وظن أنه الفراق

وظن أنه الفراق | مرابط

الكاتب: د. جمال الباشا

333 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

لا يزال ذلك الحدثُ الغريبُ محفورًا في ذاكرة الطفل الذي في داخلي .. رجل صحيح مُعافى يخبر أهل بيته أنه سيموت بعد قليل، ويطلب منهم أن يضعوا له فراشًا باتجاه القبلة ثم يودَّعهم ويستلقى ليموت، فيموت بالفعل !!

 

ذاع صيتُ الرجل حتى قال الناس: يا تُرى ما الذي بينه وبين الله حتى يُعلمه بوقت موته،  لكنَّ الرجل لم يكن صالحًا ولم يكن من المصلين أصلا!!

 

ولما تكرَّر الحدثُ وتواترَ وشاهدناه في القريب والبعيد، وتبيَّن أنَّ استشعار قرب الموت لا فرق فيه بين المحسن والمسيء، بل يحصل حتى مع أهل الكفر والعناد، حينئذٍ كان لزامًا الرجوع إلى نبع العلم الزلال، والاسترشاد بدلالات الوحي إلى ما تطمئن إليه النفس، وتتروى به الروح.

 

يُمكننا تلخيص فكرة الموت بأنها خروج الروح من الجسد، وانفصالها عنه بعد التحام وامتزاج دام طوالَ العمر، حيث ابتدأت العلاقة في طور الجنين قبل الإدراك حينما جاء الملك بالروح من عالَم الذرِّ ونفخها في تلك المضغة اللحمية في رحم الأم، فالإنسان الحيُّ لا يعي حالة الروح المجرَّدة عن الجسد ولا يذكرها البتة.

 

إنَّ اللحظة الأولى في النزع تبدأ بحلحلةٍ تدريجيةٍ لذلك الرباط الوثيق بين الروح والجسد، فيشعر المرءُ حينئذٍ بشعورٍ لا يشبهه أيُّ شعورٍ آخر من قبل، لقد جرَّب أنواعًا كثيرةً من الآلام في رحلة حياته الطويلة، وكان فيما مضى يستطيع أن يحدِّد موضع الألم من جسده، لكنَّ الألم هذه المرة مختلف، لا من حيث شدَّتُه فحسب ولكن من حيث نوعُه وكُنهه، فهو بنكهةٍ غير مسبوقة يُمكن تذوقُّها بوضوح ..

 

(كلُّ نفس ذائقة الموت) فالموت له مذاق خاص يبدأ يسري في البدن لحظةَ فك الارتباط، يُدرك معها الحيُّ يقينًا أنه سيموت، ولكن لا يجدُ وعاءٌ لغويًا يُمكنه أن يصف به ذلك الشعور الغريب الذي يعرفه الأموات فقط، إنه مذاق جديد فحسب ..  كما لو أنك طَعِمت طعامًا من عالمٍ آخر لا يخضع لأنواع المذاقات الحصرية الأربعة الموجودة في الأطعمة، فكيف يمكنك وصفُه للآخرين؟!!

 

وفي هداية القرآن شفاء لما في الصدور والعقول .. (حتى إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظنَّ أنه الفراق)

 

كلمة ظنَّ: من ألفاظ الأضداد التي تفيد المعنى وضده، فهي تفيد معنى التردد أحيانًا، وتفيد معنى اليقين غالبًا، وهي في هذا الموضع تفيد التيقن والجزم بلا خلاف.
أي أنَّ العبد في حال النزع، وانشغال المحبين ببذل الممكن لإسعافه بالطب والرقية، يتيقَّن أنه الفراق!!

 

وما الفراق؟ إنه فراقُ روحه لجسده، ولازمُه مفارقةُ الحياة إلى الموت، ومفارقة الدنيا إلى الآخرة، ومفارقة الأحياء إلى الأموات. إنَّ كلمة "النزع" تفيد معنى الخلع، فالمحتضر يقوم بخلع قميص البدن حتى تبقى الروح عاريةً بلا بدن، وهناك قُمُصٌ أخرى سوف يخرج عنها، منها قانون الزمان والمكان "الزمكان".

 

وكلما تخفَّف من شيء من أثقال البدن في عالم الشهادة انكشف عنه من غطاء عالَم الغيب بحسبه، فيبدأ بمعاينة الملائكة ثم ملك الموت، ومعاينة مقعده في الجنة أو النار، حتى ينكشف عنه غطاؤه كله بخروجه كله.

 

كلُّ محتضر يمرُّ بهذه الحالة، ويوقن أنه ميتٌ لا محالة منذ الوهلة الأولى للنزع، ولكن قد يضيقُ بالمحتضِر الوقتُ فلا يقدر على النطق، وقد يتسع فيكون قادرًا على الكلام لكنه عاجز عن الوصف، فيُبادر الموفَّقون إلى ذكر الله والثناء عليه واسترحامه والنطق بالشهادة لتكون آخرَ كلامهم من الدنيا، وأما المخذولون فيقولون لربهم بحسرة وندامة: ارجعنا نعمل صالحًا "إنا موقنون" ولاتَ ساعةَ مندَم.

 

وبعد تذوُّق الأموات للموت وتعرفِّهم على حقيقته لم يعُد يخفى عليهم حاله بعد اليوم ولو ارتدى كلَّ قميصٍ وتصوَّر بأيِّ صورة .. فيؤتى به يومَ القيامة وقد تجسَّد بصورة كبشٍ أملح، فيُسأل عنه الجميع: هل تعرفون هذا؟

 

فيجيبون بلا تلعثُم: ومَن منا لا يعرفه؟ إنه الموت. وهذه المرة سيُذبَح الموتُ إيذانًا برحلة الخلود في السعادة الأبدية أو الشقاوة الأبدية، حينها سيكون تعلُّق الأرواح بالأبدان تعلقًا خاصًّا لا يقبل الانفكاك إلا أن يشاء الله.

 

اللهم اجعل خير أيامنا يوم لقائك، وأسعد ساعتنا ساعةَ نظنُّ أنه الفراق.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الموت
اقرأ أيضا
اللغة الشاعرة هي اللغة العربية. | مرابط
لسانيات

اللغة الشاعرة هي اللغة العربية.


وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد كما يحدث في الباء الخفيفة والباء الثقيلة التي يميزونها بثلاث نقط من تحتها بدلا من النقطة الواحدة أو كما يحدث في الفاء ذات النقطة الواحدة والفاء ذات النقط الثلاث v أو كما يحدث في الجيم المعطشة وغيرها.

بقلم: عباس محمود العقاد
448
فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج2


ادعى الدكتور عدنان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه بقدمه في محاشه أي عورته حتى كان عمار لا يحتبس بوله واستدل على ذلك بما رواه ابن شيبة في تاريخ المدينة الجزء الثالث وطبعا نعلم جميعا ما لدى الدكتور عدنان من خلط وحقد يمرره بشكل ناعم في حلقاته وفي هذا المقال يناقش أبو عمر الباحث هذه الشبهة ويرد عليها

بقلم: أبو عمر الباحث
1623
تتبع زلات العلماء | مرابط
مقالات

تتبع زلات العلماء


من قصص الانتكاسات التي قد نسمعها في المرحلة القادمة -مع الأسف-: قصص الشباب الذين انشغلوا في بداية طريقهم العلمي بتتبع زلات العلماء والدعاة والطعن فيهم إذ إن نهاية هذا الطريق واضحة وعاقبته على القلب والروح معلومة بينة. وإني والله لأشفق على الشاب الذي يرى الطريق الصحيح المستقيم الموصل إلى الله أمامه ثم يصر على ركوب الطريق الوعر الموحش بل ويهزأ بمن يدعوه إلى هذا الطريق والله المستعان.

بقلم: أحمد يوسف السيد
554
أساليب الخطاب في القرآن الكريم | مرابط
تفريغات

أساليب الخطاب في القرآن الكريم


وهذا الزمان الذي كثرت فيه الأخطاء ووقعت فيه المصائب على الأمة تعالوا ننظر إلى لغة الحوار والخطاب من الدعاة إلى المدعوين ومن العلماء إلى من يعلمون ومن المدرسين إلى تلامذتهم ومن الأزواج إلى زوجاتهم ومن الآباء إلى أبنائهم نعلم أن هناك أخطاء كثيرة وجسيمة ولكن هل هذا الزمان زمان التقريع وعد الأخطاء وجلد الظهور بالسياط وإبراز هذه المشاكل الضخمة بصورة قد تقعد صاحبها عن الحركة وعن العمل وعن إعادة الإصلاح من جديد أم زمن مد اليد وبث الأمل والتفاؤل في النفوس وإعطاء الأمة فرصة جديدة للقيام وهي لا شك ست

بقلم: د راغب السرجاني
654
حجج من كذبوا الرسل | مرابط
اقتباسات وقطوف

حجج من كذبوا الرسل


عامة من كذبوا الرسل لم يقدموا حججا حقيقية يقبلها العقل أو يتصورها وإنما كانت تحيط بهم الشهوات والأهواء والتي لا تستقيم مع الاستجابة لدعوات الرسل ومن هنا بدأت المناجزة وجرتهم شهواتهم إلى طريق عداوة الدين وأهله وهذا مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب الإيمان يدور حول هذا الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1958
كيف تتفاضل الأعمال؟ | مرابط
مقالات

كيف تتفاضل الأعمال؟


إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

بقلم: ابن القيم
221