وظن أنه الفراق

وظن أنه الفراق | مرابط

الكاتب: د. جمال الباشا

394 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

لا يزال ذلك الحدثُ الغريبُ محفورًا في ذاكرة الطفل الذي في داخلي .. رجل صحيح مُعافى يخبر أهل بيته أنه سيموت بعد قليل، ويطلب منهم أن يضعوا له فراشًا باتجاه القبلة ثم يودَّعهم ويستلقى ليموت، فيموت بالفعل !!

 

ذاع صيتُ الرجل حتى قال الناس: يا تُرى ما الذي بينه وبين الله حتى يُعلمه بوقت موته،  لكنَّ الرجل لم يكن صالحًا ولم يكن من المصلين أصلا!!

 

ولما تكرَّر الحدثُ وتواترَ وشاهدناه في القريب والبعيد، وتبيَّن أنَّ استشعار قرب الموت لا فرق فيه بين المحسن والمسيء، بل يحصل حتى مع أهل الكفر والعناد، حينئذٍ كان لزامًا الرجوع إلى نبع العلم الزلال، والاسترشاد بدلالات الوحي إلى ما تطمئن إليه النفس، وتتروى به الروح.

 

يُمكننا تلخيص فكرة الموت بأنها خروج الروح من الجسد، وانفصالها عنه بعد التحام وامتزاج دام طوالَ العمر، حيث ابتدأت العلاقة في طور الجنين قبل الإدراك حينما جاء الملك بالروح من عالَم الذرِّ ونفخها في تلك المضغة اللحمية في رحم الأم، فالإنسان الحيُّ لا يعي حالة الروح المجرَّدة عن الجسد ولا يذكرها البتة.

 

إنَّ اللحظة الأولى في النزع تبدأ بحلحلةٍ تدريجيةٍ لذلك الرباط الوثيق بين الروح والجسد، فيشعر المرءُ حينئذٍ بشعورٍ لا يشبهه أيُّ شعورٍ آخر من قبل، لقد جرَّب أنواعًا كثيرةً من الآلام في رحلة حياته الطويلة، وكان فيما مضى يستطيع أن يحدِّد موضع الألم من جسده، لكنَّ الألم هذه المرة مختلف، لا من حيث شدَّتُه فحسب ولكن من حيث نوعُه وكُنهه، فهو بنكهةٍ غير مسبوقة يُمكن تذوقُّها بوضوح ..

 

(كلُّ نفس ذائقة الموت) فالموت له مذاق خاص يبدأ يسري في البدن لحظةَ فك الارتباط، يُدرك معها الحيُّ يقينًا أنه سيموت، ولكن لا يجدُ وعاءٌ لغويًا يُمكنه أن يصف به ذلك الشعور الغريب الذي يعرفه الأموات فقط، إنه مذاق جديد فحسب ..  كما لو أنك طَعِمت طعامًا من عالمٍ آخر لا يخضع لأنواع المذاقات الحصرية الأربعة الموجودة في الأطعمة، فكيف يمكنك وصفُه للآخرين؟!!

 

وفي هداية القرآن شفاء لما في الصدور والعقول .. (حتى إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظنَّ أنه الفراق)

 

كلمة ظنَّ: من ألفاظ الأضداد التي تفيد المعنى وضده، فهي تفيد معنى التردد أحيانًا، وتفيد معنى اليقين غالبًا، وهي في هذا الموضع تفيد التيقن والجزم بلا خلاف.
أي أنَّ العبد في حال النزع، وانشغال المحبين ببذل الممكن لإسعافه بالطب والرقية، يتيقَّن أنه الفراق!!

 

وما الفراق؟ إنه فراقُ روحه لجسده، ولازمُه مفارقةُ الحياة إلى الموت، ومفارقة الدنيا إلى الآخرة، ومفارقة الأحياء إلى الأموات. إنَّ كلمة "النزع" تفيد معنى الخلع، فالمحتضر يقوم بخلع قميص البدن حتى تبقى الروح عاريةً بلا بدن، وهناك قُمُصٌ أخرى سوف يخرج عنها، منها قانون الزمان والمكان "الزمكان".

 

وكلما تخفَّف من شيء من أثقال البدن في عالم الشهادة انكشف عنه من غطاء عالَم الغيب بحسبه، فيبدأ بمعاينة الملائكة ثم ملك الموت، ومعاينة مقعده في الجنة أو النار، حتى ينكشف عنه غطاؤه كله بخروجه كله.

 

كلُّ محتضر يمرُّ بهذه الحالة، ويوقن أنه ميتٌ لا محالة منذ الوهلة الأولى للنزع، ولكن قد يضيقُ بالمحتضِر الوقتُ فلا يقدر على النطق، وقد يتسع فيكون قادرًا على الكلام لكنه عاجز عن الوصف، فيُبادر الموفَّقون إلى ذكر الله والثناء عليه واسترحامه والنطق بالشهادة لتكون آخرَ كلامهم من الدنيا، وأما المخذولون فيقولون لربهم بحسرة وندامة: ارجعنا نعمل صالحًا "إنا موقنون" ولاتَ ساعةَ مندَم.

 

وبعد تذوُّق الأموات للموت وتعرفِّهم على حقيقته لم يعُد يخفى عليهم حاله بعد اليوم ولو ارتدى كلَّ قميصٍ وتصوَّر بأيِّ صورة .. فيؤتى به يومَ القيامة وقد تجسَّد بصورة كبشٍ أملح، فيُسأل عنه الجميع: هل تعرفون هذا؟

 

فيجيبون بلا تلعثُم: ومَن منا لا يعرفه؟ إنه الموت. وهذه المرة سيُذبَح الموتُ إيذانًا برحلة الخلود في السعادة الأبدية أو الشقاوة الأبدية، حينها سيكون تعلُّق الأرواح بالأبدان تعلقًا خاصًّا لا يقبل الانفكاك إلا أن يشاء الله.

 

اللهم اجعل خير أيامنا يوم لقائك، وأسعد ساعتنا ساعةَ نظنُّ أنه الفراق.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الموت
اقرأ أيضا
كيف نبر الوالدين بعد الممات | مرابط
تفريغات

كيف نبر الوالدين بعد الممات


أحوج ما يكون الوالدان إلى بر ابنهما إذا خرجا من الدنيا فصارا إلى دار البلاء فما أحوجهما إلى دعوة صالحة أو استغفارة أو رحمة صادقة يرفع بها الابن كفه إلى الله تبارك وتعالى قال: يا رسول الله هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما

بقلم: محمد مختار الشنقيطي
513
القرآن والعلم | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

القرآن والعلم


تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم فلا تزال بين ناقص يتم وغامض يتضح وموزع يتجمع وخطأ يقترب من الصواب فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة

بقلم: عباس محمود العقاد
2412
موقف الإسلام من الانفعالات: نموذج الغضب | مرابط
تفريغات

موقف الإسلام من الانفعالات: نموذج الغضب


نأتي إلى مثال واضح جدا يبين لنا موقف الإسلام من بعض الانفعالات وهو أحد الانفعالات التي تكون في النفس البشرية ألا وهو انفعال الغضب لنبين من خلال هذا الشعور والانفعال الذي يحدث في النفس ما موقف الإسلام من هذه الانفعالات وكيف يندفع المسلم لضبط انفعاله بضابط الشرع.

بقلم: محمد صالح المنجد
566
الحضارة المتبرجة | مرابط
فكر مقالات

الحضارة المتبرجة


ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية ولولا هذه الشهوات التي انطلقت تشرف من مسكرات الفن المتبرج ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدما مستعبدا مستأثرا باغيا ولما تعاندت القوة الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم وذلك في مدى خمسة وعشرين عاما لم يستجمع العالم خلالها قوته ولم يتألف ما تفرق إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرق

بقلم: محمود شاكر
2084
حجاب المرأة ولباسها في الإسلام | مرابط
فكر مقالات المرأة

حجاب المرأة ولباسها في الإسلام


لا يختلف العلماء في جميع المذاهب: أن المرأة يجب عليها ألا تلبس لباسا ملتصقا يصف جسمها ولا أن تلبس شفافا يبدي لون أو هيئة ما يجب عليها ستره من بدنها وهن المقصودات بقوله صلى الله عليه وسلم في أحد الصنفين من أهل النار: نساء كاسيات عاريات يعني: لا هي كاسية ولا هي عارية لشفوف لباسها ووصفه وفي المسند عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال: ما لك لم تلبس القبطية

بقلم: عبد العزيز الطريفي
810
حقيقة الصوم | مرابط
اقتباسات وقطوف

حقيقة الصوم


وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون

بقلم: ابن القيم
346