الدعوات الهدامة والناشئة

الدعوات الهدامة والناشئة | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

2149 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

يستحق أن يسمى مذهبًا هدامًا كل مذهب يقضي على جهود الإنسانية في تاريخها القديم والحديث، ولا سيما الجهود التي بذلها الإنسان للارتفاع بنفسه من الإباحية الحيوانية إلى مرتبة المخلوق، الذي يعرف حرية الفكر، وحرية الضمير.
 
ومذهب كارل ماركس -صاحب الدعوة التي اشتهرت باسم الاشتراكية العلمية- في مقدمة المذاهب التي تهدم ما بنته الإنسانية في تاريخها الطويل؛ لأنه يبيح لكل طبقة أن تهدم ما بنته الطبقة التي تقدمتها، كأنه لم يكن من عمل بني الإنسان.
 
هذه المذاهب ينتقدها المنتقدون من الوجهة العلمية، كما ينتقدونها من الوجهة التاريخية، ولولا أنها مذاهب تختلط بالغرائز والشهوات، وتسري بين الأغرار والجهلاء، لما تحملت شيئًا من النقد العلمي، ولا من النقد التاريخي، لأن بطلانها أظهر من أن يحتاج إلى عناء شديد في النقد والتفنيد.
 

المذهب الذي يملك كل الحقائق

 

فمهما يكن نصيب الإنسان من العلم قليلًا، ومهما يكن نصيبه من استقلال الفكر محدودًا، فهو -لولا الغرائز والشهوات- يستطيع أن يفهم أن العلم الإنساني لن ينتهي إلى إنسان واحد كائنًا ما كان، ويستطيع أن يفهم أن الرأس الذي يدعي أنه أحاط بأسرار الكون كله، ونفذ إلى حقائق التاريخ كلها، ووصل إلى النتيجة التي لا تتغير من بعده ولا يطرأ عليها تعديل ولا تبديل إلى آخر الزمان — هذا الرأس يدعي ما لا يقبله عقل عاقل، ولا يصلح لهداية الإنسانية في طريق العمار والفلاح.
 
وكارل ماركس لا يدعي شيئًا أقل من هذه الدعوى العريضة التي لم يجترئ على ادعائها أحد من قبله؛ لأنه يزعم أن فلسفته أحاطت بأسرار المادة والحياة، وأسرار التاريخ والاجتماع، ووجب أن يدين بها الناس فلا يغيروا منها كثيرًا ولا قليلًا، فيما يأتي من الدهور والأجيال؛ بل وجب أن يعتمد الناس على فلسفته هذه ليهدموا عالمهم بأيديهم، كأنه معصوم من كل خطأ يدعو إلى التردد قبل هذه المجازفة، وأي مجازفة؟ إنها المجازفة بتحطيم عالم كامل، لا بمجرد تحطيم بيت أو مدينة أو وطن واحد يجمع المدن والبيوت.
 
لا حاجة إلى الإطالة في البحث العلمي لإنكار هذه الدعوى من أساسها، فهي كلام لا يحتمل البحث الجدي، ولا يصغي إليه المرء، وهو مفيق من غمرة الشهوات والغرائز العمياء. على أن بطلانها من ناحية الشعور لا يقل عن بطلانها من ناحية التفكير. فعندما يخاطب كارل ماركس أتباعه ويأمرهم بتخريب المجتمعات قاطبة يقول لهم ما معناه: اخربوها فليس عندكم ما تفقدونه فيها …؟
 

الدعوة الهدامة

 

وما من عقل يفيق من غمرة الشهوات والغرائز العمياء، يسمع هذه الدعوة فيخطر له أنها دعوة خير وفلاح؛ لأنها حركة يأس وقنوط، ولن يتحقق رجاء العالم من وراء اليأس والقنوط، ولن يصلح العالم من لا يبالون بخرابه ولا يترددون في تحطيمه. ولن يعطي الإنسانية أملا من فقد كل أمل، وتساوى عنده التخريب والتعمير. بل أصبح التخريب أحب إلى نفسه من التعمير.
 
اليائس لا يفكر ولا يبالي، ولأنه لا يفكر ولا يبالي يخاطبه دعاة التخريب والتحطيم، ولا يهمه صدقوا أو كذبوا في وعودهم. فإن صدقوا فهو مخرب، وإن كذبوا فهو مخرب. وويل للإنسانية من مصير يهجم عليه من فقد العقل والرجاء.
 
ومن الجائز أن يوجد بين الناس من يستبيحون تخريب العالم لأنهم محرومون فيه. ولكنها إذن حركة شر لا حركة خير، ولا فرق بين هذه الحركة، وبين حركة السباع التي تنطلق من الغابات في طلب الفريسة؛ فليست هي على هذا الاعتبار عقيدة إنسانية، أو مذهبًا من مذاهب الفكر التي تقنع بالدليل، وتقبل المناقشة بالبرهان. وإنما هي كارثة تمسخ الطبيعة الآدمية فترتد إلى ضراوة الوحشية، ولا تميز بين العمار والخراب.
 
وفي العصر الحاضر كثير من الشبان المتعلمين تروعهم حالة البؤس والفاقة التي يبتلى بها المحرومون، وهي حالة تروع النفوس الكريمة، وتحزن من يفكرون فيها، ولا يلام أحد على إنكارها، وطلب الخلاص منها، ولم يكن بلاء الحرمان فقط موضع خلاف بين طلاب الإصلاح، وإنما الخلاف في العلاج الذي يدعو إليه طلاب الهدم والخراب. فإذا كان العلاج سما فهو شر من الداء الذي يعانيه المريض. ومن الواجب على من ينكر المرض أن ينكر السم من باب أولى.
 
ما من أحد يقول إن المريض غير مريض، ولكن الذي يقولونه هو أن الطبيب غير طبيب، وأن الدواء الذي يصفه سم يميت، ولا يرجى منه شفاء، وفرق عظيم بين القولين.
 
على أن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وللحق علاماته وللباطل كذلك علاماته، وأبناء هذا الجيل -ممن أصابوا حظًّا من العلم- خليقون أن يعرفوا تلك العلامات من تجارب الإنسانية التي نسميها التاريخ، ومن بداهة الفكر التي يهتدي إليها الطبع السليم.

 

لا حق في هذا المذهب..

 
فلا حق ولا صلاح في مذهب يدعي علم الماضي كله، وعلم المستقبل كله، ويرسم لأبناء هذه الدنيا مستقبلًا لا ينحرفون عنه ولا يتصرفون فيه أو تصرفهم فيه نواميس الكون وطبائع الأمور. ولا حق ولا صلاح في مذهب يجعل الأطوار التاريخية جميعها مرهونة بالفوارق بين الناس في المال أو في إنتاج المال، وينسى تلك الفوارق التي لا عداد لها بين القوي والضعيف، وبين الذكي والغبي، وبين المجتهد والكسلان، وبين الطموح والقانع، وبين الجميل والقبيح، وبين المنجب والعقيم.

فإن كان هناك عقل يتوهم أن هذه الفوارق ملغاة معطلة في تاريخ الإنسانية، وأن الفارق الوحيد الذي يعمل في هذا التاريخ هو فارق الأجور وأسباب الإنتاج، فهو هو العقل المعطل أو العقل المضلل الذي لا يدرك طبائع البشر، ولا يصلح لهدايتهم إلى سبيل التقدم والفلاح.
 
ولا حق ولا رجاء في مذهب يقوم على اليأس والقنوط، ويأمر بالشر والعداء، ويوجه خطابه إلى أسوأ الأخلاق في أسوأ النفوس، مستعينًا بالحسد تارة وبالحقد تارة أخرى، وبالغرور والتواكل في جميع الأحوال.
 
ولا حق ولا إنصاف في مذهب يمحو مسئولية الفرد ويلقي المسئولية كلها فيما يعيبه على المجتمعات والأمم، بعد أن تقدم الفرد في طريق الحرية، وكاد أن ينحصر التقدم الإنساني في نتيجة واحدة: وهي المسئولية الفردية: مسئولية الإنسان الذي يحاسب بأخلاقه وأعماله، ولا يفرض فيه أنه في قبضة المجتمع آلة من الآلات.
 
ولا حق ولا تمييز في مذهب يطلق نوع الإنسان بعضه على بعض وحوشًا تتوثب على وحوش، مذهب يجهل نوع الإنسان أو يتجاهله تعصبًا لطبقة واحدة منه دون سائر الطبقات، كأنها هي وحدها التي تستحق صفة الإنسانية، وما عداها من غير بني الإنسان.
 

إشكالية الغنى والفقر

 

فليس الأغنياء كلهم بالشياطين الأشرار، وليس الفقراء كلهم بالملائكة الأخيار. وقد أساء الأغنياء قديمًا وحديثًا، ويسيئون غدا إلى غير نهاية، وأساء الفقراء قديمًا وحديثًا، ويسيئون غدًا إلى غير نهاية. فما كان الغنى كله إثمًا وإجرامًا، ولا كان الفقر كله طهرًا وبراءة. وقد استفادت الإنسانية من عمل الأغنياء كما استفادت من عمل الفقراء.

بل لولا الغنى الذي مكن لبعض الناس من إقامة الصروح الباذخة والتدثر بالملابس الفاخرة، واقتناء التحف الثمينة، لما وجدت هذه الصناعات التي يعيش منها ألوف العاملين في كل بقعة من بقاع العالم المعمور، ولولا مطالب الغني في الأزمنة الماضية لما سارت القوافل في القفار، ولا مخرت السفن المشحونة عباب البحار، ولا اهتم أحد برصد الأفلاك التي تهدي الراحلين في الملاحة والسياحة، ولا ارتقى فن البناء، أو فن النجارة، أو فن النسيج، وما إليها من هذه الفنون التي عم نفعها الغني والفقير والمالك والأجير.
 
وإن كاتب هذه السطور يبغض الشيوعية، وليس هو من الأغنياء، ولم يكن قط من الأغنياء ولن يكون يومًا من الأغنياء. ولكنه يرى أن الفقير الذي يحجب الحقيقة عن نظره بيديه يحرم نفسه نعمة الفهم، ويجمع خسارة العقل إلى خسارة المال. ومن ظن أن مذهبًا من المذاهب سيمحو عيوب الأغنياء، ويترك بني الإنسان مبرئين من العيوب فهو غافل راض عن الغفلة، ومثل هذا أجدر بالرثاء له من الجائع والمحروم.
 
كل أولئك المذاهب والدعوات بين الضلال والبطلان، ولا يستعصي على أحد أن يلمح علامات بطلانه إذا جرد نفسه من الهوى المفسد للشعور والتفكير؛ لأنه يعمي ويصم كما يقولون.
 
 

علامات المخربين وملامح الإصلاح

 

إنما يرجى صلاح الإنسانية من المذاهب التي تبشر بالتعاون والإخاء، لا من المذاهب التي تثير العداوة والبغضاء. إنما تتقدم الإنسانية بجميع أجزائها لا بجزء واحد منها نسميه باسم طبقة ما في كل عصر من العصور.
 
ومن علامات المخربين والهدامين أنهم يخدعون الناس بالأباطيل، ومن علامات الخداع بالأباطيل أن يقال لليائسين إنكم إن خربتم هذا العالم بما فيه من الفساد جاءكم عالم آخر كله صلاح وعدل وإنصاف.
 
فالحق الذي لا شك فيه أن الناس لن يستغنوا عن إصلاح جديد في كل عصر جديد؛ كأنهم الطفل الذي يودع نقص الطفولة ليعالج نقص الشباب، ويودع نقص الشباب ليعالج نقص الرجولة، ويترقى بذلك درجة بعد درجة في معارج الكمال.
 
وغاية الفرق بين الفرد والنوع الإنساني أن الفرد يشيخ، والنوع الإنساني لا يشيخ. وأولى الناس أن يؤمنوا بهذه الحقيقة هم أبناء الجيل الجديد. لأنهم شباب يرجى منه العمل لتخليد الشباب. وتلك دون غيرها هي العصمة من آفة الهدم؛ لأنها دعامة كل بناء

 


 

المصدر:

  1. عباس محمود العقاد، أفيون الشعوب، ص33
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عباس-العقاد #الدعوات-الهدامة
اقرأ أيضا
شخصية السامري | مرابط
فكر مقالات

شخصية السامري


لكن لماذا كذب السامري؟ وماذا كان يتوقع لكذبته؟ الحقيقة هذان السؤالان من أكثر ما يثير الدهشة في قصة السامري وكل سامري. أما عن السؤال الثاني وتوقعه لمستقبل كذبته فلربما ظن أن موسى لن يرجع من ميقات ربه ولن يكشف سذاجة كذبته بمنتهى السهولة بمجرد عودته ولربما كان يتوقع أن ينتصر له قومه الماديون حتى إن عاد نبيهم.. المشكلة فعلا في السؤال الأول: لماذا؟!

بقلم: محمد علي يوسف
483
حول بيع وشراء القطط | مرابط
مقالات

حول بيع وشراء القطط


انتشر بين المسلمين اليوم ظاهرة شراء وبيع القطط والحيوانات بشكل عام فما حكم ذلك شرعا؟ يجيبك الدكتور قاسم اكحيلات ويوضح لك مذهب الجمهور وتفصيلات المسألة والصواب فيها.

بقلم: قاسم اكحيلات
404
زكاة القلب | مرابط
مقالات

زكاة القلب


إن زكاة القلب موقوفة على طهارته كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة قال تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء والله سميع عليم النور: 21 وذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل على أن التزكى هو باجتناب ذلك وكذلك قوله تعالى فى الاستئذان على أهل البيوت: وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم النور: 28

بقلم: ابن القيم
684
عن الولاء والبراء | مرابط
اقتباسات وقطوف

عن الولاء والبراء


مقتطف لشيخ الإسلام من مجموع الفتاوى يتحدث عن الولاء والبراء ووجوب الموالاة في الله والمعاداة فيه كما أنه يقف على نقطة هامة وهي وجود الظلم هل هو حائل دون الولاء الحقيقة أن الظلم لا يمنع الولاء ولا يقطع الموالاة الإيمانية وهذا ما يناقشه شيخ الإسلام

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1373
دور الحملة الفرنسية | مرابط
تاريخ

دور الحملة الفرنسية


إذا طالعت الكتب الدراسية التي تقدم للتلاميذ والطلاب في بلادنا ووقفت على ذكر الحملة الفرنسية فيها فلا بد أن يمر عليك ما يطلق عليه مآثر الحملة الفرنسية أو ربما مساهمات الحملة الفرنسية في تحقيق التقدم والرخاء للمجتمع المصري أو انتشاله من ظلمات الضياع والجهل وغير ذلك من العبارات التي قد توصف بها المساهمة العظيمة للحملة الفرنسية في مصر وبالطبع ستجد حديثا طويلا حول المطابع العلمية التي جاء بها نابليون إلى بلادنا وكيف أفادتنا وحققت طفرة ونقلة ضخمة على المستوى العلمي لبلادنا وكذلك البعثة العلمية ال

بقلم: الأستاذ محمد قطب
3708
لا تكن إقصائيا | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

لا تكن إقصائيا


تعد لفظة الإقصاء من الألفاظ الذميمة في ثقافتنا المعاصرة فتراها تتوارد على الألسنة في سياقات متعددة وصياغات كثيرة تكشف عن نفور الناس منها وهي سياقات تشترك في التحذير من هذه الممارسة وذم أصحابها مع الدعوة إلى ما يقابلها من مفاهيم التسامح والانفتاح وسعة الصدر وتقبل الآخر وغيرها الإشكالية في هذه المقولة أنها تتسم بقدر عال من الإجمال يستدعي شيئا من التفتيش في تفاصيلها الداخلية

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2200