت: شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن فلان، فلا تقل: أبو إسحاق مدلس وقد عنعن، لماذا؟ لأن الراوي عنه شعبة، وشعبة لا يروي عن هؤلاء إلا ما ثبت أنهم سمعوه من مشايخهم.

إذًا: يروي شعبة عن هؤلاء رواية خاصة فلا تعل الحديث بتدليس واحد من هؤلاء، وفي صحيح أبي عوانة بسندٍ صحيح قال: عن شعبة قال: (كانت همتي من الدنيا شفتي قتادة، فإن قال: حدثني كتبتُ، وإن قال: قال، تركته)، فلأن أبا إسحاق السبيعي يدلس خاف أن يكون دلس في هذا الحديث فسأله: سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء، فغضب، وغضبه هذا يدل على أنه دلس؛ لأنه لو كان سمع حقيقةً لبادر وقال: نعم. سمعته، فما الذي يجعله يغضب ويتوقف؟! فهذا دليل على أنه لم يسمع، فأصر شعبة على أن يأخذ جوابًا سمعت أو لم تسمع؟ وأَبى أبو إسحاق السبيعي أن يعطيه جوابًا، فقال مصعب بن كدام وكان جالسًا مع أبي إسحاق السبيعي : يا شعبة ! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة -وشعبة هذا بصري- قال شعبة : فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث.

قال: فذهبت، فدخلت على عبد الله بن عطاء فإذا رجلٌ شاب، قلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر قال: نعم. قلتُ له: سمعته من عقبة بن عامر، قال: لا. إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال شعبة : فذهبت إلى مالك فسألته: حج سعد بن إبراهيم هذا العام؟ قال: ما حج العام! قال: فقضيت نسكي وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر، قال: نعم. فقلت سمعته منه؟ قال: لا. إنما حدثنيه: زياد بن مخراق -وهو بصري- قال: من عندكم خرج، حدثني زياد بن مخراق قال شعبة : حديث مرة بصري، ومرة مدني، ومرة مكي، دمر عليه لا أصل له.

قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء عن عقبة بن عامر، قال: نعم، فقلت: سمعته من عقبة بن عامر ؟ فقال لي: إنه ليس من حاجتك! أي: أنه ضعيف، فقال له شعبة فما بد؟ قال: فلا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل، فتغسل ثيابك، ثم تأتيني، قال: فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، قلت: حديث الوضوء، قال: نعم. قلت: سمعته من عقبة بن عامر ؟

قال: لا. حدثنيه شهر بن حوشب، فقلت: شهر عن من؟ فقلت: عن أبي ريحانة عن عقبة به، فقال شعبة : حديث صعد ثم نزل دمر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي.

 

شعبة بن الحجاج

فأنت ترى رحلة شعبة من البصرة إلى مكة إلى المدينة، ثم إلى البصرة لأجل أن يتثبت من حديث واحد فيه هذا الثواب العظيم، كم من الليالي أنفقها شعبة في سبيل طلب صحة هذا الحديث الواحد؟!!

وكان شعبة من أمراء المؤمنين في الحديث -يعني: ممن يحفظون ألف ألف- فكم من الأحاديث له فيها نفس هذه القصة؟ ألف أو ألفان أو أربعة آلاف من ألف ألف؛ لترى أن هؤلاء الناس عندما كانوا يطلبون الحديث كانوا يطلبونه تدينًا لا تكثرًا، لذلك طال نفسهم لحسبتهم، فكان أحدهم يتحمل كل هذا النصب حتى يؤدي إلى أمة النبي عليه الصلاة والسلام حديثًا صحيحًا يتعبدون به جميعًا.

ولذلك فنحن عندما نذكر شعبة بن الحجاج -وقد مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة عام- وغيره من أهل الحديث، فإننا نترضى عليهم أكثر من آبائنا وأمهاتنا، وكان كثيرٌ منهم في المسافات الطويلة بين البلدان يؤجر نفسه خادمًا للقوافل نظير أن يحملوه، فإذا كان مثلًا بصريًا وأراد أن يخرج إلى مكة فإنه يذهب إلى بعض القبائل التي تتوجه إلى مكة، أو بعض القوافل التي تتوجه إلى مكة فيعرض نفسه خادمًا يخدمهم ويقوم عليهم نظير أن يحملوه إلى مكة، وقد يكون قلامة ظفرٍ من هذا الإمام تساوي القافلة كلها؛ لكنه لا يهمه ذلك، والمهم أن يصل إلى بغيته.

 

استثمار الأعمار

فهؤلاء ما كانوا يضيعون أعمارهم، وكانوا يستثمرون العمر بشكل عجيب.

قال ابن أبي حاتم الرازي: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو مضطجع، وهو يمشي، وهو داخلٌ إلى الخلاء.

وذكر ابن الجوزي أن الخطيب البغدادي كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه.

وذكروا عن ابن أبي حاتم الرازي أنه قال: دخلنا مصر فظللنا فيها سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقًا، فكنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلنا ننسخ، حتى ذهبنا إلى بعض الشيوخ، فقالوا لنا: تأجل موعد الدرس، فقلنا: نأكل، فذهبنا إلى السوق فاشترينا سمكة، فما إن ذهبنا إلى الدار حتى حان موعد درس شيخ آخر فتركنا السمكة، وظللنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلينا ننسخ، فمكثنا ثلاثة أيام ما استطعنا أن نقربها -أي: السمكة- ولم نتفرغ لشيها فأكلناها نيّئة، وهذا بسبب أنهم لا يجدون وقتًا.

فإذا نظرت إلى مثل هؤلاء لوجدت أن ابن أبي حاتم الرازي كتب المصنف المسند في ألف جزء، مسند كبير في ألف جزء!! فما يستطيع أن يكتب ألف جزء من مروياته ولا الكتب الأخرى للجرح والتعديل وغيره إلا من كان يعد الدقائق والثواني.

وذكروا عن ابن أبي داود أنه قال: خرجت إلى أبي سعيد الأشج لأكتب عنه -وهذا من كبار مشايخه- قال: فاشتريت ثلاثين مدًا باقلة -يعني (30) كيلو فول- فكنت آكل وأكتب عن أبي سعيد، فما نفد الفول إلا وقد كتبت عنه ثلاثين ألف حديث -يعني: ثلاثون ألف حديث في مقابل ثلاثين كيلو فول- ونحن الآن يمكن أن نأكل كيلو فول في (سندويتش) أو نصف كيلو فول في (سندويتش).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الداروينية: بين الإجماع العلمي والإجماع الشرعي | مرابط
أباطيل وشبهات الإلحاد

الداروينية: بين الإجماع العلمي والإجماع الشرعي


من يعترضون على انتقاد الداروينية أو نظرية التطور لانه لا يجوز مخالفة الإجماع العلمي ويقارنون بينه وبين الإجماع الشرعي الذي لا تجوز مخالفته يقعون في العديد من المغالطات وباختصار يمكن الجواب عليهم من وجوه.. يوضحها الدكتور هشام عزمي في هذا المقال الموجز.

بقلم: هشام عزمي
477
آثار مفهوم النسوية على الأديان ج2 | مرابط
النسوية

آثار مفهوم النسوية على الأديان ج2


آثار مفهوم النسوية في مجالات الدين الإسلامي لقد ظهر تأثر النسوية العربية والإسلامية بالنسوية الغربية جليا واضحا في دعوتها إلى التعامل مع القرآن الكريم بنفس الآليات التي تعاملت فيها النسوية الغربية مع الكتاب المقدس

بقلم: أمل بنت ناصر الخريف
523
اليأس والإحباط في ميزان الإسلام | مرابط
تفريغات

اليأس والإحباط في ميزان الإسلام


ولقد نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات التي مرت بالمسلمين هذا النهج فقد كان يبث الأمل في قلوب المسلمين وكان يغضب كثيرا إذا رأى إحباطا أو يأسا في قلب مسلم مهما كانت المسببات التي تؤدي إلى ذلك ولا يعترف بأي مسبب فلا يجوز للمسلم أن يحبط أبدا لأنه مرتبط برب العالمين سبحانه وتعالى فالإحباط علامة على ضعف في العقيدة وهذا لا يقبل من المسلم أبدا

بقلم: د راغب السرجاني
718
السينما بين الواقع والأحلام | مرابط
فكر مقالات

السينما بين الواقع والأحلام


يقولون أن السينما غير مفروضة على أحد ومن شاء فليذهب ومن شاء امتنع وحقيقة وقفت متعجبا كثيرا عند هذا الكلام كيف سرت إلى نفوس بعض الشباب مثل هذا الفيروس الذي أرسلته التيارات المنحرفة فعبث بمدركات التفكير لدى بعض الشباب الذين هم من أبعد الناس عن التلوث بأي اتجاه فكري منحرف من البدهيات في التصور الإسلامي أن المحرمات ليس فيها من شاء ومن شاء فالمحرم لا بد من منعه وإنكاره نعم بإمكان الشخص أن يقول إنه غير محرم ويبين حجته أما أن تكون حجته لتسويغ الفعل أن من شاء ومن شاء فهذا تفكير غير مستقيم مع القيم...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2522
منزلة المحبة | مرابط
اقتباسات وقطوف

منزلة المحبة


فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى اللهفإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها بل هي حقيقة الإخلاص بل هي نفس الإسلام فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله فمن لا محبة له لا إسلام له ألبتة بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي يألهه العباد ذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له بمعنى مألوه وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له

بقلم: ابن القيم
1141
الحكمة من وجود الشر | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الحكمة من وجود الشر


إن عدم إحسان التعامل مع سؤال لماذا يوجد الشر وتحدث المصائب مع أن الله رحيم أدى إلى شك شريحة من الشباب والفتيات في وجود الله سبحانه وتعالى وبعضهم تجاوز الشك والحيرة إلى صريح الإنكار والجحود وما أكثر ما تغيب الحقائق بسبب النظرة الجزئية ونقص التصور وتعجل الأحكام قبل التأمل مع أنهم حين ألحدوا وتركوا الإسلام هل وجدوا تفسيرا صحيحا لموضوع الشر

بقلم: أحمد يوسف السيد
2272