هم يوسف عليه السلام

هم يوسف عليه السلام | مرابط

الكاتب: منقذ السقار

620 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الشبهة

قالوا: نسب القرآن إلى الصديق يوسف عليه السلام الهمَّ في الخطيئة مع زوجة العزيز {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24)، وقالوا: تمتلئ كتب التفسير بصور مشينة لهذا الهمِّ الفاسد الذي لا يليق بنبي كريم.

 

الرد

والجواب: لو قرأ الطاعنون في القرآن تمام الآية المستشكَلة لأدركوا منزلة يوسف الصديق وعصمة الله إياه من الذنب: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24).

وقد شهدت امرأة العزيز له بالخيرية والعصمة بقولها: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 32).

ولئن همَّت امرأة العزيز بالفاحشة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يقع منه الهمُّ أصلًا؛ وهذا منطوق الآية لمن فهم لغة العرب وطرائقهم في البيان، فالآية تثبت لامرأة العزيز الهمَّ {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، لكنها تنفي الهمَّ بالمعصية عن الصديق يوسف {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، و (لولا) عند العرب تفيد امتناعًا لوجود، أي لم يحصل الفعل لوجود ما منعه، فلم يتحقق الهمّ بالخطيئة لأنه رأى برهان ربه.

قال أبو حاتم: "كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن، فلما أتيت على {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قال: هذا على التقديم والتأخير، كأنه قال: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها" (1).

ومثله في قول الله تعالى عن أم موسى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (القصص: 10)، فهي لم تبد لهم بحقيقة أمومتها لموسى؛ لأن الله ربط على قلبها، وكذلك لم يهم يوسف بالمعصية لأنه رأى برهان ربه.

ومثله أيضًا في قول الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (الإسراء: 74)، فالركون لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - لوجود التثبيت من الله، وكذلك الهمُّ لم يقع من يوسف عليه السلام لوجود برهان الله أي تثبيته وعصمته.

ومثله في كلام الناس معروف: لقد رسبتُ لولا أني درست، فهو يفيد - في ذهن السامع- النجاح لا الرسوب، وأن ذلك سببه الدراسة.قال أبو حيان: "والذي أختاره: أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله.. ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين" (2).

ثم لو فرضنا وقوع الهمِّ بالفاحشة من الصديق يوسف؛ فإن الهمَّ في لغة العرب حديث النفس بمواقعة أمر، فإن كان الهمُّ في أمر حسن فهو حسن، وإن كان في أمر سوء لم يكن سوءًا إلا بترقي الهمِّ إلى العزم أو الفعل (3)، وإلا كان تركه لله سببًا في اكتساب الحسنات والمنزلة عند الله، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه؛ حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف» (4)، فلو وقع همٌّ بالسوء من يوسف فهو له حسنة، لأنه لم يترقَ إلى فعل، فقد تركه لله وخوفًا منه «وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة».

وأخيرًا فإن ما ورد في بعض كتب التفسير من أقوال في همِّ يوسف لم يصح منه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ومثلها من الإسرائيليات كثير في كتبهم التي لم تخلُ من أساطير أهل الكتاب وحكاياتهم؛ الغث منها والسمين، ورحم الله أبا حيان الأندلسي فقد أصاب وأجاد في قوله: "طوَّل المفسرون في تفسير هذين الهمَّين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق.. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضًا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلًا عن المقطوع لهم بالعصمة.. وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ومساق الآيات" (5).

وأما الشيخ ابن تيمية، فيرى أن هذه القصص المكذوبة المروية في كتب المسلمين من مرويات وقصص أهل الكتاب "وما ينقل من أنه حلَّ سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًّا على يده وأمثال ذلك، فهو مما لم يخبر اللهُ به ولا رسولُه، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا على الأنبياء، وقدحًا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حرفًا واحدًا" (6).


وهكذا يستبين لكل منصف براءة القرآن من المعاني الباطلة التي حاكها الأفاكون بجهلهم أو بتعاميهم عن معاني الآيات القرآنية التي تعتبر هؤلاء الأنبياء خيرة الله في أرضه، كيف لا! وهم رسل الله الأطهار {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (ص: 47).


 

المصدر:

منقذ السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص149

 

المراجع:

  1. فتح القدير، الشوكاني (3/ 26).
  2. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (5/ 294 - 295)، وانظر: دراسات لأسلوب القرآن الكريم، محمد عبد الخالق عضيمة (2/ 685).
  3. الفعل على ست مراتب (الخاطر ثم الهاجس ثم حديث النفس ثم الهم ثم العزم ثم الفعل)، فأما الخاطر والهاجس وحديث النفس فلا يكتبون على العبد؛ لا في الخير، ولا في الشر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» أخرجه مسلم ح (127)، وأما الهمُّ فلا يكتب في الشر بمجرد الهمِّ، ويكتب خيرًا إن همَّ العبد بأمر الخير أو ترك همَّ السوء، وأما العزم فيكتب بالخير والشر؛ ولو لم يقع الفعل لعزم القلب عليه، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار»؛ فقلت [أي أبو بكرة - رضي الله عنه - راوي الحديث]: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» أخرجه البخاري ح (37).
  4. أخرجه البخاري ح (7501)، ومسلم ح (129)، واللفظ للبخاري.
  5. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (5/ 294 - 295).
  6. مجموع الفتاوى، ابن تيمية (10/ 297).
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تنزيه-القرآن-الكريم
اقرأ أيضا
لماذا نحج | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

لماذا نحج


الحج تجريد للنفس من ماضيها المشوب بالإثم ومن ثم فهو تجديد للحياة وبقدر ما تصدق نية المسلم في ابتغاء هذا التجديد من الحج يكون حجه مبرورا والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة لقد يسر الله سبل الحج في هذا العصر وتوطدت فيه دعائم الأمن بما لا عهد لحجاج المسلمين بمثله إلا في صدر الإسلام وزمان التابعين لهم بإحسان والمسلمون الآن في إقبال عظيم على إقامة هذه الشعيرة من شعائر الإسلام حتى بلغ عدد الذين يقفون في عرفة ويطوفون بالكعبة بيت الله الحرام في هذه السنين رقما قياسيا لا نظير له في التاريخ

بقلم: محب الدين الخطيب
1081
موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج1 | مرابط
فكر مقالات

موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج1


في هذا المقال تأصيل هام لموقف الصحابة رضوان الله عليهم من الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه نظرا لكثرة الشبهات والأباطيل التي أثيرت حول هذا الموضوع وكثرة الأخبار الباطلة والمزعومة التي يوردها البعض عن الصحابة وأهل العلم ولا تخلو من لبس وإشكال ولذلك يقف بنا الكاتب الدكتور سلطان العميري على حقيقة الأمر

بقلم: د سلطان العميري
2066
أسلوب الوصاية | مرابط
فكر مقالات

أسلوب الوصاية


والوصاية ضد الشبهات التي تسبب رقة التدين مطلب شرعي سواء كان الذي يشيع هذه الشبهات زنديق علماني أو من متفقهة التغريب الذين يغرسون في الناس النظرة المادية للحياة ويهونون من تعظيمهم للنص باسم الخلاف ويشحنون الناس ضد المحتسبين والدعاة دوما بالسذاجة والتهور وضيق الأفق وقلة الوعي وأنهم يغرقون في كأس ماء ونحوها من العبارات التي يتشربها المستمع فتؤثر في نظرته لأهل العلم والدعاة بعامة ويجمدون مشاعر الغيرة والحمية باسم الرزانة والحكمة والهدوء ونحو ذلك

بقلم: إبراهيم السكران
2207
منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول


إن القرآن روح الإسلام ومادته وفي آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته كان قرآنا حيا يسعى بين الناس كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وحق وقوة وفقه وبيان فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي...

بقلم: محمد الغزالي
1487
دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني


نعلم أن سهام منكري السنة تتوجه في الغالب إلى السنة النبوية ذاتها سواء في متنها أو سندها أو حتى حجيتها من الأساس فهم لا يؤمنون بأنها وحي من عند الله وفي المقابل يدعون الإيمان بالقرآن وما جاء فيه ومن هنا ندرك أهمية الوقوف على حجية السنة النبوية من نصوص القرآن الكريم وفي هذا المقال يقدم لنا الكاتب أحمد يوسف السيد أدلة قرآنية تثبت أن السنة النبوية هي وحي من عند الله

بقلم: أحمد يوسف السيد
2526
معنى الحجاب | مرابط
تفريغات المرأة

معنى الحجاب


قالت عائشة عليها رضوان الله تعالى كما روى البخاري و مسلم: رحم الله النساء المهاجرات حينما أنزل الله عز وجل: وليضربن بخمرهن قطعن مروطهن واختمرن بها قال غير واحد من شراح الحديث: إن المراد بذلك أنهن قطعن المروط وغطين بهن الوجوه وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
312