تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

1176 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نحن شعوب متخاذلة، قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سِنَةِ النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط، التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة، التي خُلِق من أجلها الإنسان على الأرض.

أجل.. وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية، يُتقنها، ويستجيدها، ويُطهِّرها من أدران البلاء، التي تعصف بإنسانية الإنسان، كما تعصف الريح بأوراق الشجر ؛ فَلِمَ لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية؛ لتزهَى بها، وتبدو في زينتها؟

 

المدنية الأوروبية

هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمَّت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين، كأنما نرى معجزة تحقِّقها أيدي مَرَدَة من الجن، ليسوا من الإنس في أصل ولا نسب.

إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزًا وهلعًا واستكانة  ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة؛ ليعرف كيف يعمل.

إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة تقف على هذه الأرض موقفًا ظاهرًا لمن يتأمل.

هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملؤها حديدًا، ونارًا، وضجيجًا في الأرض، وصخبًا طائرًا في السماء.  والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدَّة مهيَّأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَة متربصة، تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض، ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى؛ لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها.

إن المدنية الأوربية المحدثة في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية ، ودفعتها إلى زيادة التسلُّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كلِّ ما يمسُّ الاستعداد الحربي.

ولا شك في أن هذه الإرادة وحدها- مع الإسراع في تنفيذها- سوف تؤدي حتمًا إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشرِّ جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوِّه وجه الإنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلًا في العالمين.

 

الاستعداد الحربي والحرب الحديثة

ولو أن هذا الاستعداد الحربي العظيم كان نتيجة للدفاع عن مبادئ استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها- لقلنا عسى أن تنتفع الإنسانيةُ بانهزام الباطل، وانتصار الحق، وإن ضحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر، الذين تأكلهم هذه الحروب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإصلاح، تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به.

ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب الحديثة المقبلة إنما هي بغيٌ؛ لقد بغى بعضهم على بعض في العلم؛ فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه [أي العلم المادي] ، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يُستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإرادة، وردَّهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض!.

 

الحرية

هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة (الحرية) من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإبداع، وزخارف الأرض، حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كلُّ غاوٍ وحليم- تثبتُ للناس أن (الحرية) كلمة ضامرة ضعيفة، لا معنى لها، ولا حياة فيها.

ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصرًا ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة- مع كثرة دورانها على الألسنة- مثل الذي شهده في هذا العصر؛ ففي كلِّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السرِّ، وحرية العلن، وعلى حرية الرأي، وحرية الضمير.

في فرنسا- باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كلِّ بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبدُّ به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربي، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة الحرية.

 

السياسة الحربية

إن كلَّ عمل، بل كلَّ رأي، بل كلَّ فكر، بل كلَّ شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها في العلم والفن والأدب، وفي كل شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطًا فاسدًا لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة، تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالحَ كلِّ شيء، وتنفي فساده، وتحريفه، وغلوَّه، وغروره؛ ليكون الانتفاع به أقرب لإنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتدُّ بها إلى وحشية الغرائز الدنيا، التي تتحكَّم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا رويَّة.

هذه الصور الدانية الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية، التي تبني عليها سعادة القلب الإنساني، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية، وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمدُّ كلَّ هذه بأكبر أسباب الفساد، ألا وهو غرور هذه المدنية بعلمها، ورأيها، وفهمها، وادعائها إدراك سرِّ الحقيقة في كلِّ ما تتناوله بالبحث والتحليل.

 

الشرق

أما الشرق فهو الآن يموج، ويهتزُّ، ويمتدُّ بآماله، ويطالب بحرياته؛ فبذلك تُهَيِّئُه ضرورةُ الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتُهيِّئه طبيعتُه الموروثةُ للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها ، وتُهيِّئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية؛ لتعبئة قواه التاريخية كلها؛ فيأخذ الحضارة الحديثة، فيصهرها، ويذيبها، ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى؛ تقوى الله في عمل الدنيا، وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يَسِمُ بها مدنيته الجديدة التي يَتهيَّأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.

 


 

المصدر:

جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (2/809)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#جمهرة-المقالات #محمود-شاكر
اقرأ أيضا
عوائق بر الوالدين | مرابط
تفريغات

عوائق بر الوالدين


إن الله تبارك وتعالى إذا يسر للإنسان البر ورأى دلائله فما عليه إلا أن يشكر فإن الله تأذن بالمزيد لمن شكر إذا وجدت سرور الوالدين بك ورضاهما بما كان منك فاحمد الله عز وجل على نعمته واسأله المزيد من فضله نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر برحمته

بقلم: محمد مختار الشنقيطي
357
من أشراط الساعة: تمني الموت | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أشراط الساعة: تمني الموت


ومن أشراط الساعة: تمني الرجل الموت وجواز ذلك لشدة ما ينزل في الأفراد من فتنة أو ضراء وقد جاء في الصحيح من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيتمنى أن يكون مكانه وفي هذا إشارة إلى أن تمني الموت في بعض الأحيان جائز عند استحكام الشر واستغلاقه وعند شدة الفتن والتباس الأمر يعني: أن يدعو الإنسان أن يقبضه الله غير مفتون وأن يكون مكان صاحب القبر

بقلم: عبد العزيز الطريفي
620
قاعدة الخمس ثواني ج1 | مرابط
ثقافة

قاعدة الخمس ثواني ج1


كتاب اليوم اسمه قاعدة الخمس ثوان the 5 second rule مؤلفة الكتاب هي ميل روبينز والكتاب تحدث عن تكنيك أو خدعة نفسية بسيطة تسميها المؤلفة قاعدة الخمس ثوان والمؤلفة ابتكرت هذه القاعدة أو التكنيك خلال مرحلة سيئة في حياتها حيث سقطت من قمة النجاح إلى قاع الفشل وباستخدام هذا التكنيك عادت الأمور إلى مسارها من جديد وحققت نجاحا أكبر من السابق

بقلم: علي محمد علي
414
تحدي الإله ومعناه | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

تحدي الإله ومعناه


من أنباء الملاحدة الماركسيين أن أحدهم وقف في إحدى محطات الإذاعة فنادى الله: إنه ليتحداه إن كان موجودا لينسفن هذا البلد وليمحون تلك الدولة أو فليعلم الناس جميعا أنه خرافة ليس لها وجود فهذا الملحد الماركسي لا يعقل أن يوجد الإله ويقدر على كل شيء ثم يترك من يتحداه سليما بعد ذلك طرفة عين دون أن ينكل به ويعجل برد تحديه إليه

بقلم: عباس محمود العقاد
1947
الأهواء المتدينة | مرابط
فكر مقالات

الأهواء المتدينة


نتعامل في واقعنا المعاصر مع إشكال جديد يمكن تسميته بالأهواء المتدينة هذا الإشكال يظهر في أن ترك الالتزام بالأحكام الذي هو من جنس التقصير والهوى أصبح محسنا مزينا في نفس المسلم متوافقا مع الدين مقربا إلى الحق فلم تعد تلك المخالفات متضمنة مفسدة المخالفة فقط بل أضيف لها مفسدة التحسين والتزيين للهوى والباطل

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1021
ذروا ظاهر الإثر وباطنه | مرابط
اقتباسات وقطوف

ذروا ظاهر الإثر وباطنه


نهى الله عباده عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن أي: السر والعلانية المتعلقة بالبدن والجوارح والمتعلقة بالقلب ولا يتم للعبد ترك المعاصي الظاهرة والباطنة إلا بعد معرفتها والبحث عنها فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن والعلم بذلك واجبا متعينا على المكلف

بقلم: عبد الرحمن السعدي
321