وَقَوْلُهُ " «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» " فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَنَّ يَصْنَعَ مَا شَاءَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَهُمْ طَرِيقَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا لَمْ يَكُنْ حَيَاءٌ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، فَاللَّهُ يُجَازِيكَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] [فُصِّلَتْ: 40]، وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] [الزُّمَرِ: 15]، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ بَاعَ الْخَمْرَ، فَلْيُشَقِّصِ الْخَنَازِيرَ» " يَعْنِي لِيَقْطَعْهَا إِمَّا لِبَيْعِهَا أَوْ لِأَكْلِهَا، وَأَمْثِلَتُهُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ ثَعْلَبٍ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحْيِ، صَنَعَ مَا شَاءَ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ هُوَ الْحَيَاءُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَيَاءٌ، انْهَمَكَ فِي كُلِّ فَحْشَاءَ وَمُنْكَرٍ، وَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ مِثْلِهِ مَنْ لَهُ حَيَاءٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، فَإِنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَأَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ
المصدر:
ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، الحديث العشرون، ص498