الإسلام الوسطي المعتدل

الإسلام الوسطي المعتدل | مرابط

يتردد على ألسنة كثير من الناس في عصرنا مصطلح الإسلام الوسطي، أو الإسلام المعتدل، ويقصدون به أننا نتمسك بالإسلام وفق رؤية معتدلة لا غلو فيها ولا تطرف، وهذا المعنى من حيث هو ليس محل إشكال، فالتمسك بالإسلام باعتدال، ونبذ الغلو والتطرف، أو التحلل والتفريط مسلكٌ حسن، ولا يختلف عليه أحد.
 
لكن التعامل مع هذه المقولة لا ينبغي أن يكون بهذه السهولة، وأنها مجرد تعبير عن ضرورة التمسك بالإسلام ونبذ الانحراف عنه بالغلو أو الجفاء، بل نحن أمام سياقات ومضمرات تتضمنها هذه المقولة لا بد من فحصها، وإظهار ما فيها من مشكلات، وسنذكر منها هنا سياقان مهمان:

 

السياق الأول:

 

ما سبب تخصيص الإسلام بهذا الوصف؛ وصف الاعتدال؟ أو بمعنى آخر، لماذا لا يقال: نحن نتمسك بالإسلام، ونتمسك بالسنة، ونتمسك بالشريعة، وإن أحببتَ فأضف: وفق المنهج الصحيح، أو على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أو على منهج السلف الصالح، ونحو ذلك.
 
ما سر تخصيص “الاعتدال” ليكون ملازمًا للإسلام، وكأن الإسلام بحد ذاته لا يكفي للإبانة عن هذا المعنى؟
 
الواقع أن كثرة تخصيص الإسلام بوصف الاعتدال، ونبذ التطرف، له إيحاءات سلبية، فاستحضار هذا الوصف دائمًا عند أي حديثٍ عن الإسلام افتخارًا به، واعتزازًا بقيمه، ودعوة لتحكيمه، والرجوع إليه، يحمل في طياته موقفًا سلبيًا من الإسلام شعر به هذا الشخص أم لم يشعر، فكأن الإسلام أصبح في حالةٍ مشكوك فيها، وأن التطرف والغلو أصبح سمة من سمات الإسلام في عصرنا، فلا بد من التبرؤ منها حتى لا يُساء الظن بصاحبها، فيشترط على نفسه أن تكون دعوته مقصورة على ما يسميه الإسلام المعتدل.
 
جزء من المشكلة هنا وقوع بعض الناس تحت سطوةِ ضغط المكينة الإعلامية الرهيبة في عصرنا التي تسعى لربط الإسلام بالغلو والتطرف، وأسهم في زيادة الإشكال أدوات وعقول من المسلمين رسخوا هذا الانطباع السلبي في نفوس الكثيرين بممارسات مغالية ينسبونها إلى الدين، فجنوا على دينهم وهويتهم وجعلوها محل تهمة وعيب، ثم أسهم آخرون من المسلمين بتأكيد هذا الانطباع السلبي بالحرص على استحضار وصف الاعتدال عند ذكر الإسلام ليتأكد لكثير من المراقبين أن الإسلام من حيث هو لا يمثل قيم الاعتدال والوسطية.
 
والحقيقة أن مثل هذه القيود تتضمن تبرئةً للشخص من وصمة الغلو والتطرف لا الدفاع عن الإسلام، فكأنه يقول: أنا بريءٌ من أي إسلام آخر، وإنما أسير في حياتي وفق إسلام معين هو الإسلام المعتدل الذي يختلف عن غيره، فهو في الحقيقة يزيد من تكريس هذه النمطية الجائرة الفاجرة في الاعتداء على الإسلام من حيث يتوهم أنه يريد الدفاع عنه.
 
إذن، ديننا الإسلامي هو دين الاعتدال، فليس ثم حاجة لأن نقيده بوصف الاعتدال، وحين نقول الإسلام فهو الإسلام بأحكامه وأصوله، هو دين العدل والاعتدال والرحمة والنجاة في الدنيا والآخرة، نفخر بذلك ونعلي الصوت به، ولا نخجل منه ونطأطأ الرأس بسبب ضغط إعلامي يجيء من هنا أو هناك. ووجود من يغلو أو ينحرف لا يعني أن الإسلام أصبح مشبوهًا أو مخيفًا أو غير واضح فلا بد من تخصيصه، فهذه انحرافات عنه يجب بيان حالها وتوضيح زيفها، دون الحاجة إلى جعلها مؤثرة في مفهوم الإسلام نفسه، بحيث يكون الإسلام في حد ذاته محلًا للتهمة، ويصبح الانتساب إليه دون ضوابط وقيود موضعًا للشبهة.

 

السياق الثاني:

 

وهو يتعلق بمفهوم الاعتدال المقرون بالإسلام، فما هو هذا الاعتدال؟
 
يمثل الاعتدال أحد السمات الحاضرة عند مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية المعاصرة، فالكل يدعو إلى الاعتدال ونبذ التطرف، وهذا ما يحتم ضرورة معرفة حدود الاعتدال والمرجعية المحددة له؟ إذ بدون هذا التحديد لن يكون للاعتدال أي معنى، وسيكون قالبًا يمرر من خلاله مختلف الانحرافات في السلوك والتصور، ثم تنسب تلك الانحرافات للإسلام بذريعة أنها تمثل الإسلام الوسطي المعتدل.
 
وضابط معرفة الاعتدال الممدوح هو الشريعة نفسها، فالإسلام يحمل في ذاته جوابا عن حدود الاعتدال، فمن تمسك بالإسلام حقا بأحكامه وتشريعاته وحدوده فهو الواقع في مربع الاعتدال، المبرأ من مظاهر الغلو وصور الجفاء، وليس ضابط الاعتدال مستوحى من معايير خارجة عن الإسلام تحدد للإسلام مفهوم الاعتدال. فليس للمسلم أن يُحكِّم أعرافه وتقاليده، أو أهواءه الشخصية، أو رضوخه لهيمنة ثقافة وافدة على الإسلام فيستخرج من ممارسته هذا مظاهر الاعتدال المنشود والذي يمتدح صاحبه، بل الواجب محاكمة هذه جميعًا إلى أصول الشريعة ومحكماتها، فما كان موافقًا لها فهو الاعتدال، وما كان مخالفًا فليس من الاعتدال ولو ملأ صاحبها فضاء الدنيا حديثاً عن الاعتدال.
 
هذا هو المنهج الذي يجب أن يكون عميقاً في وعي كل مسلم، فلا يكتفي بمجرد رفع لافتة الاعتدال واتخاذه شعارًا، بل يجب فحص هذه الدعوى وفق منهج الشريعة لمعرفة الصحيح من المغشوش.
 
وتلحظ هنا أن شيوع ظاهرة التساهل في اللمز والاتهام بالغلو والتطرف ما يضعف تأثير مثل هذه التهمة في الواقع، فلا يبقى لها ذاك الأثر في صرف الوجوه والقلوب عنه، لأن كل طرف يطلق على الآخر تهمة الغلو، ثم يتفاخر بالانتساب إلى الاعتدال، فالحل لمعالجة إشكالات التطرف والغلو هو في التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لمعرفة مواطن الغلو والتطرف، والجفاء والتساهل، ولندرك موضع الاعتدال حقًا، ونعي دائرته. وهو ما يُحَتِّمُ على كل طرفٍ أن يثبت اعتداله من خلاله التزامه بدلائل الكتاب والسنة، لا من خلال الشعارات والدعاوى الفارغة.
 
 
 
فالجواب يدرك من خلال الجمع بين أمرين:

 

الأمر الأول:

 

أن هذا الاختلاف ليس موجودا في كل القضايا ، بل ثم مواضع محكمة يمثل فيها الاعتدال دائرة من أصابها فهو المعتدل ومن انحرف عنها يمينًا أو شمالًا خرج عن حد الاعتدال، وهم في ذلك على درجات بحسب قربهم وبعدهم من هذه الدائرة.
 
وثم مواضع تحتمل الخلاف المعتبر، والنظر الاجتهاد، ولا يسلب المختلفون وصف الاعتدال ما دام اختلافهم سائغًا وما داموا يعملون في هذه الدائرة، وإن كان الاعتدال في نفس الأمر شيئًا واحدًا، لكن القدرة على إدراكه هنا على سبيل القطع واليقين غير مستطاع، وهو ما يجعل دائرة الخلاف السائغ فضاءً لهذا الاعتدال المنشود، فالاعتدال هنا وإن لم يستبن بشكل واضح عند الجميع، لكن يظل أمره محصورًا في دائرةٍ من الأقوال المعتبرة التي لا يسوغ الخروج عنها.

 

الأمر الثاني:

 

أن ثم منهجية شرعية منضبطة يجب السير عليها طلبًا للأرجح من تلك الأقوال والتي تمثل في عين هذا الطالب موطن الاعتدال.
 
فالخلاف في دعوى التمسك بالكتاب والسنة يمكن حسمه من خلال هذين المعيارين: معيار المحكمات التي لا يختلف فيها، ومعيار المنهج الذي يسار إليه في النظر.
 
فالوسطية والاعتدال في التصور الشرعي هو نتيجة للتمسك بالكتاب والسنة، فمن تمسك بالشرع فهو الوسطي المعتدل، ومن خالفه فليس كذلك، وهي ليست موقفًا يتخذه الإنسان بأن ينطلق إلى نقطة الوسط بين طرفين متخاصمين ويضع نفسه بينهما، وإنما هو أثر وتابع لاتباع الشرع.
 
ومن هنا تدرك أن سبيل الوسطية ليس في اتخاذ موقف الوسط بين كل طرفين، بل هذه الوسطية قد تكون ممدوحةً، وقد لا تكون كذلك، وهو ما يمكن استكشافه وملاحظته من خلال الموقف القرآني من موضوع الوسطية، فالوسطية في ضوء الوحي ليست وسطية واحدة في الحقيقة بل هي وسطيتان، وسطية مطلوبة مرغوبة، ووسطية مرفوضة مذمومة.

 

أمثلة الوسطية في القرآن

 

فمن أمثلة الوسطية المطلوبة في القرآن: وسطية من أنعم الله عليهم من المؤمنين الداعين ربهم بقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)، ومنها أيضًا: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلا)، ومنها أيضًا: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا)، وغير ذلك من شواهد قرآنية تكشف أن موضع الوسط قد يكون ممدوحًا مطلوبًا.
 
وأما الوسطية المرفوضة فمن شواهدها القرآنية ما حكاه الله من أحوال المنافقين: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ)، ومن شواهده أيضًا: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلا)، ومن شواهده في السنة النبوية: «مثل المنافق، كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة».
 
والفرق بين هاتين الوسطيتين في الحقيقة يعود إلى طبيعة الطرفين، فإن كانت وسطًا بين باطلين فهي ممدوحة، وإن كان وسطًا بين حق وباطل فهي مذمومة.
 
والخلاصة: أنه مع زخم الدعاوى والخصومات، وكثرة الطرق على أهمية الاعتدال، قد لا يتفطن المسلم إلى أن بعض هذه الدعاوى تسعى أن تقيد الإسلام بالاعتدال الذي تريده، فالاعتدال عندها وصف خارجي، وقناعات مسبقة متأثرة بمرجعيات مختلفة، تُسَلَّط على الإسلام ليصاغ منه ما يسمونه بعد ذلك إسلامًا وسطيًا معتدلًا.
فصاحب المرجعية الليبرالية مثلًا يضع تصوراته في الحرية التي لا تعتد بأي محظورات دينية، وتبيح العلاقات المحرمة، وينسب قناعته المتشكلة في ضوء هذه المرجعية إلى الإسلام، ويأخذ في الوعظ والتذكير بأهمية الإسلام الوسطي المعتدل، والإسلام براء من هذه الوسطية وذلك الاعتدال.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص270
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول #الإسلام-الوسطي
اقرأ أيضا
كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟ | مرابط
مقالات

كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟


لا تسمح للشيطان أن يحايلك أو لنفسك أن تحايلك وتتحاور معك في ترتيب المعصية.. لا تسمح لهما بذلك أبدا. وطريقك لذلك: بأن تضع قاعدة سلوكية يقينية فتعاهد عليها نفسك وتقول: هذا مبدئي وخلقي. والقاعدة هي: لن أعصي الله أبدا حدث نفسك بهذا. وأما الحوار والمحايلة فهو أن يكون في قلبك وخاطرك أخذ ورد تمهيدا وترتيبا للعصيان.

بقلم: خالد بهاء الدين
1052
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات | مرابط
فكر مقالات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات


نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض أجل وهذه الشعوب نفسها هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية يتقنها ويستجيدها ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على...

بقلم: محمود شاكر
1390
أطفال المؤمنين | مرابط
اقتباسات وقطوف

أطفال المؤمنين


مقتطف جميل من الرسالة التبوكية لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن أطفال المؤمنين وهم أتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا وإنما هم مع آبائهم تبع لهم وقال الله تعالى فيهم: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء

بقلم: ابن القيم
770
الإبداع والانقطاع | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

الإبداع والانقطاع


وما كان لمحمود شاكر أن يستوعب المكتبة العربية قراءة وفحصا واطلاعا إلا حين اعتزل الناس عشر سنوات كاملات كما أخبر عن نفسه! وما كان لك أنت أنت.. يا من تقرأ أن تحظى ببعض الثقافة إلا حين انقطعت سويعات أورثتك طرفا من علم

بقلم: د. علي العمران
433
توجيه النشء بين الأمس واليوم | مرابط
تفريغات

توجيه النشء بين الأمس واليوم


من المؤسف أن تجد كثيرا من الآباء والأمهات اليوم لا يعتنون بتوجيه الناشئة بآداب الإسلام لا في الطعام ولا في الشراب ولا في الدخول ولا في الخروج ولا في دخول الخلاء ولا عند المبيت ولا عند الاستيقاظ لقد تعلمنا كما قلت من عجائز جدات وأمهات ما عرفوا الدراسة ولا يعرفون الألف من الباء.

بقلم: سعد البريك
325
أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج2 | مرابط
فكر

أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج2


يبدو أن موضوع مقاصد الشريعة يحظى باهتمام بالغ في الساحات العربية خصوصا بعد أحداث سبتمبر فالسياسيون اهتموا به لتمرير أجندتهم السياسية والإعلاميون تمسكوا بها لتبرير مخالفة الإعلام للشريعة وكثير من الدعاة تمسك بها من أجل المزيد من المكتسبات سواء لدى عامة الناس أو لدى شرائح الملأ وتولت مقاصد الشريعة مع ظاهرة الخروج عن مألوف الشريعة المعهود لدى المسلمين بحجة نبذ التقليد والعمل بالدليل مهمة تمرير لبرلة الإسلام وعصرنته وكان أخطر ما في الأمر تبني شرائح إسلامية عديدة لهذا الفكر الأصولي الفقهي فكانوا...

بقلم: الدكتور هيثم بن جواد الحداد
1959