التسليم موقف عقلاني

التسليم موقف عقلاني | مرابط

الكاتب: عبد الله بن صالح العجيري

2062 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من الأوهام الغليظة تصور بعضهم أن التسليم تأسيس لـ "اللاعقلانية" والدوغمائية والإيمان عن عماية وجهل، وأنه في حقيقته عزل كلي للأداة العقلية في الإنسان لينفتح المجال لمحض التقليد والمتابعة من غير حجة أو دليل، والحق أن التسليم يرتكز في أساسه على معطيات علمية/عقلية، وفي عبارة الصديق رضي الله عنه، على وجازتها واختصارها، تبيان لهذا التأسيس، وتوضيحه فيما يلي:

 

مصادر معرفة الإنسانية كما هو معلوم منحصرة في قنوات ثلاث:

1-العقل
2-الحس
3-الخبر
 

صوابية المعرفة

ولكن من هذه المصادر معايير تقوّم صوابية المعرفة المتحصلة عن طريقها من بطلانها، فأصل تصويب الخبر يقوم على مرتكزين أساسيين:

1-السلامة من الكذب، وضمانته معرفة صدق المخبر
2-السلامة من الوهم، وضمانته معرفة ضبط المخبر
 
ولتحصيل المعرفة بوجود هاتين الضمانتين لا بد من توافر جملة من المعطيات تقوم في أساسها على معطيات عقلية فإذا توافرت هذه المعطيات كان التصديق بالخبر منطلقا عن تأسيس عقلي صحيح.
 
وإذا استصحبنا المعنى السابق اتضح لنا دقة أبي بكر رضي الله عنه حين قال "لئن كان قاله لقد صدق" فمعطى تصدير الخبر عائد إلى طبيعة المخبر، فمع توافر صفة:

-الصدق فيه، صلى الله عليه وسلم
-والعصمة له
 
سيحكم العقل بحق بتصديق الخبر.

 

الأدلة العقلية المفضية إلى الإيمان بالوحي

والأدلة العقلية المتوافرة أثبتت اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين المحوريتين، وعليه فالتسليم بخبره تسليم مرتكز على مبدأ عقلي صحيح، وليس قرارا اعتباطيا يتخذه المؤمن عن عصبية أو جهل أو إيمان بالخرافة والدجل. وقد أطال أهل العلم الكلام في دلائل النبوة وبيان مجالاتها وتنوعاتها (1) لإثبات نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيان وجوب متابعته بناء على دلائل محكمة.

وإذا تدبرت في جل هذه الدلائل وجدتها تدور على مقدمات عقلية صحيحة تفضي إلى الإيمان بالوحي في مجالات ثلاث:

1-حقيقة الوحي: باعتقاد مباينته للمعرفة البشرية، وأنه حاصل من عند الله تبارك وتعالى.
2- ثبوت الوحي: باعتقاد صدق نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول من عند الله تبارك وتعالى.
3-انتقاء ما يعارض دلالة الوحي: باعتقاد أنه حق وما دام حقا فلا يتصور أن يتعارض وحق آخر كدلالة عقلية، بل المعارضة بين الوحي والعقل والحس منتفية قطعًا.
 
والحق أن تفاصيل دلائل هذه المرتكزات الثلاثة التي ينبني عليها التسليم عقلا لأخبار الشريعة؛ مبحث فيه طول، وخصوصًا مع كثرة الشواهد المندرجة تحت كل تدليل

 

ولكن مما يمكن ذكره هنا إجمالا:

 

- أن ما يتصل ببيان ماهية الوحي وطبيعته ينبغي أن يكون مأخوذًا من الوحي ذاته باعتبار خروجه ومباينته للمعرفة البشرية، وهو وإن كان في أصله خبرًا وهو معنى مدرك بالحس والعقل لكن ما يتصل بماهيته وكيفياته وأوضاعه خارج عنهما، وما كان كذلك فلا مجال لمعرفته إلا عن طريقه، وضمان سلامة هذه المعرفة مرهون بثبوت سلامة الوحي ذاته، فمتى ما تحقق واطمأن القلب إليه كان تحصيل المعرفة بالوحي عن طريقه لمعنى معقول، وهو ما يمكن تحصيله من خلال التدليل على ثبوت حصول الوحي وصدق دعوى النبوة، مع ملاحظة مهمة أن العقل وإن لم يكن له مجال عملي صحيح في معرفة حقيقة هذا الوحي لكن له وظيفة في بيان جواز وقوع الوحي، ودفع دعاوى استحالته إضافة إلى ما ذُكر من إثبات صحته في حال وقوعه بإثبات صدق المخبر به.
 
- أما ما يتعلق بثبوت الوحي وحصوله للمعنيين (أنبياء ورسل) فطريقه الأساس طريق عقلي إذ لا يصح أن يكون مستمسك تصديق دعوى النبوة خبر مدعيه فقط، فمدّعو النبوة كذبا كثر ولا بد من أداة خارجة عن خبرهم لفرز أحوالهم وبيان موقع دعواهم من الصدق والكذب، ومن هنا كثر كلام أهل العلم في شرح دلائل النبوة لبيان صدق النبي من المتنبئ كذبًا، وخلاصة ما يذكرونه من دلائل ترجع إلى أصول ثلاثة:
 
1-أحوال النبي صلى الله عليه وسلم
2-معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
3-ما تضمنه الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
 
-فمن خلال النظر في حال النبي، صلى الله عليه وسلم، وسيرته وما يعلمه الناس من أحوال الكاذب والصادق، وتحري هذه المعرفة في شخص النبي، صلى الله عليه وسلم، تعرف صدقه وأن (وجهه، صلى الله عليه وسلم، ليس بوجه كذاب) (2)، ولذا فقد اتكأ النبي، صلى الله عليه وسلم، في مبتدأ دعوته العلنية على حجية هذه المعرفة، فقال لقريش وهو على الصفا: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي"، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (3)

فقد عاش بينهم أربعين سنة، ما جربوا عليه كذبة قط، حتى لقبوه بالصادق الأمين، بل إن الله تعالى أورد عين هذا الاحتجاج على قريش في قوله " قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ" وخاتمة هذه الآية تفتح أفقا لمعرفة صدق النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلال النظر في سيرته وأحواله ومآل أمره، فقد ظل أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، في تعاظم وظهور وفلاح وعز، والله يؤيده وينصره، ويعلي ذكره وشأنه، ولهذا لما أراد هرقل الاستيثاق من شأن النبي، صلى الله عليه وسلم، وسأل أبا سفيان عنه سبر أحوال النبي وقايسها على أحوال الأنبياء والمرسلين فاستبان له أنه صادق، كما في الحديث المطول المشهور، واستكمال هذه النقطة وتوفيتها حقها غير مقصود هنا، وإنما المقصود إيضاح أن في حال النبي، صلى الله عليه وسلم، وسيرته ما يرشد إلى صدقه، وإذا سلم به فالتسليم لخبره موقف عقلاني منطقي.
 
-أما دلالة الوحي ذاته على صدقه وصحته، وصدق النبي، صلى الله عليه وسلم، فهي قضية مقررة عقلًا؛ فالقرآن في ذاته معجزة من أعظم المعجزات التي أوتيها النبي، صلى الله عليه وسلم، فالتحدي به وعجز العرب عن الإتيان بموجبات هذا التحدي مع ما لهم من الكفاءات اللغوية الهائلة دليل بين على صدقه وأنه من عند الله، وكذلك ما اشتمل عليه الوحي من الأخبار الحاضرة المغيبة أو الماضية أو المستقبلية مما لا يقع تحت المعرفة البشرية المحدودة ثم ظهور صدق تلك الأخبار وتحققها؛ دليل آخر من الوحي على صدقه.

وما اشتمل عليه الوحي أيضًا من المعارف والعلوم مما تتقاصر عنها المعرفة البشرية إذ ذاك بل ما لا يمكن أن يكون متحققًا؛ دليل ثالث على صدق الوحي، وهكذا ففي تفاصيل الوحي ما يدل العقل على صدقه فالتسليم له والحالة هذه واحد من مقتضيات العقل السليم. وكما سبق فليس القصد هنا استيعاب البحث في تقرير هذه المسائل وبيان تفاصيل أدلتها (4) وإنما الإشارة سريعًا إلى أن مبدأ التسليم للوحي هو قرار عقلاني واع يتخذه المؤمن عن دراية وتأسيس عقلي صحيح، وهي حقيقة مدركة بوضوح في حياة الرعيل الأول.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. من المؤلفات التي كتبت في هذا الشأن: دلائل النبوة لأبي داود السجستاني، أعلام النبوة لابن قتيبة، دلائل النبوة لإبراهيم بن إسحاق الحربي، دلائل النبوة لأبي بكر الفريابي، دلائل النبوة لابن أبي الدنيا، دلائل النبوة لإبراهيم بن حماد، تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار الهمذاني، إثبات نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، ﻷحمد بن الحسين الزيدي، دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني، وغيرها مما ذكرها المؤلف.
  2. عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة انجفل الناس إليه وقيل قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله، فجئت من الناس لأنظر إليه، ﻹلما استثبت وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب وكان أول شيء تكلم به أن قال أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام
  3. رواه البخاري(4770)، ومسلم(208)، والإمام أحمد في المسند (2802)
  4. ويمكن الرجوع إلى كتاب الشيخ عبد الله القرني(المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها) فإن فيه عرضا حسنا لهذه المسائل ودلائلها على نحو مفصل، مع الجواب عن جملة من الاعتراضات والاستشكالات.

 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري، ينبوع الغواية الفكرية، ص76
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
معنى الحجاب | مرابط
تفريغات المرأة

معنى الحجاب


قالت عائشة عليها رضوان الله تعالى كما روى البخاري و مسلم: رحم الله النساء المهاجرات حينما أنزل الله عز وجل: وليضربن بخمرهن قطعن مروطهن واختمرن بها قال غير واحد من شراح الحديث: إن المراد بذلك أنهن قطعن المروط وغطين بهن الوجوه وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
312
مشروعية الرخصة | مرابط
اقتباسات وقطوف

مشروعية الرخصة


مقتطف للإمام الشاطبي يتحدث فيه عن مشروعية الرخصة حيث أراد الله جل وعلا أن يخفف على المكلفين ويرفق بهم فالأخذ بالرخصة إذن موافق لقصده وعلى الجانب الآخر من يرفض الأخذ مطلقا بالرخصة واقع فيما نهى عنه القرآن وما نهى عنه الرسول وهذا ما يقف عليه الشاطبي في هذا المقتطف

بقلم: الشاطبي
1236
إن الله خلق آدم على صورته | مرابط
اقتباسات وقطوف

إن الله خلق آدم على صورته


هذا الحديث النبوي الشريف إن الله خلق آدم على صورته أشكل على كثير من الناس وتأوله البعض على غير مراده فيما يخص صورة آدم عليه السلام وبين يديكم مقتطف من مختصر تاريخ ابن عساكر جاء فيه تفسير هذا الحديث والمراد بلفظ على صورته

بقلم: ابن عساكر
1222
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1


من الكلمات الجميلة جدا يقول صلى الله عليه وسلم: وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع يعني: عندما تأتي لطلب العلم تقابلك الملائكة في الطريق -وأنت لا تراها لكن هي تراك- فتضع أجنحتها لك تواضعا لك وتعظيما لك وتكريما وتبجيلا لك تقف لك الملائكة في الطريق هكذا لأنك تذهب إلى مجلس علم تلتمس علما انظر إلى عظم الأمر تغيرات كونية هائلة تنزل الملائكة وتضع أجنحتها لا تحرسك فقط بل تتواضع لك وتبجلك وتعظمك

بقلم: د راغب السرجاني
721
أي الناس أنت | مرابط
تفريغات

أي الناس أنت


تقسيم آخر للناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله عز وجل الناس -أيضا- يتفاوتون يقول شيخ الإسلام: فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر واعتذر بأن القدر سبق ذلك وأنه لا خروج له عن القدر فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه وإن أحسن أضاف ذلك لنفسه ونسي نعمة الله في تيسيره لليسرى فإذا عصى قال: شيء مقدر ومكتوب ولماذا تلومونني على ما قدر الله علي من المعصية

بقلم: محمد صالح المنجد
414
في التحذير من فتن إبليس ومكايده | مرابط
اقتباسات وقطوف

في التحذير من فتن إبليس ومكايده


مقتطف لابن الجوزي من كتاب تلبيس إبليس يحذر فيه أهل الإسلام من مكائد إبليس وفتنته ويشير إلى طبيعة الإنسان منذ خلقه حيث ركب فيه الهوى والشهوة وبيده أن يختار طريق الهدى أو طريق الضلال بيده أن يجلب ما فيه نفعه وصلاحه أو ينساق وراء شهواته وحبائل إبليس

بقلم: ابن الجوزي
1654