تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

1389 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نحن شعوب متخاذلة، قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سِنَةِ النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط، التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة، التي خُلِق من أجلها الإنسان على الأرض.

أجل.. وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية، يُتقنها، ويستجيدها، ويُطهِّرها من أدران البلاء، التي تعصف بإنسانية الإنسان، كما تعصف الريح بأوراق الشجر ؛ فَلِمَ لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية؛ لتزهَى بها، وتبدو في زينتها؟

 

المدنية الأوروبية

هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمَّت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين، كأنما نرى معجزة تحقِّقها أيدي مَرَدَة من الجن، ليسوا من الإنس في أصل ولا نسب.

إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزًا وهلعًا واستكانة  ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة؛ ليعرف كيف يعمل.

إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة تقف على هذه الأرض موقفًا ظاهرًا لمن يتأمل.

هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملؤها حديدًا، ونارًا، وضجيجًا في الأرض، وصخبًا طائرًا في السماء.  والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدَّة مهيَّأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَة متربصة، تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض، ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى؛ لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها.

إن المدنية الأوربية المحدثة في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية ، ودفعتها إلى زيادة التسلُّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كلِّ ما يمسُّ الاستعداد الحربي.

ولا شك في أن هذه الإرادة وحدها- مع الإسراع في تنفيذها- سوف تؤدي حتمًا إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشرِّ جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوِّه وجه الإنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلًا في العالمين.

 

الاستعداد الحربي والحرب الحديثة

ولو أن هذا الاستعداد الحربي العظيم كان نتيجة للدفاع عن مبادئ استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها- لقلنا عسى أن تنتفع الإنسانيةُ بانهزام الباطل، وانتصار الحق، وإن ضحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر، الذين تأكلهم هذه الحروب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإصلاح، تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به.

ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب الحديثة المقبلة إنما هي بغيٌ؛ لقد بغى بعضهم على بعض في العلم؛ فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه [أي العلم المادي] ، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يُستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإرادة، وردَّهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض!.

 

الحرية

هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة (الحرية) من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإبداع، وزخارف الأرض، حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كلُّ غاوٍ وحليم- تثبتُ للناس أن (الحرية) كلمة ضامرة ضعيفة، لا معنى لها، ولا حياة فيها.

ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصرًا ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة- مع كثرة دورانها على الألسنة- مثل الذي شهده في هذا العصر؛ ففي كلِّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السرِّ، وحرية العلن، وعلى حرية الرأي، وحرية الضمير.

في فرنسا- باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كلِّ بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبدُّ به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربي، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة الحرية.

 

السياسة الحربية

إن كلَّ عمل، بل كلَّ رأي، بل كلَّ فكر، بل كلَّ شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها في العلم والفن والأدب، وفي كل شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطًا فاسدًا لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة، تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالحَ كلِّ شيء، وتنفي فساده، وتحريفه، وغلوَّه، وغروره؛ ليكون الانتفاع به أقرب لإنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتدُّ بها إلى وحشية الغرائز الدنيا، التي تتحكَّم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا رويَّة.

هذه الصور الدانية الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية، التي تبني عليها سعادة القلب الإنساني، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية، وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمدُّ كلَّ هذه بأكبر أسباب الفساد، ألا وهو غرور هذه المدنية بعلمها، ورأيها، وفهمها، وادعائها إدراك سرِّ الحقيقة في كلِّ ما تتناوله بالبحث والتحليل.

 

الشرق

أما الشرق فهو الآن يموج، ويهتزُّ، ويمتدُّ بآماله، ويطالب بحرياته؛ فبذلك تُهَيِّئُه ضرورةُ الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتُهيِّئه طبيعتُه الموروثةُ للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها ، وتُهيِّئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية؛ لتعبئة قواه التاريخية كلها؛ فيأخذ الحضارة الحديثة، فيصهرها، ويذيبها، ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى؛ تقوى الله في عمل الدنيا، وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يَسِمُ بها مدنيته الجديدة التي يَتهيَّأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.

 


 

المصدر:

جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (2/809)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#جمهرة-المقالات #محمود-شاكر
اقرأ أيضا
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج1 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج1


سرطان الجهل أقوى بكثير من سرطان الكبد أو سرطان المعدة أو غير ذلك من أنواع السرطانات الجسدية لأن سرطان الجهل لا يهلك الأفراد فقط بل يهلك الأمم ولا تقوم أمة أبدا على الجهل سواء كانت هذه الأمة أمة إسلامية أو أمة غير إسلامية لكن الأمة الإسلامية لا تقوم إلا على نوعين من العلوم ذكرناهما: العلم الشرعي والعلم الحياتي ومن الضروري أن يجمع بينهما المسلم الفاهم: العلم الشرعي والعلم الحياتي ليس بالضرورة المسلم الواحد ولكن الأمة بكاملها

بقلم: د راغب السرجاني
685
النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة


خرج الترمذي من حديث يحيى بن عبيد الله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول الله قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون إزداد وإن كان مسيئا ندم أن يكون نزع وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هشام الرفاعي حدثنا حفص بن غياث عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر دفن حديثا فقال: لركعتان خفيفتان مما تحقرون أو تنفلون يراهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم

بقلم: ابن رجب الحنبلي
1369
مميزات التوحيد في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

مميزات التوحيد في الإسلام


البحث في مميزات تشريع الإسلام في التوحيد وقضاياه من أهم ما ينبغي لطلبة العلم الحرص عليه ﻷن هذا المبحث يعد من أهم الموضوعات التي تبين محاسن الإسلام وتفوقه على كل الأديان وتثبت بأنه دين منزل من عند الله تعالى لا تعبث فيه أيدي البشر كما هو في سائر الأديان فضلا عن أن إدراك تلك المميزات من أهم ما يزيد من تقوية إيمان المسلمين بتوحيدهم لربهم وتمسكهم بدينهم.

بقلم: سلطان العميري
1018
التسليم موقف عقلاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

التسليم موقف عقلاني


المسلم مطالب بالتسليم للأوامر الشرعية كلها طالما ثبت صحتها عنده وليس هناك مجال للاختيار أو عدم الاستجابة ولكن يبقى السؤال: هل هذا التسليم مبني على لاشيء هل هو موقف قائم على العمى المطلق أو هي استجابة تخلو من إعمال العقل الإجابة هي: لا ليس الأمر كذلك كما يدعي أعداء الدين وإنما التسليم الشرعي للنص مبني على أصول عقلية وعلمية يبينها المؤلف في هذا المقال الماتع

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
2152
من معاني البر: واخفض لهما جناح الذل | مرابط
اقتباسات وقطوف

من معاني البر: واخفض لهما جناح الذل


انظر إلى هذه الصورة الرفيعة من خفض جناح للتابعي ميمون بن مهران الذل قال الحلبي: حدثني عمرو بن ميمون بن مهران قال: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة فمررت بجدول فلم يستطع الشيخ يتخطاه فاضطجعت له فمر على ظهري

بقلم: إبراهيم السكران
641
حقيقة التخاطر | مرابط
أباطيل وشبهات

حقيقة التخاطر


عقيدة التخاطر تقوم على فكرة وحدة الوجود وغيرها من العقائد الفاسدة للديانات القديمة وادعاء لإمكانية معرفة الغيب الذي هو ركن من أركان الدين وحاول بعضهم أسلمة هذه العقيدة بنصوص لا تدل على ذلك

بقلم: قاسم اكحيلات
314