الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الثالث

الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الثالث | مرابط

الكاتب: محمد المنجد

707 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

اهتمام الشريعة بالطفل

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فقد تحدثنا -أيها الإخوة- في الخطبة الماضية عن حق الطفل في الإسلام، وعما جاءت به الشريعة من الحكم والأحكام بشأنه؛ رفعت من قدره، وجعلت له مكانة وحقوقًا، وذكرنا بأن هذه الشريعة الكاملة لا يعدلها نظام ولا قانون، ولا يصل إلى مستواها تدبير؛ لأنها من تدبير العليم الخبير، الذي خلق النفس ويعلم ما تحتاج إليه وما يصلحها.

ونريد أن نبين أن الطفل في الإسلام حقوقه أعلى من الطفل في الغرب، للذين يتبجحون بأن عندهم للأطفال حقوقًا ليست عند المسلمين، وأن وضع الطفل الغربي أفضل وضع على الإطلاق، لقد قلنا -أيها الإخوة!- وذكرنا بعض الآيات والأحاديث، ومن السنة المطهرة ذكرنا أمورًا كثيرة جدًا مما جاءت به الشريعة بشأن الطفل، لا يوجد له مثيل مطلقًا في قوانين الغرب والشرق، وقد حملت الشريعة الأبوين مسئولية تربية الولد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: [علموهم وأدبوهم].

الأبوان عندنا يندفعان لتربية الطفل خوفًا من الله عز وجل، وخشية نار وقودها الناس والحجارة، ولذلك يكون الباعث خشية الله تعالى، إذا فرط الوالد أو الوالدة فإن العذاب والعقاب لهما بالمرصاد يوم الدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) ففي هذا الحديث ثلاثة آداب أمرهم بها:

أولًا: أمر الأولاد بالصلاة، وثانيًا: ضربهم عليها، وثالثًا: التفريق بينهم في المضاجع، وما نحل والد ولدًا أفضل من أدب حسن، ولأن يؤدب الوالد ولده خيرٌ له من الصدقة بكذا وكذا.

ذلك أن هذه التربية هي خيرٌ دائم، ونبع مستمر، وعطاء متجدد يكون في نفس الولد، ولذلك يكون من حق الولد على أبيه أن يحسن تسميته ويحسن أدبه، قال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للرجل أن يُكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه، أي: يحمله على ذلك، ولذلك اهتم السلف جدًا بالأطفال، فنبغ أطفال كثير من المسلمين، حفظوا القرآن منذ سن مبكرة، وحفظوا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحملت لنا أخبار حلق العلم نبأ طفل يبلغ من العمر أربع سنين يجلس في مجلس الحديث يحفظ، غير أنه إذا جاع يبكي.

وحملت الأخبار نبأ النووي رحمه الله وهو ابن عشر سنين، والأطفال يريدونه للعب معهم، وهو يأبى ويبكي ويقرأ القرآن.

وحملت الأخبار نبأ طفولة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان أطول الأولاد لوحًا، فكتب له الشيخ عشرين حديثًا، ثم قرأها مرة واحدة فسردها عن ظهر قلب، فكتب له عشرين أخرى، فقرأها مرة واحدة، وحفظها عن ظهر قلب، ثم سردها على الشيخ.

وبذلك تفوق ذلك الجيل والأجيال الذي بعده من هذه الأمة في عصر عزها وازدهار أمرها، ولكن لما ضعفت التربية الدينية، والتعليم الشرعي للأولاد في هذا الزمان؛ لم نعد نسمع عن مثل أولئك العلماء الفطاحل، الذين خرجوا يجددون للأمة أمر دينها، وينشرون العلم في الأرض، وذلك بسبب واضح وهو عدم الاهتمام بتعليم الطفل منذ سن مبكرة، فنحن نتركهم للهو وآلاته، ونتركهم للفساد وأجهزته، ولا نحملهم أو نهتم بهم في طلب العلم والتأديب الشرعي منذ نعومة أظفارهم.

عباد الله: أليس من نعيم الدنيا أن يكون للإنسان قرة عين من ذريته، لقد سأل كثير بن زياد الحسن البصري رحمه الله عن قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] فقال: يا أبا سعيد ! ما هذه القرة أفي الدنيا أم في الآخرة؟ قال: لا. بل والله في الدنيا، قال: وما هي؟ قال: أن يري الله العبد من زوجته أو من أخيه أو من حميمه طاعة الله، لا والله! ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولدًا أو والدًا، أو حميمًا أو أخًا مطيعًا لله عز وجل.

فهذه قرة عين أن ترى ولدك يمشي على الشريعة بحسب ما جاءت به ملتزمًا بآدابها، أن ترى ولدك متفقهًا في الدين، هذه من أعظم قرة العين في الدنيا (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والرجل راع على أهل بيته) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد راعت الشرعية العدل بين الأولاد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم) ولما نحل والد ولده غلامًا -أي: عبدًا- وأراد إشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء على طلب أمه، قال له عليه الصلاة والسلام: (أله أخوة؟ قال: نعم، قال: أكلهم أعطيت ما أعطيته، قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم، وفي رواية: (لا تشهدني على جور) وفي رواية: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).

إذًا: العدل بين الأولاد منذ الصغر يكون حاديهم إلى البر بآبائهم، حتى في القبلات كان السلف يعدلون، ولما رئي رجل وقد جاء ولدٌ ذكرٌ له فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنته فأخذها فأجلسها إلى جنبه من غير تقبيل، فقيل له في ذلك المجلس: ما عدلت بينهما.

عباد الله: ربما يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، ولذلك ينبغي الاهتمام بهم أشد الاهتمام.

عباد الله: لما فشا فينا حب الغرب، وذهب من ذهب إلى بلاد الغرب، وتفتح من تفتح على حضارة الغرب، وصار النظر إلى كتاباتهم وإنتاجاتهم وصناعاتهم؛ غر المغرورين منا ذلك التقدم الظاهري: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وقالوا: الطفل في مجتمعات الغرب يحيا أجمل سنوات عمره، وهو أرقى طفل في الكون، مستوى معيشة الطفل الغربي يفوق آلاف المرات مستوى معيشة الطفل في البلاد العربية والإسلامية، الغرب يوفر للطفل كل شيء.

هذه العبارات وغيرها إذا جئت بها عند التحقيق، ونظرت إليها تحت المجهر وجدت أن المسألة ليست كذلك، ومن باب الإنصاف والعدل لا بد أن نقول: إنهم قد حققوا تقدمًا كبيرًا في بعض الجوانب بالنسبة للأطفال، فترى الحرص على الفحص الطبي، وصحة الولد، وبرامج التطعيمات، ومعالجة العيوب الخلقية، وتعهد الأطفال المعاقين، وعلاج الأمراض النفسية من الانطواء والانكماش؛ والخوف والتردد، وعمل برامج لتقوية النبوغ في الأطفال، والاهتمام بمدارس الأطفال أكبر من الاهتمام بالمدارس المتوسطة والثانوية، وحرية إبداء الرأي عند الطفل، والحديث والسؤال، والجلوس مع الكبار، والتشجيع على القراءة، وعلاج عسرها وبطئها، والبرامج التعليمية والتثقيفية، وزيارة المدرسين للأولاد في البيت، لا شك أن ذلك موجود عندهم، وقد تقدموا في ذلك تقدمًا عظيمًا، والإمكانات متوفرة لديهم بشكل كامل في هذا المجال.

ولكن ما هي ميزتهم علينا في الحق والحقيقة؟ من جهة الاستعداد والإمكان يمكن للمسلم أن يأخذ كل تلك الحكم، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها يمكننا أن نأخذ كل تلك الإيجابيات ونجعلها عندنا، لأن ذلك أمر متوفر إذا صدقت العزيمة.

أما نظريات تربية الأطفال فإنها قد كثرت، ولعلنا من خلال عرض بعض الأقوال لبعض علماء الإسلام نخرج وإياكم -أيها الإخوة!- بنتيجة واضحة من أن هذه الشريعة وهذا الدين، وعلماء هذا الدين قد بينوا كل ما يحتاج إليه الطفل بحيث لا نحتاج بعدهم إلى أحد، ولن ننقل كلامًا من عالم مسلم معاصر، أو من رجل مسلم في العصر الحديث، حتى لا يقولوا: إنما أخذوا ما أخذوا من الغربيين.

 

تربية الطفل في الإسلام

فلنطف وإياكم في جولة سريعة في معالم تربية الطفل المسلم مع رجل من أفذاذ هذه الأمة، وقادتها العلميين الفكريين، لنعلم إلى أي مرحلة كان يوجد عند المسلمين اهتمام بالطفل في كل جانب من الجوانب، لنطف مع ابن القيم رحمه الله، وهو يعقد لنا فصلًا عظيمًا بعنوان: (فصول نافعة في تربية الأطفال تحمد عواقبها عند الكبر) ولن يكون الأمر مقتصرًا على التربية الدينية والعلمية والشرعية، وإنما سيكون كلامه رحمه الله عامًا شاملًا لجميع النواحي في تربية الطفل، لنعلم أنه يوجد عندنا في شرعنا، وفي كلام علمائنا نظريات تربوية عجيبة واهتمام بالغ.

قال رحمه الله تعالى: ينبغي أن يكون رضاع المولود من أمه، وأن يحرص على ذلك، وإذا أريد إرضاعه من غير أمه فإنه يؤخر حتى يأخذ ذلك اللبِّأ، وتلك المواد المحصنة الموجودة في لبن الأم، وينبغي أن يمنع من حملهم والتطواف بهم حتى يأتي عليهم ثلاثة أشهر فصاعدًا، لقرب عهدهم ببطون الأمهات وضعف أبدانهم، وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم؛ لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة للطعام، فإذا نبتت أسنانه قويت معدته، وتغذى بالطعام، فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه، ورحمة منه بالأم وحلمة ثدييها، فلا يعضها الولد بأسنانه.

وينبغي تدريجهم في الغذاء، فأول ما يطعمونه من الغذاء اللبن، ثم يطعمونهم الخبز المنقوع في الماء، واللبن والحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لطف جدًا من اللحم، بعد إحكام مضغه أو رضه رضًا ناعمًا، فإذا قربوا من وقت التكلم، وأريد تسهيل الكلام عليهم، فليدلك ألسنتهم بالعسل، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمدًا رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه عز وجل فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا.

فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن تدلك اللثة كل يوم بالزبد والسمن، وأن يحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة، ويُمنعون منها كل المنع، حتى لا تتعرض الأسنان للفساد والتعويج والخلل. ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه، ولاسيما لشربة اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعًا عظيمًا، فهو يوسع أمعاءه، ويفسح صدره، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته، ويحرك الطبيعة لدفع ما فيه من الفضول.

وينبغي ألا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه، إلى أن يصلب بدنه، وتقوى أعضاؤه، ويجلس على الأرض، فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلًا قليلًا.

وينبغي أن يوقى الطفل كل أمر يفزعه من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة، والحركات المزعجة، فإن ذلك ربما أدى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها، فلا ينتفع بها بعد كبره، فإذا عرض له عارض من أمر مفزع أو مخيف فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضده من إيناسه وإنسائه إياه، وأن يلقم الثدي في الحال، ويسارع إلى رضاعه حتى تزول تلك الرهبة وذلك الخوف.

وكذلك ينبغي التلطف في تدبير أمره عند نبات أسنانه، وألا يملأ بطنه بالطعام، وإذا انطلق بطنه خير من أن يمسك، وكذلك فإنه يلين بالعسل المطبوخ، ويعمل منه معجون يطعمه الولد.

وأما وقت الفطام فقال الله عز وجل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233].. الآية، فبين أن تمام الرضاع الحولين، وأن الفطام لا بد أن يكون عن تراضٍ وتشاور بين الأبوين، وأنه يجوز للأم أن ترضع بعد الحولين لا بأس بذلك، ولكن يكتمل الرضاع في الحولين، وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج، ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة بل تعوده إياه.

ومن سوء التدبير للأطفال أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام، وكثرة الأكل والشرب، فإن ذلك يؤذيهم، وإن الصبي إذا شبع وامتلأ يكثر نومه ويسترخي، ويعرض له نفخة في بطنه ورياح غليظة. ومما ينبغي أن يحذر: أن يحمل الطفل على المشي قبل وقته؛ لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانتقال والاعوجاج بسبب ضعفها، وعدم استعدادها للمشي منذ هذه السن المبكرة.

ويجوز وطء الأم عند الرضاع، فإذا حملت فالأفضل أن تترك الرضاع؛ لأنها في حملها لا يكون لبنها مثل الأول في فائدته، وربما كان فيه شيء من الضرر، فأرشدهم الشارع استحبابًا وليس إيجابًا إلى ترك إرضاعه في ذلك الوقت.

كل هذه الفوائد الطبية التي ذكرها رحمه الله تعالى مما ينصح به الأطباء في هذا الزمان، قال ذلك قبل مئات السنين مما يدل على أن العناية الطبية كانت موجودة عند علمائنا، وكانت موجودة في المجتمعات الإسلامية، وكانوا يحرصون عليها، ولكن الأهم من ذلك كله الحرص على تأديبه وتربيته.

يقول ابن القيم رحمه الله: فينبغي أن يعوده المربي في صغره على حسن الخلق، وتجنب الغضب واللجاج، والعجلة والخفة، والطيش والحدة والجشع؛ لأنه إذا تعود ذلك صار عادة لا يستطيع الخلاص منها إذا كبر. وينبغي أن يجنب الصبي مجالس اللهو الباطل والغناء، وسماع الفحش والبدع، ومنطق السوء؛ لأنه إذا علق بسمعه صعب عليه أن يتخلص منه ويفارقه عند الكبر.

وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره -لا يعود ولده على الأخذ من أيدي الناس- غاية التجنب، فإنه متى اعتاد ذلك صار طبيعة، ونشأ على أن يأخذ ولا يعطي، ويعود البذل والعطاء والإعطاء، فإذا أراد أن يعطي شيئًا أعطاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنبه الكذب والخيانة أكثر مما يجنبه السم، ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يحمله على العمل والشغل والجد والتعب، ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام، ومخالطة الأنام؛ لأن ذلك مما يفسد عليه حياته وخلقه.

وكذلك فإنه يجنبه تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عِشْرة من يخشى فساده أو كلامه له ونحو ذلك من رفقاء السوء، ويجنبه لبس الحرير فإنه مفسد له، ومخالف لطبيعته، كما يخلفه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب، ولذلك حرم على ذكور هذه الأمة والصبيان داخلون فيهم، فإنه ولو كان غير مكلف فإنه مستعد للتكليف، ولو أنه تعود لبس الذهب والحرير في أول أمره فإن ذلك مما يفسده منذ نعومة أظفاره.

قال: ولهذا لا يُمَكَّن من الصلاة بغير وضوء، ولا من الصلاة عريانًا ونجسًاً، ولا من شرب الخمر والقمار واللواط، مع أنه غير مكلف، لكنه لا يمكن من ذلك. وعند الغربيين شيء هو: مراعاة ميول الأطفال، فماذا يقول ابن القيم رحمه الله؟ يقول: فإذا صار له حسن فهم صحيح، وإدراك جيد، وحفظ واع، فينبغي تهيئته للعلم لينقشه في لوحة قلبه مادام خاليًا، فإنه يستقر ويستمر ويزكو، فإذا رآه -أي: رأى ميول الولد- خلاف القراءة والحفظ والمنهج العلمي، والجلوس في الحِلَق، والإقبال على الحفظ -فماذا يفعل؟-.

فإذا رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها؛ من الركوب والرمي واللعب بالرمح، مكَّنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك -لا علم ولا فروسية- وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه منفتحة إلى صنعة من الصنائع مستعدًا لها قابلًا لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها.

هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فقضية مراعاة الميول والمواهب ليست خاصة بالغربيين، ولا اكتشفوها هم، فهي موجودة عندنا، والكلام في تحفة المودود المكتوب منذ أكثر من ستمائة سنة. فإذًا يوجد عندنا، وفي شرعنا، وكلام علمائنا ما نحتاج إليه، ولو فرضنا أن الغربيين عندهم إيجابيات فنحن أولى بها نأخذها منهم، وتبقى لهم الرذائل، نجنب ذلك أولادنا وصبياننا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القائمين بالمسئوليات، الحريصين على الأمانات، ونسأله تعالى أن يخفف حسابنا، وأن يسدد خطواتنا، وأن يعيننا على تربية أولادنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 


 

المصدر:

محاضرة الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الأول للشيخ محمد المنجد

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حقوق-الطفل
اقرأ أيضا
لماذا لا نستمتع بالنعم | مرابط
فكر مقالات

لماذا لا نستمتع بالنعم


حديث رائع للدكتور إياد قنيبي يدور حول استشعار النعم التي وهبنا الله إياها وأحاطنا بها وكيف أن كثيرا من المسلمين لا يدرك هذه النعم أو يشعر بها فقد بهتت أدوات استشعار النعم في داخله وبات لا يولي نظره إلا لأهدافه التي لم يحققها أو فشل في تحقيقها فيغيب عن ناظريه قدر النعم العظيمة التي ما زال يملكها

بقلم: د إياد قنيبي
2379
لكي لا تأسوا على ما فاتكم | مرابط
اقتباسات وقطوف

لكي لا تأسوا على ما فاتكم


الإنسان يجزع ويستطار وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به وتمر بغيره والأرض كلها ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود

بقلم: سيد قطب
762
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج3 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج3


العلوم الحياتية دائمة التطور فإن بقيت أمة الإسلام سنة أو سنتين أو ثلاثا راكدة والعلم فيها راكدا لا يتحرك اتسعت الفجوة بشكل هائل بينها وبين الأمم فلا بد من حركة سريعة وكما ذكرت بالأمس لا داعي للتسويف فتبدأ من اليوم والأخ الذي أخبرتكم عنه الذي ذهب ليتعلم الإنجليزية في نفس الليلة ذهب للتعلم وهذه أمثلة طيبة جدا

بقلم: د راغب السرجاني
663
الاعتبار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاعتبار


ومن اعتمد في هدايته وسداده على نفسه ومواهبه ومهاراته واستغنى عن ربه فلن تزيده إلا حيرة وضلالا وطغيانا ومن استعان الله واهتدى به هداه الله بأقل ما يبلغه من العلم ووفقه للعمل به ومن حاز الدنيا بكل ما فيها من زينة ومتاع ولم يطلب الباقيات الصالحات فهو أعظم الناس خسارة وهو الظالم والمظلوم ولا يظلم ربك أحدا

بقلم: حسين عبد الرازق
389
المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج2 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج2


أهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر إيمانا كاملا مفصلا وعقيدتهم في الإيمان بالقدر عقيدة واضحة وبينة وهم ينهون ويأمرون بالإمساك عن مسائل القدر إذا كان الخوض فيها بغير منهاج الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم وهذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح

بقلم: عبد الرحيم السلمي
443
الكتاب المعجز الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين

الكتاب المعجز الجزء الثاني


ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنشائه لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم القرآن وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المدون في كتب السنة والحديث ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين القرآن والسنة ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلا فنقارن بين بيان القرآن وأسلوبه وبين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلاهما كلام بليغ لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده

بقلم: د منقذ السقار
691