مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج1

مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج1 | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

676 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الطريق إلى الحياة الجاهلية

افتتح المؤلف هذا الفصل بمؤانسة الذين يكلفون بالأدب العرب القديم، فأخذ يؤامنهم من الخوف على الحياة الجاهلية، ويعدهم بأنه لا يقطع الطريق بينهم وبين هذه الحياة التي يجدون في درسها لذة علمية وفنية ثم قال في ص١٥: «فأزعم أني سأستكشف لهم طريقًا جديدة واضحة قصيرة سهلة لا يصلون منها إلى هذه الحياة الجاهلية، أو بعبارة أصح: يصلون منها إلى حياة جاهلية لم يعرفوها، إلى حياة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلى الشعراء الجاهليين.»

لا عجب أن يخيل إلى المؤلف أن الناس سيلاقون ذلك البحث بإعجاب وتقليد ولا يلبثون أن يلتقطوا كل شعر جاهلي حواه كتاب لغة أو أدب ويضربوا به ثبج هذا البحر، ولا عجب أن يرقَّ لحال الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويهدئ فزعهم على الحياة الجاهلية بما يبادرهم به من أن كتابه لا ينوي محو أثرها وحرمانهم من التمتع بمشاهدتها.

وإن تعجب فعجب له يدعي في غير مزاح أنه استكشف للحياة الجاهلية طريقًا جديدة، ثم لا يكون منه إلا أن يذكر في بيان هذه الطريق الجديدة كتاب الله الذي درسه أولو حكمة لم يأت المؤلف حتى الآن بأثر قيم يجعله شيئًا مذكورًا في حسابهم. ماذا صنع علماء العربية ومن أفرغ قريحته في تفسير القرآن منهم؟ ألم يتفقه أولئك الحكماء في معاني الكتاب العزيز! وهل كانت الحياة الجاهلية المقتبسة من القرآن غير المعاني التي يفصلها هؤلاء العلماء عند تفسير آية تحكي شيئًا من شؤون أولئك الجاهليين أو ترد عليهم بعض أقوالهم.

فعلماء الشرق درسوا الحياة الجاهلية فيما صح من أشعارهم وفيما يقصه القرآن من أقوالهم وأفعالهم. نعم، هم لم يعرفوا الحياة الجاهلية في الصورة التي سيلفقها المؤلف، ولا يريدون أن يعرفوها إلا أن تنقلب عقولهم شهوات، وعلومهم شكوكًا وتخرصات.

 

دراسة الحياة الجاهلية

قال المؤلف في ص١٥: «فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير؛ لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقًا أخرى، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن. فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي.»

احتوى القرآن نبذة من أنباء الجاهلية جاءت في سبيل النعي على بعض عقائدهم الضالة كالشرك بالله، ومبتدعاتهم الخاسرة كعبادة الأوثان، وعوائدهم الممقوتة كوأد البنات، وآرائهم الجامدة كقولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ.

وما جاء عنهم في هذا الصدد لا ينفي أن يكون فيهم ذكاء وبلاغة وحكمة وشيء من مكارم الأخلاق؛ لأن القرآن لم ينزل لتمجيدهم أو ليكون مرآة لحياتهم، وإنما هو كتاب نزل لتقويم العقائد وتهذيب الأخلاق وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، وإماطة الأذى عن طريق الحياة الاجتماعية الراقية. وهذا يستدعي توجهه إلى ما في الأمم من نقص ليكمله أو فساد ليصلحه، وهذا يقتضي ألا يعرج على ما يدل أو يشعر بشيء من محاسن العرب إلا قليلًا.

فالمقتصر في تاريخ العرب قبل الإسلام على القرآن إنما يؤخذ صورة خالية من تلك المزايا التي لم يهملها القرآن إنكارًا لها وإنما سكت عنها؛ لأنه لم يأت مؤرخًا ولا مادحًا. فدعوى أن القرآن يمثل «حياة جاهلية قيمة مشرقة» إنما يهجم عليها من لا يدري أن للمباحث العلمية وقارًا ترتجف أمامه كل لاغية.

 

الشعراء الذين عاصروا النبي

قال المؤلف في ص١٦: «وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه.»

الشعراء الذين شهدوا عصر النبوة أربع طوائف، منهم من كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم أو يحث على محاربته، وهذه الطائفة صنفان: صنف استمر بحالته الجاهلية كأبي عزة الجمحي، وصنف عاد إلى الإسلام كعبد الله بن الزبعرى.

ومنهم من لم يسمع عنه شعر في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم أو الإغراء عليه، وهذه الطائفة صنفان أيضًا: صنف لبس هدى الإسلام كحسان بن ثابت، وصنف لم يعرف له إسلام كالأعشى ميمون بن قيس.

وعبارة المؤلف صريحة في أنه يثق بشعر الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم فتتناول الصنفين الأولين فقط، ومقتضى هذا أنه يعتمد في حياة الجاهلية شعر أبي عزة الجمحي وعبد الله بن الزبعرى، ولا يعتمد فيها شعر حسان والأعشى، وهذا من تعسفاته التي لا يجد لها القارئ رائحة ولا طعمًا. ثم إن دراسة الحياة الجاهلية في شعر الذين جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم يقضي عليه بأن يدرسها في شعر المخضرمين كحسان ولبيد والنابغة الجعدي، بالأحرى. ولعل كلمة «وجادلوه» إنما زينتها له العاطفة ودفعتها على حين غفلة من الفكر، فأخذت في الفقرة موقعًا لا يليق بها.

قال المؤلف في ص١٦: «وفي شعر هؤلاء الشعراء الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل ظهور الإسلام، بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه، فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية.»

من الشعر ما يشتمل على وصف أمر أو حكاية واقعة، ومنه ما يعبر عن معان في نفس الشاعر كالحب والبغض والسرور والحزن والرغبة في الشيء والنفور منه. وله بعد هذا المعنى الذي تدل عليه الألفاظ بحسب وضعها معنى آخر يذهب إليه الناظر من طريق الاعتبار كطراز تفكير الشاعر ومبلغ جودة قريحته وقوة خياله وسمو بلاغته وآداب خطابه.

وهذا القسم بسائر مدلولاته لا يستفاد من الشعر إلا أن تكون نسبته لقائله صحيحة.

وهناك معنى ثالث وهو أن الناظر في شعر كثير يعزى إلى شعراء أمة في عصر أو عصور، يمكنه أن يستفيد من مجموع هذه الأشعار معاني عامة ويثبتها للأمة في جملتها، ومثل هذا آداب خطابها ومبلغ فصاحتها وقوة تعقلها وسعة تخيلها، وكيفية تنقلها من معنى إلى معنى ومن غرض إلى غرض، إلى ما يشاكل هذا من تصرفها في الكلام بنحو الرقة والجزالة والإيجاز والإطناب.

وإذا كان الشعر الأموي إنما يمثل من حياة الجاهلية هذا المعنى الدائر حول آداب اللغة، فإن الشعر الذي ينسب للأعشى وزهير والنابغة وطرفة ويدعي المؤلف أو غيره انتحاله، يمثل هذا المعنى أيضًا بمقدار ما يمثله شعر الفرزدق وجرير، حيث كان مصطنعوه من شعراء العهد الأموي.

 

حياة العرب الجاهليين

قال المؤلف في ص١٦: «فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن أبي خازم.»

إذا جعل المؤلف موضوع كتابه البحث عن الشعر الجاهلي، فما خطبه يذكر الشماخ بن ضرار وقد أدرك الإسلام وشهد وقعة القادسية وتُوفي في غزوة موقان لعهد عثمان بن عفان رضي الله عنه؟

فإن كان عذر المؤلف في التعرض للشماخ أنه نشأ في الجاهلية، أفسد عليه هذا الاعتذار تصريحه بأنه يدرس الحياة الجاهلية في شعر الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وجادلوه، وشعر الشعراء الذين جاءوا بعده، والشماخ عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يجادله، ولا أحسب عدم مجادلته علة تقتضي رفع الثقة بشعره إلا في رأي الفاسق عن أمر ديكارت، ومن ذا الذي يقبل الفرق بين الشماخ وأبي عزة الجمحي فلا يثق بما ينسب إلى الأول ويضع ثقته فيما ينسب إلى الثاني. ولا ينفع المؤلف أن يوجد أشخاص يدعون بهذا الاسم ولهم شعر، فالشماخ بن ضرار هو صاحب الديوان وهو المشهور في كتب الأدب والتراجم، وليس لغيره أثر في الأدب يُهيِّئُه إلى أن يُذكر في جانب عنترة وبشر بن أبي خازم.

 

القرآن أصدق مرآة لحياة الجاهلية

أخذ المؤلف يصور نظرية أن القرآن أصدق مرآة لحياة الجاهلية وجعل يورد أشياء ألفها الناس من قبل، وعلى الرغم من وضوحها لم تستطع أن تعقد صلة بينها وبين هذه الصورة التي انساب فيها قلمه وطغى.

ذكر المؤلف أن العرب أعجبوا بالقرآن؛ لأنهم فهموه ووقفوا على أسراره، وإنما فهموه لما بينهم وبينه من الصلة وهي كونه كتابًا عربيًّا، وانصرف من هذا إلى أن في القرآن ردًّا على الوثنيين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس، وأن لأصحاب هذه الملل والنحل فرقًا في بلاد العرب تمثلهم، وأن هذه الفرق هي التي كانت تعارض القرآن حين هاجم دياناتهم، وخرج من هذا إلى أن القرآن حيث يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن نحل وديانات ألفها العرب، وكان يلقى من المعارضة والتأييد بقدر ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس، إذًا القرآن «يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال»، وادعى بعد هذا أن القرآن يمثل الأمة العربية في حياة عقلية قوية إلى حياة سياسية متصلة بالسياسة العامة، إلى حضارة راقية. ولنعد إلى مناقشته فيما عرضناه عليك ملخصًا، وإليك المناقشة:

قال المؤلف في ص١٦: «قلت: إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية، وهذه القضية غريبة حين تسمعها ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلًا.»

يعرف كل من قرأ القرآن أو استمع إلى قراءته أنه تحدث عن قوم جاهليين، فيأخذ في نفسه صورة لحياة أولئك القوم على قدر ما دلت عليه الآيات صراحة أو إيماء، مطابقة أو اقتضاء. فإن أراد المؤلف أن في القرآن ما يدل على شيء من حياة الجاهلية، فالقضية بديهية، ولا حاجة إلى أن نفكر فيها قليلًا أو كثيرًا، وإن قصد أن في القرآن حياة جاهلية مشرقة ممتعة فالقضية خيالية لا يمتاز في إدراك سرها الأذكياء عن الأغبياء.

 

القرآن جديد على العرب؟

قال المؤلف في ص١٦: «وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب، فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ولا آمن به بعضهم، ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر، إنما كان القرآن جديدًا في أسلوبه، جديدًا فيما يدعو إليه، جديدًا فيما شرع للناس من دين وقانون، ولكنه كان كتابًا عربيًّا، لغته هي اللغة الأدبية التي يصطنعها الناس في عصره.»

شأن هذه الفقرات أن توضع في كتاب يبعث به إلى قوم لا يدرون ما اللغة العربية ولم يسمعوا من القرآن ولو آية، ومن المحتمل أيضًا أن تقال على وجه التنبيه للأطفال الذين أخذوا يترددون على المكاتب الأولية. أما أنها تلقى في كلية الآداب أو تدرج في «نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد» فذلك ما لا يجد له الذوق مساغًا.

ثم إن قول المؤلف: «وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن إلخ.» يضع في ذهن القارئ أن أحدًا من الناس قال: كان القرآن جديدًا كله على العرب، وأن هذا القائل هو الذي وثب عليه المؤلف بالتكذيب وطعنه بحجة أنه لو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه، ولم يقل أحد: إن القرآن جديد كله على العرب، فإن كان المؤلف يريد أن يوهم طلابه في الجامعة أنه القوي على دحض أقوال القدماء، فخير له من هذا أن يريهم الطعن في أقوال حقيقية وآراء لا تزال قائمة.

ذكر المؤلف أن القرآن يرد على الوثنيين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس ثم قال في ص١٧: «وهو لا يرد على يهود فلسطين، ولا على نصارى الروم ومجوس الفرس وصائبة الجزيرة وحدهم، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها.»

يضع المؤلف بعض الكلم في غير مواضعها فتكبو بها الجملة في لبس أو تدافع، كما قال في هذه الجمل: إن القرآن لا يرد على يهود فلسطين ونصارى الروم وصابئة الجزيرة وحدهم، وهذه الفقرة تقتضي أنه يرد عليهم ولا يخصهم بالرد بل يتناول به غيرهم. ثم قال: وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية، وهذه الفقرة المصدرة بأداة الاختصاص تدل على أن الرد مقصور على الفرق التي كانت تمثلهم في البلاد العربية. والحقيقة أن القرآن إذا تحدث عن أهل ملة فحديثه عائد إلى ما يتقلدونه من عقائد أو شعائر، وسواء عليه أكان الظاهرون بهذه التقاليد عربًا أو غير عرب، وإذا ورد بعض الآيات خطابًا لفريق من العرب فلأمر اقتضى خطابهم، كأن يعترضوا الدعوة بأذى أو يجادلوا على غير بينة.

 

قال المؤلف في ص١٧: «ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه، وضحوا في سبيل تأييده بالأموال والحياة.»

لا يتحامى المؤلف من أن ينشر في أذهان طلابه بالجامعة ظنونًا غير صادقة، فيفرض خصومة ناشبة، ويمثل قلمه في موقف الهجوم والطعن. يخيل إلى قارئ هذا البحث أن الناس لا يفقهون أن في بلاد العرب فرقًا من اليهود والنصارى والوثنيين داخلون فيما يتحدث به القرآن عن أصحاب هذه الديانات، حتى يحسب أن المؤلف انفرد بمعرفة هذه الفرق حيث أخذ يستدل على وجودها بمثل قوله: ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه.

لماذا لا تكون للقرآن قيمة إلا حيث يرد على فرق في البلاد العربية تمثل هذه النحل والديانات؟ أفلا تكون له قيمة لو اتفق أن الأمة العربية كلها من الدهريين الذين يقولون — فيما ينبئنا القرآن — مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ فيدعو أصحاب هذه النحلة ثم يتعرض لإصلاح ما في غيرها من النحل والديانات التي لا يوجد في بلاد العرب من يمثلها؟ بلى! ولكن المؤلف يريد أن يناجي الذين في قلوبهم مرض بأن ليس للقرآن قيمة ولا شأن إلا حيث يرد على الفرق التي تقيم في البلاد العربية.

وما معنى أن مؤيديه لم يحفلوا به إلا لأنه رد على فرق في البلاد العربية تمثل هذه النحل والديانات؟

أليس من الممكن بل من اليسير أن يحفلوا به؛ لأنهم أولو فطر سليمة وبصائر نيرة، والقرآن نور يمشي بين أيدي أوليائه؟ ولماذا حفلت به الأمم غير العربية كالفرس والترك والهنود والبربر وقسم عظيم من أوروبا؟ فهل احتفلوا به وجاهدوا في سبيله؛ لأنه يرد على فرق في البلاد العربية أو فرق في أقطارهم تمثل هذه النحل والديانات؟ كلا! إنما يحفل بالقرآن من يحفل به؛ لأنه برهان هداية وسعادة، ولأن في حججه ما يقف في لهاة المعاند للحق «لا يرتقي صدر منها ولا يرد».

 

الديانات الأخرى

قال المؤلف في ص١٧: «أفترى أحدًا يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية، وأحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام. وأنا لا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات ثم مقاومة الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء.»

يقتضب المؤلف هذه الجمل وأمثالها ليذروها كالرماد في عيون السذج ويخيل إليهم أنه لم يهاجم الإسلام بأشد ما يهاجم به دين تعتنقه أمة ذات عزة وحجة وبيان.

هل يتربص فرصة تمكنه من أن يطعن في الإسلام بأكثر مما طعن فيه اليوم؟ وهل فوق تكذيب القرآن وقذف مقام النبوة بالاحتيال على عقول العرب هجوم! وهل بعد الغمز في نسب الرسول الأعظم شيء يخوض قلوب المسلمين بالحفيظة والامتعاض!

قد اتخذ اسم البحث العلمي كستار يعمل من ورائه ما لا يسوغه قانون الاجتماع، وسدله على جانب من البحث وبقي جانب آخر مكشوفًا حتى عجز رهطه أن يمدوا عليه طرفًا من ذلك الستار المستعار. وستراه كيف يهاجم الإسلام على طريق يسميه بحثًا وما هو ببحث، وإنما هو الطعن الذي يدع في النفوس ألمًا، ولا نجد له في العلم أو الأدب أثرًا.

 

تنزل القرآن

قال المؤلف في ص١٨: «فأنت ترى أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن نحل وديانات ألفها العرب.»

تحدث القرآن عن أمم من غير العرب كالقبط ويهود مصر وفلسطين وذكر قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم لوط، وقد تعرض لنحل هؤلاء الأقوام وقص علينا جدالهم لرسلهم، ومحاجة الرسل عليهم السلام لتلك الأمم التي ليست من العرب في قبيل.

فالقرآن لا يراد منه إصلاح حال العرب وحدهم، وليس من نحلة باطلة أو عقيدة مبتدعة إلا في أصوله ما يمحو أثرها ويقطع دابرها. ويكفي الكتاب الذي يخاطب البشر جميعًا أن يتحدث عن أصول الديانات والنحل بحديث يعرف به حال ما يشتق منها أو يتمثل في بعض صورها.

 

الشعر الجاهلي

قال المؤلف في ص١٨: «فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي العاطفة الدينية المسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية، وإلا فأين تجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو عنترة! أوليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين!»

هذه الشبهة مما استلبه المؤلف من مقال مرغليوث — حيث يقول: «تجد في هذه الأشعار ما يبعث على الدهشة، فشعراء كل أمة يشرحون دينهم وعقائدهم شرحًا واضحًا، والمخطوطات العربية مملوءة بذلك، ففي كل مخطوطة نجد اسم معبود أو أكثر وأشياء تتعلق بعباداتهم … وقلما نعثر في هذه الأشعار على شيء يتعلق بالدين إلا نادرًا.»

وقد تعرض جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية(1) إلى هذه الشبهة وما يدفعها فقال: «أما العرب فيخالفون العبرانيين من حيث الشعر الديني؛ لأنه لم يكن عندهم في الجاهلية كما كان عند العبرانيين، ولا يعقل أنهم خالفوا إخوانهم فيه ولا بد أنهم نظموا الأشعار وخاطبوا بها هبل واللات والعزى وغيرها واستعطفوها وصلوا إليها وتخشعوا لها، ولكن منظوماتهم في هذا الموضوع ضاعت في ثنايا الأجيال لعدم تدوينها، ولاشتغالهم عنها بالحماسة والفخر بسبب الحروب التي قامت بينهم قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام أغضى الرواة عنها؛ لأنها وثنية، والإسلام يمحو ما كان قبله.»
وقال الأستاذ «أدور براونلش» في رده(2) على مرغليوث: «لاحظ العلماء أن الشعر الجاهلي قلما دل على شيء من دين العرب قبل الإسلام: وقد ذكر بعضهم في سبب ذلك أن علماء المسلمين يرفضون من الشعر ما يخالف الدين الإسلامي ويروون سائره، وهذا مما يثق الإنسان بوقوعه.»
وخلاصة الجواب أن معظم شعر العرب كان في الفخر والحماسة، وأن المسلمين صرفوا عنايتهم عن رواية الشعر الذي يمثل دينًا غير الإسلام، ولا سيما دين اللات والعزى، وعلى الرغم من هذا كله وصلت إلينا بقية من الشعر الذي يحمل شيئًا من الروح الديني، تجده في كتاب الأصنام لابن الكلبي وغيره.

 

القرآن والحياة التي يرسمها

قال المؤلف في ص١٩: «ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها وإنما يمثل شيئًا آخر غيرها لا نجدها في الشعر الجاهلي، يمثل حياة عقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظًّا عظيمًا، أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة.»

دلالة القرآن على ما عند العرب من دهاء وبراعة في الكلام مما تعلمه المؤلف من القدماء ثم انقلب يرميهم بسبة الجهل به، وهذا الجاحظ يقول في كتاب البيان:(3) «وذكر الله تعالى حال قريش في بلاغة المنطق ورجاحة الأحلام وصحة العقول، وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر ومن بلاغة الألسنة واللدد، عند الخصومة فقال: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ثم ذكر خلابة ألسنتهم واستمالتهم الأسماع بحسن منطقهم فقال: وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ثم قال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مع قوله: وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.»
فهذا مما يرفع الثقة بزعم المؤلف أنه صاحب نظرية «أن في القرآن مرآة للحياة الجاهلية».

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ج١ ص٥٦.
  2. مجلة الأدبيات الشرقية عدد أكتوبر ١٩٢٦.
  3. ج١ ص٥.

 

المصدر:

محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي، ص39

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#طه-حسين #في-الشعر-الجاهلي
اقرأ أيضا
قياس الداعيات أنفسهن بعائشة رضي الله عنها | مرابط
أباطيل وشبهات

قياس الداعيات أنفسهن بعائشة رضي الله عنها


عائشة كانت تحدث الرجال من وراء حجاب وهو حكم خاص بها وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب الأحزاب: 53. وهذا الحجاب في كل وقت حال الخروج أيضا فهن يخرجن في هودج فهل تلزم الداعية المعاصرة نفسها بهذا؟ فالآية هذه لا تتحدث عن اللباس بل على الستار من إزار وجدار فكانت زوجات النبي ﷺ لا يخرجن إلا فيه فمن تطيقه منهن؟

بقلم: قاسم اكحيلات
345
فضيلة شهر شعبان | مرابط
تفريغات

فضيلة شهر شعبان


فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بشهر شعبان ما لا يهتم بغيره ولهذا روى النسائي والإمام أحمد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله رأيتك تكثر من صيام شعبان أكثر من صيامك شهر رجب فقال: صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر بين رجب ورمضان وهو شهر تغفل الناس عنه وهو شهر أحب أن أصوم فيه وهو شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم

بقلم: عبد الله بن ناصر السلمي
333
السينما بين الواقع والأحلام | مرابط
فكر مقالات

السينما بين الواقع والأحلام


يقولون أن السينما غير مفروضة على أحد ومن شاء فليذهب ومن شاء امتنع وحقيقة وقفت متعجبا كثيرا عند هذا الكلام كيف سرت إلى نفوس بعض الشباب مثل هذا الفيروس الذي أرسلته التيارات المنحرفة فعبث بمدركات التفكير لدى بعض الشباب الذين هم من أبعد الناس عن التلوث بأي اتجاه فكري منحرف من البدهيات في التصور الإسلامي أن المحرمات ليس فيها من شاء ومن شاء فالمحرم لا بد من منعه وإنكاره نعم بإمكان الشخص أن يقول إنه غير محرم ويبين حجته أما أن تكون حجته لتسويغ الفعل أن من شاء ومن شاء فهذا تفكير غير مستقيم مع القيم...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2516
ما أورثني علم الكلام إلا حيرة! | مرابط
اقتباسات وقطوف

ما أورثني علم الكلام إلا حيرة!


واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام وممارسة تلك المذاهب والنحل لم أزدد بها إلا حيرة ولا استفدت منها إلا العلم بأن تلك المقالات خزعبلات فقلت إذ ذاك مشيرا إلى ما استفدته من هذا العلم: وغاية ما حصلته من مباحثي... ومن نظري من بعد طول التدبر .. هو الوقف ما بين الطريقين حيرة... فما علم من لم يلق غير التحير .. على أنني قد خضت منه غماره... وما قنعت نفسي بدون التبحر

بقلم: الإمام الشوكاني
264
بين مقام الشك ومقام اليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مقام الشك ومقام اليقين


ما أكثر ما نجد في الكتب الفكرية من يفخم شأن الشك وعدم الحسم ويقزم اليقين واليقينيات بل ويطالبون أن يتخلص الخطاب الديني من اليقين ولذلك تجدهم يكثرون من ترداد مقولة إلى المزيد من طرح الأسئلة فيفرحون بالأسئلة ولا يكترثون كثيرا بحسم الإجابات

بقلم: إبراهيم السكران
469
أسس المعرفة وأركانها | مرابط
تعزيز اليقين

أسس المعرفة وأركانها


وأول ما ينبغي النظر فيه معرفة الله تعالى بالدليل ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة والأرض موضوعة وشاهد الأبنية المحكمة خصوصا جسد نفسه علم أن لا بد حينئذ للصنعة من صانع وللمبني من بان. ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه وأكبر الدلائل القرءان الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله. فإذا ثبت عنده وجود الخالق وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تسليم عنانه إلى الشرع فمتى لم يفعل دل على خلل في اعتقاده.

بقلم: ابن الجوزي
365